Sunday, November 9. 2008
إن عشق الصوفي للذات الإلهية جعله دائم التطلع لرؤية هذه الذات، ولذلك عشقوا كل ما تتجلى فيه، وبالطبع إنها لا تتجلى إلا في كل جميل "ويتخذ الصوفية من الجمال الحسي درجا يرقون به إلى معرفة الجمال المطلق"(1) عن طريق شفافية الرؤية ورقة الذوق.
وهذه النظرية تلتقي مع رؤية أفلوطين التي انتهت في إدراك الجمال إلى نوع من الطهارة الروحية التي ترتفع بالنفس من العالم الحسي إلى عالم الحقائق الروحية الذي يعلو على الحس, ويلهم من يصل إلي تأمله بالشوق الدائم إليه والعزوف عن العالم الحسي, فيوحد بين الجمال والحقيقة القصوى, يقول "إن الجمال هو الخير ومن الخير يستمد العقل جماله، ومن العقل تستمد النفس جمالها، أما أنواع الجمال الأخرى مثل الأعمال والنوايا فجمالها أيضا مستمد من النفس؛ إذ إن النفس إلهية وهى تحوي كل ما تمسه وتسيطر عليه جميلا في حدود قدرته على تقبل الجمال. ويقول: تصير النفس جميلة بقدر ما تشبه بالله"(2).
ونظرية أفلوطين في سمو النفس وشوقها وتطلعها إلى جمال العالم الروحاني قربت بين تجربة التذوق الجمالي وتجربة التأمل الصوفي، بل جعل من تجربة التأمل الصوفي غاية التجربة الجمالية.
ويرى محمد غنيمي هلال أن الجمال عند الصوفية قسمان: حقيقي وصوري، فالجمال الحقيقي صفة أزلية لله تعالى، وقد شاهده الله في ذاته مشاهدة علمية، فأراد أن يراه في صنعه مشاهدة عينية، فخلق العالم كمرآة يشاهد فيها جماله(3) عيانا، وهذا هو الجمال الصوري عند الصوفية، فالعالم كله تعبير عن الحسن المطلق، والقبيح في العالم كالمليح منه، لأنه مجلى الجمال الإلهي، فلم يبق إلا الحسن المطلق. فالوجود كله صورة حسن الله ومظهر جماله، والتأمل في جمال الكون سبيل إلى الاهتداء إلى الجمال الحق عن طريق العاطفة والقلب(4).
وهذا الاستغراق في الجمال يوصل القوم إلى درجة الوجد، والغيبة عن الوعي الحسي، ويجعلهم يهيمون ويرقصون طربا مرددين اسم الله في حلقات الذكر، ويعكفون على مجالس السماع، ويتخذون منها غذاء لأرواحهم وفتحا لمغاليق وجدانهم، وتربية لأذواقهم، يقول الجامي: "تصرف وجهك من الحب الترابي، ما دام الحب الترابي سيرفعك إلى الحق"(5) عن طريق اكتشاف النفس التي هي قيد للعالم فيكتشف العالم في نفسه، والله فيهما، وهذا الاكتشاف هو تجل ينتقل فيه الجمال من الصورة إلينا انتقال فيض ننصبغ به كما صبغ الشكل الصورة.
وقد لاحظ محمد علي أبو ريان أن نظرة الصوفية للجمال كانت أكثر حرية وانطلاقا من علماء الشريعة الإسلامية، فبينما تدخل رجال الشرع بالمنع والتحريم لبعض الفنون وبذلك عطلوا توجيه الإحساس بالجمال عند المسلمين إلى موضوعات هذه الفنون، في حين أن الإباحة والتحريم لا ينصبان على المظاهر الجمالية في ذاتها، ولكن على الموضوع نفسه وما يؤدي إليه من مخالفة للشرع, فمثلا إذا نظر الإنسان إلى تناسق جسم المرأة واكتشف فيه ناحية من نواحي الجمال، فإن ذلك في حكم الشرع لا يعد من باب الحرام، لأن الله جميل يحب كل جميل، وأن جمال المخلوقات يرتبط بحسن صنعة الخالق، وفي ذلك تمجيد وتسبيح لعظمة الله وجلاله. ولكن ارتباط هذه النظرة إلى جمال المرأة بالميل الجنسي أي بالاشتهاء هو الذي يعد من باب الحرام(6).
أما الصوفية - وعلى رأسهم الإمام الغزالي - فإنهم ربطوا سائر الجمال بالجمال الإلهي، وكأن الجمالات الجزئية سواء كانت عقلية أم حسية إنما تشارك في الجمال الإلهي وترتبط به لأنها أثر من آثاره، وهذا الموقف يعود بنا إلى أفلاطون حينما يربط الجمالات الجزئية بمثال الجمال بالذات(7).
