يطرح سؤال استئناف مشروع النهضة العربية التي امتدت حركتها حتى أواسط القرن المنصرم الكثير من الأسئلة المتولدة في مسار العمل للتغلب على حالة التخبط والضعف العربي، وهي الأسئلة الأشدتفهما اليوم لمقتضيات الحداثة والمشاركة في المسار الحضاري الكوني.
في هذا السياق، يبرز مصطلح "الليبرالية" كأحد أهم المفاهيم الحداثية والنهضوية في المجال التداولي العربي، وعلى ما يشكله هذا المفهوم من أهمية في هذا المجال؛ إلا انه مازال أقل من الطموح باصطدامه بالكثير من المعوقات والاشكالات التي أبقته منحصرا في إطار نخبوي معين قاصرا عن تعميمه في وعي المجتمعات العربية في وقت يسود فيه منطق الحركات السلفية وخطاب الصحوة الإسلامية، فلماذا تراجعت الليبرالية في الوطن العربي والعالم؟ ولماذا أصبحت منكمشة على ذاتها غير قابلة للتمدد في وعي الجماهير العربية؟ وكيف يمكن تشخيص أمراضها، وأين يكمن سر علاجها حتى تكون فكرة عالمية يمكن تطبيقها في كل المجتمعات؟
يناقش الكاتب والمفكر الليبرالي المعروف ناصيف نصار هذه الأسئلة وغيرها في كتابه "باب الحرية"(دار الطليعة – بيروت) في قراءة ابستمولوجية، منطلقا نحو صياغة نقدية بنيوية جديدة، وترتيب جديد، وهندسة جديدة لليبرالية من منظور كوني وإنساني بالدرجة الأولى، ومن خلال ما تشكله العولمة من تحديات على الصعيد العربي، متمحورا في ذلك على عمودها الفقري ومبدأها العام"الحرية". فهل يدعو ناصيف نصارا إلى قطيعة ابستمولوجية كاملة مع التراث الليبرالي في هذه القراءة الجديدة لليبرالية؟
لا يبدو ذلك ونصار يصر على تاريخية الليبرالية وترابطها ماضيا وحاضرا، ولا يبدو ذلك وهو يرى أن الليبرالية ما زالت تشكل الجزء الذي لا يتجزأ من تراث البشرية الذي لايمكن بحال التفكير في الحرية ولو بصورة نقدية إلا بالنسبة إليها إن لم يكن انطلاقا منها، فالذي يريده نصار ليبرالية متواصلة مع تراثها لكنها مجردة في الحاضر عما التصق بها من لوثات وانحرافات في مراحل تطورها المختلفة، أو بمعنى آخر العودة إلى المبدأ العام الذي انطلقت منه وهو: إنعاش الجانب الإنساني الذي يكرس حرية الأفراد والجماعات فيها؛ حتى يتسنى لها الذوبان في المجتمعات الرافضة لها.
وعلى هذا الأساس، يرى نصار، أن إعادة بناء حقل الحرية في ضوء مستجدات العولمة وتفاعل المواقع وتوازن المبادئ والقيم، لا يستلزم القطيعة الكاملة مع التراث الليبرالي بل التواصل النقدي معه، ما يعني أن هذه القطيعة تكمن من حيث المبدأ على الأقل -في نقاط معينة- حيث تهيمن الليبرالية على عملية بناء المجتمع الحديث، والتي لم تخل في بعض مراحل تطورها من الاضطراب والقسوة، ليس اقله دلالة شعار "ما بعد الحداثة " وهو الشعار الذي يعني القطيعة الكاملة مع الليبرالية التي اتخذت شكل تشكيك وتباعد مع ما بني عليه المجتمع الغربي مع بقائه وفيا لمبدأ الفرد المستقل.
اذا كان استخدام تاريخ الفلسفة ضروريا لإعادة بناء حقل الحرية، فيرى نصار، أن الحاضر ليس في تاريخ هذه الفلسفة بل في مشكلة الحرية نفسها والوضع التاريخي الذي يحيط بهذه المشكلة بالنسبة لمجتمعنا المعاصر. ومجتمعنا المعاصر ليس فقط ما تعنيه مجموع المجتمعات الرأسمالية المتقدمة التي تمسك بزمام المبادرات الكبرى في جميع الميادين بسبب تقدمها الاقتصادي، لأن الحرية تعني في واقعنا جميع المجتمعات في عالمنا المتعولم، ولذلك لا يجب التموقع في عملية إعادة بناء حقل الحرية في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة حصرا، ولا يعني أن الحداثة هي الحداثة الأوروبية التي أصبحت تعني الحداثة كلها، أو أن التقليد الأميركي في المجال الليبرالي هو النموذج الواجب اقتباسه واستلهامه، فهذه الأفكار يجب أن تخضع كلها للفحص والنقد من جديد.
