العراقي اليوم يبحث عمن يداوي جرحه حتى وان كان بالمهدئات، ولكن منْ سيداوي جرحه بالعلاج الشافي؟ إنه دور النخب السياسية والثقافية الوطنية.
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. قد تصح مثل هذه المقولة على غير الجياع وممن هم بحاجة إلى مزايا جميع حلقات حقوق الإنسان وفي مقدمتها الحرية والمعرفة. ولكن في العراق بعد فتح جسمه بالاحتلال أصبحت جميع هذه الحاجات والمزايا وأضدادها تتصارع على أسنة رماحها القبائل والطوائف من أجل سلطة حكم ظلت عبر تاريخ بلاد الرافدين لا تقبض ولا تسلّم إلا بالدماء.. فكيف باحتلال عسكري غاشم سلم راية الديمقراطية الجديدة لرموز الطوائفية السياسية وجحافلها التي انتشرت بطريقة فايروسية فتاكة.
كانت شعارات "الديمقراطية الخرساء "بطاقتها الخضراء للمرور نحو مشروعية السلطة والنفوذ والتحكم بحاضر ومصير العراق بعد قطع تاريخه وفق معايير متخلفة متطرفة لا تمت بالحاضر والمدنية بصلة، بل وفق أساليب أقرب إلى النازية، ولعل الطائفية وفق سجلها المخزي في العراق لا تختلف عن النازية، وإذا كان هناك من منصفين لقضية العدالة الإنسانية في الأمم المتحدة والجامعة العربية عليهم وضع جرائم الطائفية في العالم والمنطقة والعراق اليوم في موقع جرائم النازية، وأن يكون تحريمها عالمياً لحماية دول وأوطان تتعرض إليها حالياً وفي مقدمتها بلداننا العربية خصوصاً في الخليج العربي. وهذه ليست تهمة تطلق جزافاً بل هي من الحقائق المريرة التي زرعها ورعاها الاحتلال وستظل مخاطرها تنهش بهذا البلد لعقود مقبلة.
قد يبدو المواطن العراقي غير معني اليوم بالكلام النظري الجميل حيث تعصره الظروف الحياتية القاسية حتى وان أفاق للحظات على صمت مؤقت من حمى القتل الجماعي إلى قتل هادئ مدبر لكل من يحمل في رأسه خزان المعرفة والمدنية وتراثها تراكم عبر عمر الدولة العراقية التي أسست مرتكزات الدولة الوطنية الحديثة. وكانت في مرحلة من النضوج والتلاقي مع معطيات العصر الديمقراطي والمدني بعد أن كانت بحاجة إلى طفرة قوية تتخلص من خلالها من الاستبداد والفردية والدكتاتورية السياسية وليس إلى عودة لظلام التخلف والجاهلية الطوائفية. فالعراقي اليوم يبحث عمن يداوي جرحه حتى وان كان بالمهدئات، ولكن من سيداوي جرحه بالعلاج الشافي.. هذا هو دور النخب السياسية والثقافية الوطنية.
ومع قساوة المرحلة وظروف طوفان العنف والصراع الذي كاد يلقي بالعراق في مهاوي الحرب الأهلية لولا عقلائه ومن ما زالوا يحتفظون بالحد الأدني من مقومات الصمود بوجه الفساد والحزبية الضيقة. ومع تصاعد مشهد الصراع السياسي الذي يفسره البعض بأنه سيقود إلى أرقام لنتائج لا تغير من كارثة الأزمة حتي وإن غيرت من حدة بعض زوايا شكلها الخارجي، ولكن لا بد من تفسير وتنبيه عاجل لمعطيات المرحلة بعد ست سنوات من الاحتلال من زاوية تأثير العقل السياسي على الأحداث والوقائع سواء من يتحمل مسؤولية إدارة تنفيذ المخطط الكارثي أو من تمكن الصمود بوجه الانهيار وحاول التنبيه إلى مخاطره الجسيمة.
الاستبداد والفردية
ذلك إن المشهد السياسي الحالي في العراق يسير وفق إرشاد من قيادات سياسية محلية غالباً ما فقدت استقلاليتها عن الكونترول الإقليمي والدولي خصوصاً في قرارات المصير الكبرى. وكوادر دخلت العمل السياسي وحرفتها الحقيقية المبدعة هي القتل والسرقة ونهب الثروات والممتلكات العامة والخاصة. ولا تكفي الأوصاف الخارجية لمراكز وجذور تلك النخب أو ولاءاتها الفكرية والايديولوجية لتقويم الحالة حيث تبدو تلك الأوصاف لحد اللحظة غامضة ومتشابكة ما بين الفئوي الطائفي والعشائري الرافض للطائفية والليبرالي العلماني الذي لم تتبلور بعد معالمه الراسخة في ضمير الناس وهم بأمس الحاجة إليه.. فما زلنا في فترة ومناخ نفسي جمعي لم يفق لحد اللحظة من هول صدمة الاحتلال وجرائمه وإرهاب معاونيه وحلفائه وشبكات تنظيم القاعدة والمليشيات الارهابية.
