آلان تورين واحد من أهم نقاد الحداثة، ليس بمعنى رفضها، بل بمعنى توسيع آفاقها، ولأن الحداثة بحاجة الى التجديد دائماً، فهي تحتاج من أجل ذلك الى النقد المستمر، لأنها "مشروع لم يكتمل، حسب توصيف هابر ماس، وهذه المهمة التي يلقيها على عاتقه آلان تورين في كتابه "نقد الحداثة" تقوم على رفض الاستسلام للتقنية،
التي نرى كوارث الاطمئنان النهائي لها من خلال الأزمة المالية التي تجتاح العالم اليوم. هنا محاولة لاستعادة نقد لنواقص الحداثة، كما رآها المفكر الفرنسي في كتابه "نقد الحداثة"، لعلها تضيء بشكل غير مباشر ما يجري في العالم اليوم.
بنت الحداثة طموحها الأعظم على فكرة أن الانسان هو ما يصنعه، عبر الأداة الأكثر فعالية، وهي العقل، الذي يبعث الحياة في العلم وتطبيقاته، وهو الذي يحل دولة القانون والسوق، مكان التعسف والعنف، وطالما أن الإنسانية تتصرف بحسب قوانين العقل، فهي تتقدم نحو الوفرة والحرية والسعادة.
ولكن الكوارث التي أنتجتها الحداثة جاءت من خلال اعتمادها على مبدأ وحيد، شكل أساسها التاريخي، وهو العقلنة. إن التأكيد أن التقدم هو السير نحو الوفرة والحرية والسعادة، وأن الأهداف الثلاثة مترابطة فيما بينها، ليس سوى أيديويدلوجيا يكذبها التاريخ باستمرار. وأكثر من ذلك، فإن سيادة العقل هي النفوذ المتزايد للنظام على الفاعلين، وتوحيد القياس، وتوحيد النمط اللذين امتدا الى عالم الاستهلاك والاتصال، بعد أن دمرا استقلال الشغيلة.
فالتصور الكلاسيكي للحداثة، الفلسفي والاقتصادي في آن واحد يُعرف على أنها انتصار للعقل، وهو تصور، يمتلك قوته وعنفه في مواجهة التقليد. لقد كان ثورياً ككل دعوة الى التحرر، رفض التسوية مع الأشكال التقليدية للتنظيم الاجتماعي والمعتقد الثقافي. كان ينبغي أن يولد عالم وإنسان جديدان يدير ظهرهما للماضي، للعصر الوسيط، يعطيان العمل وتنظيم الإنتاج وحرية المبادلات وموضوعية القوانين قيمة مركزية. رغم ذلك كان تاريخ الحداثة ممزق، منذ البدء، لا بين أنصار الحرية. بموجب هذه الرؤية، تغدو النزاعات الاجتماعية نزاعات المستقبل ضد الحاضر، لكن انتصار المستقبل لن يؤمنه تقدم العقل فحسب، بل وأيضاً النجاح الاقتصادي ونجاح العمل الجماعي. هذه الفكرة هي في صميم جميع الصور المؤمنة بالتحديث.
ولأن القوة التحريرية للحداثة تستنفد كلما انتصرت الحداثة، فإن ذلك يفتح المجال واسعاً أمام نقدها، الذي لا يقود في الغالب الى نبذ الحداثة، لكنه يؤدي طبقاً للمعنى الأصلي لكلمة نقد، الى فصل عناصرها، وتحليل كل منها، وتقييمه بدلاً من الانحباس في "كل أو لا شيء" يجبر على قبول الكل خوفاً من إضاعة الكل. لكن النقد يقود الى تشظي فكرة الحداثة أكثر من استبدالها. فالجنس والاستهلاك التجاري، والمشروع، والأمة لا يمكنها أن تأتي إلا بكشف أول للمعالم وتوجيه الانتباه الى عدم تجانس هذا المسرح الذي لا يجوز أن يدعى مجتمعاً، فنحن نعيش في عالم مجزأ. إن القرن الممتد من منتصف القرن التاسع عشر الى منتصف القرن العشرين، بل وبعد ذلك، هو قرن تشظي العالم العقلاني، وليس قرن إحلال مبدأ موحد آخر محله ولا إحلال نموذج آخر أكثر تعقيداً. فالحقل الثقافي والاجتماعي الذي نعيش فيه منذ أواخر القرن التاسع عشر، لا وحدة له: انه لا يشكل مرحلة جديدة للحداثة، لكنه يشكل تفككها.