وقد ميز الغزالي بين طائفتين من الظواهر الجمالية في قوله: "واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال، والله تعالى جميل يحب الجمال. ولكن الجمال إن كان بتناسب الخلقة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر. وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة، أدرك بحاسة القلب. ولفظ الجمال قد يستعار أيضا فيقال: إن فلانا حسن وجميل ولا تراد صورته. وإنما يعني أنه جميع الأخلاق، محمود الصفات، حسن السيرة، حتى يحب الرجل بهذه الصفات الباطنة استحسانا لها كما نحب الصورة الظاهرة..."(8)، ثم يقول: "أن لا خير ولا جمال ولا محبوب في العلم إلا وهو حسنة من حسنات الله، وأثر من آثار كرمه، وغرفة من بحر جوده، سواء أدرك هذا الجمال بالعقول أو بالحواس، وجماله تعالى لا يتصور له ثان لا في الإمكان ولا في الوجود"(9).
ووفقا لهذا التحليل الفلسفي الراقي يفرق بين نوعين من الظواهر الجمالية: نوع يدرك بالحواس وهذا يتعلق بتناسق الصور الخارجية وانسجامها سواء كانت بصرية أم سمعية أم غير ذلك، وأما الطائفة الثانية فهي ظواهر الجمال المعنوي التي تتصل بالصفات الباطنة. وأداة إدراكها القلب". فالقلب إذن أي الوجدان هو قوة إدراك الجمال في المعنويات"(10) عند الصوفية.
ولقد هام صوفية القرن السابع بالجمال الحسي في شتى صوره، ليس في المرأة فقط، ولكن في مخلوقات الطبيعة، ومظاهرها المختلفة: طبيعية كانت أم صناعية، ولم تكن الاستجابة للجمال في هذه المظاهر غاية في حد ذاتها "بل تستمد قيمتها من كونها دالة على الحقيقة العقلية الروحانية شأنها شأن الاستجابة لجمال الكون والطبيعة باعتبارهما من آثار المبدأ الإلهي المقدس والعلة الأولى التي تلهم نفوس الصوفية بالشوق الدائم والتطلع إلى معاينة هذا المبدأ والاقتراب منه"(11).
فهذا ابن الفارض الذي يروي عنه أنه كان عاشقا للجمال في شتى صوره، ومثال ذلك أنه رأي ذات مرة جملا لسقاء فهام به وصار يأتيه كل يوم ليراه، وهو كما زعم بعضهم قد عشق برنية في حانوت عطار. كما كانت تحلو له رؤية النيل في موسم الفيضان، إذ كان يتردد على مسجد المشتهى بالروضة، كما يشير هو بقوله:
لقد بسطت في بحر جسمك بسطة ** أشارت إليها بالوفــاء أصابع
فيا مشتهاها أنـت مقياس قدسها ** وأنت بها في روضة الحسن يانع
فقرى به يا نفس عينا، فإنــه ** يحدثني والمؤنسون هواجـع(12)
وكان ابن الفارض - مثل شعراء عصره من الصوفية - يرى الكائنات جميعها على أنها مجال للحسن والجمال الإلهي المطلق الذي تعبر عنه كل مظاهر الحياة(13).
وأجمل ما أثر عن ابن الفارض في التعبير عن الجمال المطلق قوله:
وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل ** بتقييده ميلا لزخــــرف زينة
فكل مليح حسنه من جمالهــا ** معار له أو حسن كل مليحـــة
بها قيس لبنى هام بل كل عاشق ** كمجنون ليلى أو كثير عـــزة
فكل صبا منهم إلى وصف لبسها ** بصورة معنى لاح في حين صوره
وما ذاك إلا أن بدت بمظاهـر ** فظنوا سواها، وهي فيهم تجلـت
بدت باحتجاب واختفت بمظاهر ** على صيغ التلوين في كل بـرزة
ففي النشأة الأولى تراءت لآدم ** بمظهر حوا قبل حكم الأمومــة
فهام بها كيما يكــون بها أبا ** ويظهر بالزوجين سر البنـوة(14)
فنراه عاشقا للجمال بطبعه، بل متأملا في حقيقته، يؤكد على أن الجمال صفة لله، وقد ظهر هذا الجمال في الكون في صورة الحسن المطلق المتنوع المظاهر- الذي يعد بمثابة عارية مستعارة من الجمال الإلهي، ويضرب المثل بمشاهير عشاق العرب كقيس لبنى والمجنون وكثير عزة، فهم إن كانوا قد هاموا بمحبوباتهم، فهم في الأصل يهيمون بمحبوبته هو التي تجلت فيهن، باحتجابها، فأظهرت جمالها فيهن مثلما ظهرت في "حواء" فهام بها آدم. فحسن كل شئ هو معنى من جمال محبوبته الحقيقية كما يقول:
قال لي حسن كل شئ تجلى: ** بي تملي فقلت: قصدي وراك
لي حبيب أراك فيـه معنى ** غر غيري، وفيه معنى أراكا(15)
فالحسن هو صورة الجمال الإلهي المتجلى في الكون "فإذا كان الجمال المطلق هو أسماء الله وصفاته، وكل ما في الوجود من صور الحسن إنما هي تجليات لهذا الجمال، فإن وجود صور الحسن المتنوعة هذه ليس وجودا قائما بذاته، وإنما هو وجود من حيث الإضافة إلى الجمال الإلهي الذي أعار الحسن إلى كل الموجودات، فكان وجودهما وجودا مجازيا معارا من الله خلال تجليات جماله سبحانه وتعالى..."(16).
