لم يكن باراك أوباما مرشح السود. كان مرشحاً أسود. وهو لم يفز بأصوات السود ولكنه فاز بأصوات الاميركيين. من أجل ذلك كان فوزه بالانتخابات الرئاسية فوزاً للمجتمع الأميركي الذي تغلّب على نفسه وطوى صفحة بغيضة من تاريخه، وهي صفحة العنصرية المقيتة.
بل ان هذه الأكثرية ذهبت الى أبعد من ذلك عندما انتخبت الى جانب الرئيس الأسود نائباً له من أتباع الكنيسة الكاثوليكية. ووجهت بذلك ضربة مؤلمة لليمين المسيحي الانجيلي المتطرف الذي كان يمثله الثنائي جون ماكين ـ سارا بالين.
من السابق لأوانه الادعاء بأنه لم تعد هناك عنصرية ضد السود، ولا حتى ضد المتحدرين من أصول اميركية ـ لاتينية، الا انه من الواضح ان الأكثرية الاميركية قالت "لا" لأمرين أساسيين:
قالت لا للعنصرية، بالتصويت لمصلحة أوباما.
وقالت لا لسياسة الرئيس جورج بوش بعدم التصويت لمصلحة ماكين.
وما كان للاميركيين ان يرفعوا اللا مرتين لولا النظام الديمقراطي الذي احتكموا اليه واتخذوه وسيلة شرعية وحيدة للاعراب عن خياراتهم ولتقرير مواقفهم.
لقد ضاق الاميركيون ذرعاً بسياسة الرئيس بوش التي ادت الى تشويه صورة الولايات المتحدة في العالم كله وليس في العالم العربي والاسلامي فقط. وأدرك الرئيس بوش نفسه ولو متأخراً حجم الأذى الخطير الذي ألحقه بالولايات المتحدة وبسمعتها. حتى ان استطلاعات الرأي التي جرت في دول المجموعة الأوروبية أكدت ان اكثر من 80 بالمائة من الرأي العام الأوروبي يعتقد ان الولايات المتحدة واسرائيل تشكلان خطراً على السلام العالمي. وهي نسبة تفوق أضعاف ما حصلت عليه دول اخرى مثل روسيا وايران وحتى كوريا الشمالية.
من أجل ذلك، حاول الرئيس بوش تصحيح هذه الصورة الخطيرة من خلال استحداث مكتب خاص للعلاقات العامة. ولكن ما كان لهذا المكتب الذي تداول عليه ثلاثة من كبار الاختصاصيين ان يحقق اهدافه من دون ان يجري الرئيس بوش تغييراً في سياسته الخارجية. وهو ما لم يفعله. ففشل المكتب، وازدادت الصورة سوءاً وبشاعة.
غير ان انتخاب اوباما يشكل في حد ذاته اول عمل تصحيحي لهذه الصورة أو أملاً في تغييرها، وذلك من خلال ما يوحي به هذا الانتخاب من تحولات، وما قد يطلقه من مواقف. وقد أحدث فوز اوباما بالفعل صدمة ايجابية في الرأي العام العالمي والاسلامي تشكل مدخلاً واقعياً لإعادة رسم صورة جديدة غير تلك التي رسمها الرئيس جورج بوش بسياسته العدوانية وبحروبه التي استندت الى اكاذيب واختلاقات لتبرير شنّ تلك الحروب.
فالولايات المتحدة الآن تنشر في العالم قوات عسكرية اكثر مما تنشر من بعثات دبلوماسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وحتى تبشيرية. فهي في حالة حرب في افغانستان وفي العراق، ولولا العجز عن تحمّل المزيد من أعباء الفشل لربما شنت حرباً على ايران ايضاً. وتقتل قواتها في الباكستان وأفغانستان من المواطنين الأبرياء أضعاف ما تقتله من الارهابيين. حتى انها استعدت الرأي العام هناك كما لم تستعده من قبل. اما نتائج هذه السياسة العشوائية فهي ان العراق وأفغانستان يمرّان في حالة لا تقلّ سوءاً عما كانا عليه من قبل. فالعراق يواجه خطر التشرذم العرقي والطائفي، اما أفغاسنتان التي أصبحت أكبر منتج للأفيون في العالم، فانها على قاب قوسين أو أدنى من عودة الطالبان اليها.
حتى ان الولايات المتحدة نفسها تحثّ حكومة كابول على التفاوض مع الطالبان ادراكاً منها بأن الحرب في أفغانستان هي حرب عقيمة ولا يمكن ان تنتهي بانتصار حلف شمال الأطلسي.
ولا تقلّ هذه الصورة سوداوية في الجانب الأوروبي خاصة بعد النتائج التي أسفرت عنها الحرب في جورجيا. فقد استطاع الكرملين ان يهزّ العصا في وجه الحلف الذي تدفعه الولايات المتحدة الى مواصلة التوسع شرقاً حتى الحدود الروسية. ثم ان إقامة شبكة الصواريخ الأميركية الستراتيجية في بولونيا دفع روسيا الى التهديد بإقامة شبكة مضادة موجهة الى الدول الأوروبية، الأمر الذي أعاد صورة الحرب الباردة مرة جديدة. فبعد نجاح الولايات المتحدة بغزو العراق في عام 2003، شددت الخناق على موسكو في القوقاز وأوكرانيا وأوروبا الشرقية، فكان الرد الروسي في آسيا الوسطى حيث اضطرت الولايات المتحدة، تحت ضغط روسيا على أوزباكستان، الى اخلاء قاعدتها العسكرية الستراتيجية التي اقامتها في هذه الدولة الآسيوية الاسلامية، وهي توشك على اغلاق قاعدتها الثانية في قرغيزيا استجابة من حكومتها لضغط روسي مباشر أيضاً.
