كانت كردستان، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أرضاً للمواجهات بين قوتين ناشئتين لكل منهما تطلعات امبراطورية؛ السلطنة العثمانية والدولة الصفوية،
وخلال النصف الأول من القرن السادس عشر استقر الوضع على ضم الجزء الأكبر من هذه المنطقة الوعرة إلى السلطنة من دون أن تعلم أنّ هذا النجاح الديبلوماسي، حينذاك، سيتحوّل إلى كابوس يؤرّق نوم الجمهورية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال "أتاتورك" في نهاية الربع الأول من القرن الماضي. وإذا كانت مدينة البندقية قد أخفقت في مد يد العون إلى أحد قادة الأكراد في سبعينات القرن الخامس عشر الميلادي (اوزون حسن) لتحمي نفسها، من خلاله، في ذروة اندفاع العثمانيين، وفي ذروة انتشاء المماليك جراء الصدام الصفوي ـ العثماني الذي منع عنهم تجرّع علقم الهزيمة والاندحار، إلى حين، فإنّ اللعبة الاقليمية والدولية الحديثة لم تترك للأكراد هامشاً واسعاً للتحرّك والمناورة، فعلى الرغم من استعداد القيادة الكردية لقبول أي تدخّل أميركي ينقذها من التجاذبات الاقليمية وصل، أي الاستعداد، إلى حد القبول بانضمام كردستان إلى الولايات المتحدة كولاية تضاف إلى الخمسين، وقد عبّر الملا مصطفى البرزاني عن مشاعره الحارّة تجاه الولايات المتحدة إلى حد الموافقة على إعطائها حق السيطرة على النفط مقابل دعم منطقته.
إلا أنّ الأمور لم تكن بالبساطة التي تصوّرها الملا مصطفى، فمن جهة أثّر الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والصراعات المتعلقة بأزمة النفط بمسار الأمور، ومن جهة ثانية كان للنزعة القومية الكردية والولاءات القبلية والدينية تأثيرها المباشر؛ فالقوميون الأكراد الأوائل تحدّروا من صفوف السلطات التقليدية، أي الشيوخ والآغوات وقد حالت النزاعات بين الزعماء المحليين دون توحّد الأكراد توحّداً حقيقياً.
إنّ مجرّد اشتراك زعيم قبيلة ما في الحركة القومية كان، في الغالب، سبباً كافياً لأن يقف منافسوه على الضدّ منها (أي الحركة)، وكان أغلب العوام (عامة الناس) يتبعون زعماء قبائلهم بلا جدال، ففي العام 1974 حين كانت العاطفة القومية في كردستان العراق عامة حدث في كثير من الأحيان أن كان موقف زعماء القبائل هو الذي يقرّر ما إذا كانت قبيلة ما ستشارك في الحركة الكردية، أم تبقى على الحياد، أم تقف ضدّها بفعالية.
والعوامل المشار إليها؛ الصراع الأميركي ـ السوفياتي والنفط فضلاً عن النزاعات العشائرية والقبلية ليست وحدها التي كانت تتحكم بالوضع الكردي، فثمة عامل آخر، لا يقل أهمية عمّا سبق، كان يأخذه اللاعبون الدوليون والاقليميون بالاعتبار وهو الوضع الجيوسياسي لكردستان، فثمة طريقان برّيان للمركبات من أوروبا إلى آسيا يمرّان عبر كردستان، كما تمر عبرها خطوط السكك الحديدية المهمة: اسطنبول ـ طهران، واسطنبول ـ بغداد. ولا ينبغي التغاضي عن التضاريس القاسية والحادة التي تتشكل منها جغرافية كردستان والتي تحكّمت بحدود الامبراطوريتين العثمانية والفارسية، أمّا حدود العراق وسوريا فقد تحكمت فيها عوامل عدة أخذها البريطانيون والفرنسيون في الاعتبار، وقد أشار الكاتب إلى أن وجود الموصل وكركوك وخانقين في كيان واحد ليس من قبيل الصدفة، فقد كانت هي السبب الحقيقي الذي جعل بريطانيا تخلق الكيان السياسي المسمّى، العراق، كما أنّ وجود بعض المكامن الثانوية في رميلان (شمال شرق سوريا) فضلاً عن كميات مهمة من الكروم والنحاس والحديد والفحم قد حفّزت الفرنسيين على ضمّ جزء من كردستان إلى سوريا.