يقول ابن الفارض موضحا سر الجمال وفق رؤيته العرفانية:
وسر جمال فيك كل ملامحه ** به ظهرت في العالمين وتمت(17)
أي أن سر جمال الذات متى وجد في كل شيء سواء كان جميلا أصلا أو غير ذلك، فإنه يصبح - في نظر الصوفية - جميلا، والمهم في طبائع الناس، ومقدار ارتقاء أرواحهم لهذا المعنى، إذ إن محبي الصور الكونية يتعشقون الكون، في حين أن محبي الذات العلية يعشقون العين. والشروط واللوازم والأسباب في كل من الحبين واحدة(18).
ونقطف من بستان ابن الفارض زهرة أخرى على تجليات الجمال الإلهي في مظاهر الكون المتعددة، يقول:
تراه إن غاب عني، كل جارحة ** في كل معنى لطيف، رائق، بهج
في نغمة العود والناي الرخيم إذا ** تألفا بين ألحان من الهـــزج
وفي مسارح غزلان الخمائل في ** برد الاصائل والإصباح في البلج
وفي مساقط أنداء الغمام، على ** بساط نور من الأزهار منتسـج
وفي مساحب أذيال النسيم، إذا ** أهدى إلى سحيرا أطيـب الأرج
وفي التثامي ثغر الكأس مرتشفا ** ريق المدامة، في مستنزة فرج(19)
فقوله "إن غاب عني" أي غابت ذاته العلية لإطلاقها عن جميع القيود والحدود الإمكانية, فيتجلى الوجود والحق عند ذلك، وينكشف في تعينات مختلفة تظهر به ويظهر بها من حيث أسمائه الحسنى العليا لكمال تنزهها عن الألوان ومحوها وإفنائها لكل ما هو كائن أو كان, هذه التعينات مثل الصوت المطرب للألحان الجميلة وقت السماع، ومراعي الغزلان بين الأشجار المجتمعة الملتفة والمواضع التي تسقط عليها أنداء الأمطار، وألوان الأزهار منتشرة كالبساط المنسوج بأنواع النقوش, والمواضع التي يمر بها النسيم ويتردد فتفوح منه الروائح الطيبة(20).
فالجمال المطلق هو عله الجمال في كل شيء موجود، ويهون بجانبه كل ما يبدعه الإنسان من آثار فنية. يقول جلال الدين الرومي: "إنني مصور نقاش أصنع في لحظة تمثالا ولكني في حضرتك أصهر كل هذه التماثيل وإني لأخلق مائة وأنت فيها الروح، فإذا ما رأيت تصويرك ألقيت بهما جميعا في النار"(21).
ويقدم ابن الفارض في إحدى قصائده بعض الإشارات على سيادة الجمال على قلبه، يقول:
ته دلالا فأنت أهـــل لذاكا ** وتحكم فالحسن قد أعطاك
ولك الأمر فاقض ما أنت قاض ** فعلى الجمـال قد ولاكا(22)
وقوله "فالحسن قدر ولاكا أي الجمال الحقيقي الإلهي اقتضى أن تكون هذه المثابة من كمال الذات، وجمال الأسماء والصفات، وجلال الأحكام والأفعال"(23).