إن بلداً مثل العراق خضع كما غيره من بلدان العرب لمرحلة وصفت بالنهضة القومية العروبية ذات زعامات البطولة الفردية التي كانت في لحظة من لحظات الصراع مع المحتل الاستعماري تشكل ملاذاً للضمير الجمعي العربي العام والمحلي القطري، كان على العراق بعد النكسات القومية أن يستجيب لمتطلبات الظروف الدولية ويتكيف مع معطياتها ويستثمر ابناؤه ونخبه السياسية والثقافية لحظة الاندفاع نحو الديمقراطية واقتصاد السوق التي سادت، لا أن يتشبث حكامه بطقوس الماضي والتقوقع نحو الذات والبطولة السالبة التي قادت نحو الاستبداد والفردية التي اوصلت إلى حالة العزلة القاتلة، مما مكن قوى كبرى بزعامة الولايات المتحدة وعبر لوبي اليمين الجديد أن تستثمر الفرصة عبر مشروع الغزو العسكري، وتنقض على جميع مكتسبات الانسان العراقي لأكثر من الفي عام ولقرن سياسي حافل، وتسرق بعضها وتحرق البعض الآخر وترميها مع "قمامة المزابل" تحقيراً وإذلالاً لهذا الانسان الذي خدم الانسانية، وتقتل أو تشرد روادها وحاملي رايتها، وتلحق أهل البلاد بكهوف الظلام والكارثة. وهناك من يوصف الحالة بأنها عودة لمراحل الانكسار والسقوط التي تعرض لها العراق على أيدي الفرس والعثمانيين والبريطانيين، ولهذا يبدو الحديث من وجهة نظر هؤلاء عن النهوض والتماسك الوطني ضرباً من الخيال والعجالة. فهي بحاجة إلى عقود طويلة بل قرون مقبلة. لكنني رغم سوداوية المشهد أري بأن ما تعيشه النخب الفكرية والسياسية العراقية غير الغارقة بعمق في تنفيذ المشروع الطائفي الخارجي في العراق، وهي قد توزعت في الأيام الأولي من الاحتلال داخل بلوكات قسم منها حسب على الأمريكان في العموم الثقافي الليبرالي والقسم الآخر على أحزاب الاسلام السياسي والقسم الثالث ظل يمثل الخط الوطني المستقل بتياراته القومية واليسارية.
العزل السياسي
وهذه جميعها قادرة اليوم بعد هذه الفترة القصيرة التي يمكن من خلالها الفرز في المعطيات العامة، على خلق نوع من الاصطفاف الأولي والمراجعة الجادة وبلورة نوع من الحراك النهضوي المضاد للطائفية أولاً، وقد يدعم ذلك بامكانيات لوجستية جديدة توفرها حالة الفشل الذي أصاب زعامات المد الطائفي، ليس من أجل تحقيق مكاسب سياسية داخل أروقة النظام السياسي العراقي على أهميته، وإنما في عملية نهضوية جمعية على مستوn الشارع العراقي الذي ضاق ذرعاً بكل الممارسات الاجرامية ضد أبناء العراق. بعد ان يتم تحقيق مجموعة من العناصر ومرتكزات العمل السياسي من بينها الاهتمام بمعادلة الفصل ما بين الاقليمي والدولي وما بين المحلي الوطني.
فليس مهماً قوة الشعارات المرفوعة من جحافل الكتل والاحزاب الجديدة وجاذبيتها في محاربة الفساد أو العمل من أجل تحقيق الخدمات وحماية الوحدة الوطنية العراقية، وذلك في سعي مشروع لتحقيق كسب جماهيري سريع ورغبة جامحة من قبل تلك الكتل لدخول مرافق السلطة والحكم في البرلمان أو الحكومة.. ولكن الهدف الاستراتيجي الكبير هو في قدرة تلك القوة السياسية بمختلف اتجاهاتها وتنوعاتها على التصدي للخطر الأكبر وهو "الطائفية" ترك آثاره المؤذية خلال الأيام الماضية، ليس كشعار عمومي حسب وانما كممارسة وثقافة عممت على المواطن الموجوع بالمحنة. إن فرزاً قوياً يمكن ان يتحقق حالياً على منصة شوط الانتخابات بين من يسعي للعمل الوطني المخلص وبين الطامع المجرب لنهب الكنوز أو من يتدرب على فنون وأنماط جديدة من النهب لا تطالها عوامل الكشف البسيطة المقبلة.
ولا بد ان يكون الشعار العمومي في الشارع والجامعة والمدرسة والتلفزيون والصحافة هو الحرب على "الطائفية" والدعوة إلى تحريم تعاطيها.. أي أن تتحول محاربة الطائفية ورموزها إلى ثقافة واعلام عراقي شعبي واسع تقوده النخب العراقية من جميع المكونات الاجتماعية. من هنا يحتاج مناهضو الطائفية إلى بناء عهد وميثاق وطني يمكن أن يتبلور عبر مؤتمر أو اجتماع عام تتبناه مجموعة من النخب السياسية والثقافية ومن بينها التي تعلوا منابر شوط الانتخابات هذه الأيام. قبل ذلك علينا بناء رأي عام شعبي واسع لمناهضة الطائفية ورموزها وثقافتها. وفي تقديري المتواضع تشكل هذه الخطوة الشعبية المفتاح الحقيقي أمام طريق العمل من أجل تحقيق المكاسب الانسانية في الخدمات. بعد ان تحقق العزل السياسي النهائي للمشروع الطوائفي وهجرة الناس له حيث ترك الأذى والخراب على جميع مكونات الشعب العراقي.
إن الطريق العملي لتحويل هذه المبادرة إلى مشروع عام هو تشكيل لجنة عمل من المثقفين والسياسيين العراقي تدعو إلى تحقيق هذا الميثاق الوطني، وانا ادعو جميع مسؤولي ورموز الكتل الوطنية العراقية والعشائرية إلى التجاوب مع هذه المبادرة الوطنية، رغم انشغالهم في قضية احصاء الأصوات والمناطق، وكذلك مثقفي العراق واعلامييه إلى مناقشتها وبلورتها عبر وسائل الاعلام والصحافة.