ويبقى، إزاء هذا الواقع، سؤال قد يترتب على الإجابة عليه تصوّرات تفضي إلى اختيار أساليب الكفاح الكردي لأجل الاستقلال والوحدة؛ هل كانت تجزئة كردستان بين الكيانات السياسية الأربع: تركيا، إيران، العراق وسوريا، هي لمنع الوحدة أم لقسمة الموارد والإفادة منها في إطار الممكن؟
غير أنّ الحركة الكردية لم تنتظر تلك الإجابة، فقد خاضت مبكّراً كفاحاً مريراً في كل من العراق وإيران وتركيا؛ ففي العراق، وقعت أولى المصادمات مع القوّات العراقية في أيلول 1961 بعد خيبة أمل الملا البرزاني من وعود الرئيس عبدالكريم قاسم، وقد ساهمت الحرب في كردستان في إسقاط الرئيس قاسم عام 1963، وتكرّر الأمر نفسه مع عبدالسلام عارف وأحمد حسن البكر حين كانت تبادر الحكومات إلى التهدئة ثم تنجر إلى حرب ضدّهم وهذه (أي الحرب) تمهّد لانقلاب، واستمر الأمر على الوتيرة عينها حتى بداية العام 1970 عندما توّجت المفاوضات المتكررة باتفاق، بدا مقبولاً لجميع الأطراف، يُعِد الأكراد بحكم ذاتي ومشاركة نسبية في شؤون الدولة. إلا أن الاتفاق لم يدم طويلاً فقد حدث تحوّل في المنطقة أفضى إلى تجدّد النزاع من جديد، خصوصاً بعد خروج الانكليز من الخليج في العام 1971 ورغبة شاه إيران في ملء الفراغ الحاصل، ومن جهة ثانية رغبة العراق، الذي باشر إجراءات التأميم في عدم السماح للغرب بالاستفادة من نفط كركوك، واستمر هذا النزاع المغطّى اقليمياً حتى عشية آذار 1975 حين وقّع الشاه الإيراني والرئيس العراقي صدام حسين اتفاقية الجزائر من دون تنسيق مسبق أو معرفة مباشرة من الأكراد، الأمر الذي انعكس دماراً وخراباً على الحركة الوطنية الكردستانية.
أمّا أكراد تركية فقد استفادوا من أكثر الفترات ليبرالية في تاريخ تركيا فانضووا في منظمات عدّة وناقشوا كراريس سياسية حتى في أصغر البلدات، غير أنّ التباينات الايديولوجية، وبوجه خاص المتنافسات الشخصية تسببت في انشقاقات عديدة، ومع حلول نهاية عقد السبعينات كان عدد التنظيمات قد قارب العشرة. وحين استؤنفت حرب العصابات في كردستان العراق في عامي 1976 ـ 1977، تحالفت بعض التنظيمات مع نظيراتها العراقية وقدمت لها دعماً لوجستياً كبيراً، في حين ركزّت أخرى جهودها على كردستان تركيا فقط. وكانت ثمة منظمة سمّت نفسها حزب العمال الكردستاني (PKK) قد أعلنت بدء الكفاح "المعادي للكولونيالية" ووجهت "عنفها الثوري" ضدّ المستعمرين الأتراك وحلفائهم الأكراد من "المتعاونين مع العدو" و"الخونة". وفي الثاني عشر من أيلول 1980 تولى الجيش التركي زمام السلطة ونفّذ حملة تنظيف كاسحة كان هدفها القضاء على النزعة القومية الكردية.
وبخصوص أكراد إيران، فقد استفادوا من بدايات ديموقراطية في أوائل الخمسينات وجرى تنسيق بين الحزب الديموقراطي الكردستاني (حدك) في كل من العراق وإيران، وحصل تنسيق بين حزب لوده (الحزب الشيوعي) و"حدت ـ إيران" فبدا وكأنّ الأخير قد تحوّل إلى فرع للحزب الشيوعي الإيراني، لكن هذه الفترة الملائمة للعمل السياسي سرعان ما انتهت مع الانقلاب الذي أطاح بحكومة مصدّق وعوده الشاه رضا بهلوي. خلال الستينات كانت هناك فترة نشاط محدودة، ارتبطت بتنامي الحركة الكردية في العراق، إلا أن التحوّل الذي حدث في مسار ذلك النشاط بدأ حين تحالف البرزاني مع الشاه في أواخر الستينات والنصف الأول من السبعينات، كما سبقت الإشارة، عندما ساهمت بيشمركة البرزاني في ملاحقة عناصر "حدك الإيراني" وإلقاء القبض عليهم، الأمر الذي ولّد شعوراً بالمرارة لدى الأجيال الأصغر سناً كان من شأنه أن يكون سبباً لنشوب صدامات، بعد الثورة الإسلامية، بين الأكراد الإيرانيين وأتباع البرزاني الأمر الذي أوهن من عزيمة الثوار الأكراد بعد ذلك. أما في سوريا فليس ثمة حركة عنفية يحسب لها حساب سوى بعض النشاطات الداعمة لأكراد العراق وتركيا.
[ الكتاب: الآغا والشيخ والدولة (البنى الاجتماعية والسياسية لكردستان).
[ الكاتب: مارتن فان برونيس.
[ المترجم: أمجد حسين.
[ الناشر: معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد، اربيل، بيروت 2007