شهد شهر يونيو ٢٠٠٧ انفجارات واسعة النطاق لعدة صراعات، كانت خامدة، أو ممتدة ولكنها تحت السيطرة، وكان بعضها جديداً، بلا مقدمات ظاهرة. ولأن شهر يونيو كان مناسبة الذكري الأربعين لأكبر هزائم العرب عام ١٩٦٧، فقد راعني ما يحدث في يونيو ٢٠٠٧، وتذكرت إحدي مقولات المؤرخ العربي الكبير قسطنطين زريق، الذي نبّه في بداية حياته العامة لأول نكبة حاقت بالعرب عام ١٩٤٨، مع هزيمتهم وضياع فلسطين، علي يد الكيان الصهيوني الوليد الذي سمي نفسه إسرائيل. كان عنوان كتاب قسطنطين زريق الأول عام ١٩٤٨ هو «دروس النكبة».
ولم يستمع للرجل أحد من القيادات العربية البارزة طوال السنوات العشرين التالية لصدور الكتاب، حتي وقعت هزيمة ١٩٦٧، وكانت أقسي علي العرب من هزيمتهم الأولي. فكتب قسطنطين زريق كتاباً جديداً بالعنوان السابق نفسه تقريباً، وهو «دروس النكبة مجدداً». ومرة أخري لم يقرأ الزعماء والرؤساء، ولم يستفيدوا من حكمة مؤرخنا الكبير. ثم حينما غزا صدام حسين الكويت عام ١٩٩٠ رأي قسطنطين زريق هزيمة أخري قادمة في الطريق، فكتب «دروس النكبة مثلثاً». وكانت هذه الأخيرة في نظره الأشد قسوة علي الحلم العربي القومي في القرن العشرين، لأن العرب سينفرط عُقدهم، فضلاً عن أن الوحدة العربية قد أصبحت بعد هذا الغزو بعيدة المنال، وأن الأقطار العربية نفسها، قد لا تستطيع المحافظة علي وحدتها الوطنية. وأذكر أن الرجل في آخر زيارة له للقاهرة حيث كانت إحدي كريماته، د. هدي زريق تعمل، تبادلنا حديثاً مؤثراً في شرفة شقتها التي كانت تطل علي النيل، في الجيزة. قال الرجل: «يا سعد الدين... لقد ناهزت الثمانين من عمري... شهدت فيها، وكتبت عن ثلاث نكبات كبري، وأرجو ألا أعيش لأكتب «دروس النكبة مربعاً»... وفي كل الأحوال يبدو أننا نحن العرب نستحق أن نباهي الأمم بأننا أبدعنا علماً خاصاً بنا هو «علم النكبات العربية». لقد رحل قسطنطين زريق عن عالمنا منذ بضع سنوات، وفي ذلك رحمة به، فلو كان ما زال يعيش معنا في صيف ٢٠٠٧ لكتب عن «دروس الجهنميات العربية». فلدينا «جهنم» في لبنان، وجهنم أخري في العراق، وثالثة في فلسطين، فضلاً عن جهنم السودان في دارفور، وجهنم الصومال. إن وصف «جهنم» لكل من هذه المشاهد علي حدة، هو لأن من يعيشون فيها، وخاصة من نساء وأطفال، لا بد أنهم يتصورونها كذلك، فمع العنف والدمار والدماء والنار والفوضي، والهرج والمرج، وكل في ذُعر وهلع، يحاول أن ينجو بنفسه، لا بد أنهم يتذكرون الوصف القرآني البليغ ليوم الحشر: «يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» (سورة عبس الآية ٣٤-٣٧). ولأننا لا يمكن أن نتناول كل هذه «الجهنميات» في هذا المقال فسنقتصر في هذا المقال علي آخرها، أي الاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني، الذي تصاعد بصورة غير مسبوقة في قطاع غزة، وتطور يومي الأربعاء والخميس، ١٣ و١٤ يونيو، بسيطرة مقاتلي حركة حماس (كتائب القسّام) علي كل مواقع حركة فتح وعلي مؤسسات وأبنية السلطة الفلسطينية، بما في ذلك مقر ومنزل الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) وقد أنزل المقاتلون الأشاوس التابعون لحماس الأعلام الوطنية الفلسطينية (الأحمر والأبيض والأخضر) ورفعوا، بدلاً منها، أعلامهم هم (الخضراء)، كما أقاموا صلاة النصر علي أعدائهم (مقاتلي حركة فتح). لقد كان المشهد غريباً علي شاشات التليفزيون العربية والدولية، خاصة أن مقاتلي حماس الملثمين، يسوقون أسراهم من مقاتلي فتح. ولأن معظم شبكات التليفزيون العالمية كانت تعرض مشاهد حرب يونيو ١٩٦٧، ومنها لقطات مماثلة للأسري المصريين، يسوقهم الجنود الإسرائيليون