يحمل كل جزء من الأجزاء المتشظية للحداثة في ذاته علامة الحداثة وعلامة أزمتها في آن واحد، كل شيء موسوم بهذا الالتباس، كل شيء حديث وضد الحداثة، بحيث لا تظهر الحداثة الأكثر وثوقاً هي رسالة معاداة الحداثة التي يذيعها. فالنموذج الكامل الإجمالي للحداثة الثقافية والاقتصادية والسياسية، حين يتفكك الى الجنس والاستهلاك، والمشروع، والأمة، يقلص العقلانية الى بقية: هي العقلانية الأدائية، التقنية، باعتبارها البحث عن أنجح الوسائل لبلوغ أهداف تفلت هي نفسها من معايير العقلانية.
اتخذت النظريات الكلاسيكية للحداثة قوتها وهي تدافع عن ان فاعلي الحياة الاجتماعية هم حملة الحداثة. وأن الأمة هي الشكل السياسي للحداثة، أنها تستبدل بالتقاليد والأعراف خيراً قومياً متكاملاً، واعادة بناء القانون الذي يستلهم مبادئ العقل. كذلك المشروع فاعل عقلاني يغدو العلم بفضله تقنية الانتاج تحكم السوق على نتيجة عقلنته. أما الاستهلاك، فهو يغدو شيئاً فشيئاً اقل تحديداً بحالة الأخلاق والآداب والقيم الرمزية، انما تحكمها اختيارات عقلانية بين ارضاء الحاجات التي آلت الى قياس مشترك: سعر المواد والخدمات. لكن فكرة الحداثيين الكبرى من ان النظام والفاعلين يتطابقون في المجتمع الحديث بفضل استبطان الفاعلين لقواعد المجتمع، هذه الفكرة اطاحها وتجاوزها الواقع التاريخي الذي يصنع الجديد فيه بالقديم، والذي يتم السير فيه من الخصوصية الى العمومية. وهذا ما ينتج الشمولية، باعادة تكييف الانسان مع القواعد الاجتماعية، والذي فضحه اتجاه ما بعد الحداثة الذي استلم ماركس ونيتشة وفرويد بالدفاع عن المستغلين والمنبوذين والهامشيين والسجناء.. الخ، لكن هذه المجموعات، مجموعات ضغط محدودة الأهداف، وليس هناك حركات اجتماعية يعرف فيها الفاعلون بالاستبعاد، والهامشية والاحتجاز. ان السجناء لا يؤلفون حركة اجتماعية اكثر مما يؤلفها العاطلون. ان وضعهم يسائل المجتمع عن ذاته، او يمنحه شعوراً سيئاً. لكن اقصى ما يستطيعون عمله بأنفسهم هو ان يكونوا مجموعة ضغط تقدم مطالب، بعنف او بغير عنف، للادارة للحصول على ميزات شخصية.
لأن ازمة الحداثة ازمة مستحكمة، فان ثمة ردين ممكنين على ازمة الفكرة الكلاسيكية للحداثة، الأول، رد انصار ما بعد الحداثة الذي يؤكد ان تفككها لا رجعة عنه. والثاني، هو ان الحداثة يمكن وينبغي الدفاع عنها وحتى توسيعها. ان الرد الأول لا يحل المشكلة، فالحداثة بحاجة الى اعادة توحيد وليس الاستمرار والدفع بتفككها، فالحداثة بحاجة للخروج من أزمتها الى نصفها الآخر الذي تشكله "الذات" وحتى لا تلغي الحداثة ذاتها بذاتها.