ومع أن الكاتب يوجه نقدا لاذعا "لآفة الفردانية" كمفهوم مطلق وعمومي في الفكر الليبرالي الحديث؛ إلا أن النقد الذي يمارسه هذا الكتاب لا يقطع الصلة مع مبدأ إشكالية الفرد بقدر ما يدعو إلى التأويل الفرداني للعلاقة بين الفرد والمجتمع، ولا يتردد في جعل الانتماء والتكامل على اختلاف اشكالهما سمتين رئيستين لصياغة العلاقة التي تؤكد الحرية بلا مشروطية في الوجود الكوني والإنساني التي تعمل على إزالة أسباب التنافر بين العدل وبين العقل والسلطة..، والتشديد على أن المجتمع الليبرالي لا يسعه التخلي عن مبدأ المصلحة العامة للبشرية أو ما يؤطره نصار في رؤية جديدة حول مبدأ الحرية وقيمتها وهو ما يسميه الليبرالية "التكاملية" أو "التكافلية" وهي الرؤية التي تكرس القطيعة الكاملة مع ما لحق بالليبرالية من انحرافات عن المسار الصحيح لمبدئها العام في الحريات.
إن الليبرالية التكافلية التي يدعو إليها نصار تجعل التاريخ الحديث والمعاصر للشعوب العربية قابلا للقراءة وإضفاء المعنى على حوادثه من دون إسقاط البنى التقليدية والحركات السلفية من الحساب، من خلال ما يمكن تسميته وصفيا مشروع "التحديث الشامل" الذي يعالج مرحلة الازمة الحضارية الراهنة عامة، وهو ما يعني مواصلة واستئناف مشروع التحديث العربي في صورة جديدة "نهضة ثانية" تنقل هذا المشروع إلى مرحلة أقوى وأمتن وأنضج من مرحلة النهضة الأولى، تقوم في جوهرها على إعادة البناء في عملية إنشائية وإبداعية تحرر مشروع هذه النهضة من فكرة النموذج، ويتجاوز ثنائية التراث والمعاصرة التي أدت إلى إلغاء الذات المريدة والفاعلة سواء كانت فردية أو جماعية، فلا يتم التخلص من حالة الأزمة الراهنة التي تكرس للتناقض بين التراث والمعاصرة إلا بتجاوزها وتلبية جميع القوى المنتجة بكيفية تضمن تحطيم الأقنعة والقناعات الزائفة.
يلفت نصار،أيضا، إلى أن إعادة بناء الليبرالية على الفهم"التكافلي" يجب أن نتحول فيه من خائفين من الحرية كما هو في الممارسة –السلطوية- العربية إلى خائفين على الحرية كما في الفهم الغربي لها في دائرته الخاصة.
ينتهي نصار، إلى أن المجتمع الليبرالي لكي يبقى مجتمعا قابلا للحياة والتقدم؛ يحتاج إلى تنظيم عمليات التواصل الفكري بين أفراده، والى إقامة آليات للغربلة الفكرية إفساحا لظهور الحقائق والاتفاق على المشترك منها واقترانها بما يناسبها من المؤسسات، وهي الحقائق الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية التي تعرض وجوها جديدة في إطار العولمة المتصاعدة التي تقتضي إعادة بناء الليبرالية الرافضة "للدوغمائية العقائدية" و"الدوغمائية العقلانية" وتكرس لإقامة علاقة سليمة بين الحرية وبين أركانها وبخاصة العقل، والعدل، والسلطة، مع توافر رؤية صحيحة إلى أنواع الاختلالات والانحرافات بما يضيف الاقتران في الحرية والفكر في عملية مفتوحة على التحول والتساؤل؛ لتصبح الليبرالية عندئذ ليبرالية عاقلة، أو حالمة، أو مؤمنة.