في سيناء، فقد أحسست أنا شخصياً بمرارة شديدة. وكنت قد كتبت منذ أسبوعين عن الجراح العميقة التي تركتها حرب يونيو في جيلي قبل أربعين عاماً (حرب الأربعين عاماً، «المصري اليوم» ٩/٦/٢٠٠٧). نعم، لم يكن المشهد هذه المرة إسرائيلياً - عربياً، ولكنه كان فلسطينياً ـ فلسطينياً. كل ما هنالك أن فريقاً منهم ادعوا أنهم هم «المؤمنون»، وأنهم انتصروا علي الفريق الفلسطيني الآخر من «الكفار»! فيافرحة إسرائيل، وهي تشهد كما شهدنا، الفلسطينيين «الحماساويين»، يقاتلون ويأسرون الفلسطينيين «الفتحاويين». لقد حمدت الله أن مؤرخنا الكبير قسطنطين زريق رحل عن عالمنا قبل أن يأتي هذا المشهد العبثي المأساوي. إن عبثية ومأساوية المشهد الفلسطيني الحالي هي أن البقية الباقية من فلسطين، والتي لا تتعدي ٣٠% من الوطن الأصلي، علي وشك أن تنشطر إلي دويلتين، إحداهما في غزة تحت سيطرة حماس، والثانية في الضفة الغربية تحت سيطرة فتح، ورئاسة السلطة بقيادة محمود عباس (أبو مازن). وقد شرعت كل منهما تصفي وجود الآخرين من الفريق المنافس، وتقوم بتطهير منطقتها من أي وجود للخصوم. إن مسلسل الانقسام الفلسطيني هو ما نبهنا إلي قرب حدوثه، قبل ثلاثة أسابيع، ينذر بألا يتوقف عند هذا الحد، فقد تنقسم غزة إلي شمال وجنوب. وقد تنقسم دويلة الضفة إلي عدة كانتونات، رام الله، والخليل، ونابلس، وطولكرم، وجنين، وهلم جرا. إن الكابوس المزعج لم يعد، في الوقت الحاضر، هو كابوس الهيمنة الإسرائيلية أو الأمريكية علي الفلسطينيين، وإنما استمرار الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني. وكما يقول علماء الاجتماع السياسي إن أبشع أنواع الصراع هو الصراع الأهلي، فإذا تدهور ذلك إلي صراع مسلح، فإنه يصبح «قتال إخوة»، مثل قتال هابيل وقابيل، الذي يمكن أن يتحول إلي صراع أبدي، فكل طرف في الصراع لا يكف عن الشك والكراهية والرغبة في الانتقام من الطرف الآخر. وكل سلوك لطرف ينظر إليه الطرف الآخر نظرة ريبة وشك وتهيؤ للانقضاض علي الطرف الآخر، وهكذا إلي أبد الآبدين. وها هي حماس تقتل كل من تصادفه من مقاتلي فتح في غزة، وها هي فتح تقتل كل من تصادفه من مقاتلي حماس في الضفة الغربية. وها هو الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يقيل رئيس الوزراء الحماساوي، إسماعيل هنية، ويعين رئيس وزراء آخر، هو سلام فياض، ويعتبر ما حدث في غزة انقلاباً علي الشرعية، وتمرداً علي السلطة الوطنية. ومن ناحيتهم لم يوافق لا إسماعيل هنية ولا زملاؤه في حماس علي قرارات الرئيس عباس، ويرفضونها ويتمسكون بمواقعهم في غزة. ويبدو الأمر كله للمواطنين العرب خارج فلسطين غير مفهوم، وكأنه قتال علي «فتات». ويبدو وزراء الخارجية العرب، الذين اجتمعوا في القاهرة، الجمعة ١٥/٦/٢٠٠٧ لإطفاء حريق الفلسطينيين بلا حول ولا قوة. فأصدروا بياناً لا يقدم ولا يؤخر، وحاولوا موازنة ما لا يمكن موازنته بين حماس وفتح. فقد سبق أن أكد زعماء الحركتين أن «الدماء» الفلسطينية خط أحمر لا يمكن اختراقه، وأن «الوحدة الوطنية» خط أحمر، وأن «الشرعية» خط أحمر. وقد اخترقت الحركتان الخطوط الحمراء جميعاً، ومزّقتها وتمرغت بها حتي الثمالة. وكما ظهرت حماس لتتحدي فتح، فقد ظهرت حركتان أخريان تتحديان حركة حماس. وهكذا يبدو أننا بصدد سيناريو أفغاني في غزة. فليس للتطرف ولا للغلوّ نهاية. لقد قام الطغاة العرب بارتهان ثلاثمائة مليون عربي إلي أن تحل القضية الفلسطينية (حيث لا ينبغي أن يعلو صوت فوق صوت المعركة). وها نحن بصدد غلاة عرب يرتهنون ما تبقي من فلسطين تحت شعار «الإسلام هو الحل». وقد كذب الطغاة والغلاة، فعليهم اللعنة أجمعين.