لا حداثة دون عقلنة، ولكن لا حداثة كذلك دون تكون ذات في العالم تحس بمسؤوليتها ازاء نفسها وازاء المجتمع، وصورة الحداثة القائمة اليوم هي صورة الفراغ، صورة اقتصاد مانع، وسلطة بلا مركز، ومجتمع مبادلة اكثر منه مجتمع انتاج، انه صورة المجتمع دون فاعلين. والمقصود بكلمة "ذات: هنا، قبل كل شيء خلق عالم تديره قوانين عقلانية بالنسبة الى فكر الانسان، بحيث يكون الذات والفاعل مفهومين لا ينفصل احدهما، وهما يقاومان معاً الفردية التي تعطي الأفضلية لمنطق النظام على منطق الفاعل. ولأن "العقل لا يكفي للدفاع عن العقل" حسب هوركهيمر، فاننا بحاجة الى الذات في مواجهة السيطرة المتزايدة للاجهزة التقنية، والاسواق والدول، وهي من ابداعات الروح الحديثة، نحن بأمس الحاجة الى البحث عما يرتد الى الوعي الجمعي للجماعة، والمناداة بمبدأ غير اجتماغي لضبط السلوك الانساني.
يجب فرض حدود للسلطة الاجتماعية والسياسية، والاعتراف بأن الحق في أن نكون "ذاتاً" أعلى من نظام القانون، وحتى تنتظم الحياة الاجتماعية ينبغي أن يؤلف بين مبدأين لا يمكن أن يرتد أحدهما الى الآخر. التنظيم العقلاني للإنتاج وتحرير الذات. وبذلك يستطيع الإنسان الحديث المهدد أبداً بسلطة المجتمع المطلقة، أن يعمل على الاعتراف بالذات كمبدأ مركزي لمقاومة السلطة الاستبدادية. فعندما ترتد العقلانية الى التقنية، الى الأدائية، فإن الأجزاء المتشظية للحداثة الكلاسيكية تكف عن الترابط فيما بينها إلا بالبحث عن الفعالية والمردود. وبذلك تتحطم التجربة الإنسانية المعاصرة الى شظايا، إن زوجي الحداثة، الذات والعقل، وحدهما القادران على إنجاز هذه المهمة. والذات هنا ليست ذاتاً فردية فحسب، فهي حركة اجتماعية، إنها لا تتكون في وعي النفس، وإنما في النضال ضد "الذات المضادة" ضد منطق الأجهزة، ولا سيما عندما تصبح الأجهزة صناعة ثقافية، ومن باب أولى، عندما تكون لها أهداف شمولية. فالجمع الوثيق بين بناء الذات الشخصية والحركة الاجتماعية، فالذات تبني نفسها في آن واحد بالنضال ضد سلطة السلعة والمشروع والدولة، فلا ذات دون التزام اجتماعي، ولا حركة اجتماعية دون دعوة مباشرة للحرية والى مسؤولية الذات حسب توصيف آلان تورين.
إن تعريف الحداثة على أنها انتصار للعام الشامل على الخاص ينبغي أن ينتمي الى الماضي، وعلى المجتمعات الحديثة أن تراجع صورتها عن نفسها، وأن تغدو قادرة على دمج جزء كبير مما استبعده أو تجاهلته أو احتقرته. مما يستدعي تعريفاً جديداً للذات، وهي قوة مقاومة أجهزة السلطة، مستندة الى التقاليد ومعرّفة في الوقت نفسه بتأكيد الحرية.
إن القرن المنصرم كان مفرط الثقة بالتاريخ والتقدم. وهو يدعونا، حسب تورين، بصوت أخفض لكنه أكثر إقناعاً، الى أن نفتح فرجاً فردية وجمعية في غابة التقنيات، والأنظمة ومواد الاستهلاك وألا نفضل شيئاً على الحرية.