كانت جريمة 11 ايلول 2001 قد وفرت الفرصة لصناعة عدو جديد يلتقي عليه الشرق والغرب، وخاصة روسيا والولايات المتحدة، وهذا العدو هو الارهاب. ولكن الرئيس جورج بوش احتكر الحرب على الارهاب وشنّها منفرداً وبأسلوب انتقامي. وبدلاً من ان تشكل الحرب على الارهاب قاعدة لتحالف دولي في مواجهة هذا العدو المشترك، ادى الاسلوب الذي اعتمده الرئيس بوش الى زيادة طين الاختلافات بلّة. ففشل في الحرب ولم ينجح في كسب المتحالفين، بل انه خسر حتى المتعاطفين مع بلاده.
لعل من أبرز معالم هذا الفشل الذريع ان الحرب على الارهاب لم تؤدِ الا الى زيادة حالة عدم الاطمئنان داخل الولايات المتحدة وفي العالم. لقد كانت حرباً فاشلة لانها استبعدت قوى معنية بهذه الحرب في أوروبا وفي العالم العربي والاسلامي، ثم لأنها كانت حرباً عشوائية انتقامية، اعتمدت على القوة العسكرية وحدها.
ومن الفشل في الحرب على الارهاب الى الفشل في تحقيق الوعد الذي قطعه الرئيس بوش على نفسه وهو تمكين الفلسطينيين من اقامة دولة وطنية تتعايش بسلام مع اسرائيل، وذلك قبل انتهاء ولايته الرئاسية. ولما أطلّت نهاية الولاية، لم يجد الرئيس بوش سوى أن ينعى على لسان وزيرة خارجيته كونداليزا رايس الوعد تاركاً للرئيس العتيد أوباما مسؤولية ذلك. ولكن أوباما الذي قال بالقدس "عاصمة للدولة اليهودية" والذي اختار رئيساً لمكتبه يهودياً اسرائيلياً قاتل في الجيش الاسرائيلي في جنوب لبنان، لا يبدو انه مستعدّ لتحمّل هذه المسؤولية أو انه مؤمن بجدواها.
من أجل ذلك يخشى ان يكون الشرق الأوسط مرة جديدة نقطة الضعف في الادارة الاميركية الجديدة، كما كان نقطة الضعف في الادارات السابقة نتيجة لهيمنة اللوبي الصهيوني على عملية اتخاذ القرار في البيت الأبيض.
من هنا أهمية انتظار ادارة الرئيس المنتخب أوباما لمعرفة كيف سيتعامل مع الوعود التي قطعها على نفسه خلال الحملة الانتخابية.. وتلك التي ورثها عن سلفه.
اما في الداخل الاميركي فان الوضع لم يكن اقل خطورة. لقد تسلّم الرئيس بوش السلطة قبل ثماني سنوات. يومها كان الاقتصاد الاميركي ينعم بنمو يزيد على ثلاثة بالمائة. وكانت الموازنة العامة تتمتع بفائض كبير، رغم ان حجم الديون الخارجية وصل الى 6 تريليونات دولار.
ويسلّم الرئيس بوش البيت الأبيض للرئيس الجديد والولايات المتحدة تمرّ في واحدة من أسوأ أزماتها الاقتصادية. فالنمو صفر. بل تحت الصفر. والدين الخارجي ارتفع الى عشرة تريليونات دولار. اما عجز الموازنة فوصل الى تريليون دولار. والبطالة سجلت رقماً قياسياً.
ان لائحة الفشل لدى الرئيس بوش طويلة جداً. هناك فشل في الداخل يتمثل بطريقة التعامل مع الأزمة المالية الاقتصادية، وبطريقة التعامل مع سلسلة الأعاصير التي ضربت الولايات المتحدة وفي مقدمتها إعصار كاترينا الشهير.
وهناك الفشل في المحافظة على الحريات الفردية والعامة بحجة اعطاء الأولوية للأمن. ولكن النتيجة ان الأميركيين شعروا بقيود لم يعهدوها على حرياتهم من دون ان يزيدهم ذلك اطمئناناً الى أمنهم. ولا شك في ان فضيحة معتقل غوانتانامو شكلت وصمة عار في جبين منظومة القيم الانسانية التي تتغنى بها الولايات المتحدة.
وفي المحصلة الأخيرة فان الرئيس بوش وادارته ألحقا بالولايات المتحدة، وبالعالم أفدح الأضرار. وخلّفا للرئيس العتيد أوباما وادارته تركة ثقيلة من الفشل في كافة الحقول والميادين.
ان التحدي الأساس الذي يواجهه أوباما يتمثل أساساً في استعادة صورة الولايات المتحدة أمام ذاتها وأمام العالم. ونجاحه ليس مطلوباً له وحده، ولكنه مطلوب لبني جنسه ايضاً، رغم انه كان مرشحاً أسود، ولم يكن مرشح السود.