وقد استخدم ابن الفارض في كثير من أبيات هذه القصيدة الجمال والحسن وعلاقتهما بالكمال والجلال مما يؤكد أنه يتنزل في الذات الإلهية "ويرى الجيلي أن الجمال المطلق والجلال المطلق لا يكون شهودهما إلا لله وحده أما في عالم الخلق، فلا يتجلى الله بتجل مطلق... فلا طاقة للمخلوقات بظهور الجمال المطلق الذي يدهش سناه العقول، ولا مقدرة لهم لقبول تجلى الجلال المطلق الذي تنمحق له التراكيب. ومن هنا كانت معظم تجليات الحق تعالى جامعة بين أسمائه وصفاته الجمالية وبين أسمائه وصفاته تعالى الجلالية، ومن هنا قال الصوفية: لكل جمال جلال، ولكل جلال جمال"(24). يقول ابن الفارض:
عبد رق ما رق يوما لعتق ** لو تخليت عنه ما خــلاك
بجمال حجبته بجــلال ** هام واستعذب العذاب هناكا(25)
ويقول:
ومطلع أنـــوار بطلعتك التي ** لبهجتها، كل البدور استسرت
ووصف كمال فيك أحسن صورة ** وأقومها في الخلق، منه استمدت
ونعت جلال منك، يعـذب دونه ** عذابي، ويحلو عنده، لي قتلتى
وسر جمال، عنك كل ملاحـة ** به ظهرت، في العالمين وتمت
وحسن به تسبى النهى دلني على ** هوى, حسنت فيه, لعزك ذلتي
ومعنى وراء الحسن, فيك شهدته ** به دق عن إدراك عن بصيـرة
لأنت منى قلبي، وغاية بغيتي ** وأقصى مرادي واختياري وخيرتي(26)
وهو لا يتعبد للجمال مباشرة ولكنه يتوصل عن طريق الجمال الحسي بالوجدان والرمز والتجريد (أي بالجمال في مظهريه الحقيقي والمجازي) إلى الجمال المطلق للذات الإلهية، وهذا ما لمسه الباحث عند شعراء الصوفية في القرن السابع بجانب ابن الفارض كعفيف الدين التلمساني، الذي يرى أن الإيمان الحقيقي بالذات، لا يأتي إلا عن طريق تجلي هذه الذات في الكون بمظاهرها المختلفة:
وما كنت أدري فتنة العشـق قبلها ** إلى أن رأت عيني جمالك يعبد
إذا ما ارتشفت الراح من ثغر كأسها ** ألست تراها نحو وجهك تسجد
ولو لم يكن معناك في الكون مطلقا ** يدل عليه منك حســن مقيد
ولما شهدت عيني جمالك جهـرة ** ومن لم تشاهد عينه كيف يشهد(27)
فكل حسن في الكون إنما هو معار من الجمال المطلق الذي ليس له حدود:
واكسبني حسنا ولا غرو إنما ** لكل مليــح منه ما قد تكسب
وإني لذاك المغرم العاشق الذي ** إلى غير ذاك المطلق الحسن ما صبا(28)
وكأن التلمساني هنا متأثر بابن الفارض في قوله:
فكل مليح حسنه من جمالها ** معار له بل حسن كل مليحة(29)
ويربط التلمساني بين الكمال والجمال والجلال، يقول نثرا: "قلت هو تعالى يخبر عن نفسه المقدسة بتجليه على خواصه وخواص خواصه، وفهمهم عنه إنما هو شهود جماله وجلاله وكماله"(30)، ويعبر عن هذا شعرا في قصيدة أغرقها بالاصطلاحات الصوفية، مما يجعلها كمنظومة تعليمية، أراد بها توجيه مريديه إلى بعض الحقائق التي تختص بها الذات الإلهية. يقول:
وجود وحسبي أن أقول وجود ** له كرم منه عليه وجـــود
تنزه عن نعت الكمـال لأنه ** بمعنى اعتبار النقص منه يؤود
ولكنه فيه الكمــال وضده ** له منه والمجموع منه صمود
وأشرف أشكال الكنائف ما به ** استدارت كراه فهي منه سعود
لحيطتها الأشكال فيها بأسرها ** وفيها إليها تبتدى وتعـــود
وقوتها تعطي التنوع كلـــه ** فليس عليها في الكمال يزيد
سوى قوة الإطلاق فهي محيطة ** بسطوتها كل الكرات تبيد(31)
في هذه الأبيات نلاحظ إيمان التلمساني بمسالة الإطلاق من حيث الوجود الواحد المطلق الثابت، وما التعينات الجزئية، والمظاهر الحسية، إلا تجليات لهذه الحقيقة المطلقة التي تجمع الكمال وضده، باعتبارهما من متقابلات الوجود، فمن خرج عن الإحاطة ممنوع ومعدوم، والداخل فيها قد أحاطت به، والجامع هو هوية الوجود(32).
أما ابن الخيمي فكان يذوب بروحه في جمال خالقه سبحانه، بل كان يعبد هذا الحسن ويتطلع بوجهه في مظاهره، حتى يستطيع الوصول إلى حقيقته المطلقة، يقول:
يا من أدار بحسنه المعبــود ** صهباء وصل في كؤوس صدود
ملأت محاسنك الوجود محاسنا ** لم يبق قلــب فيك غير عميد
يا من دعاني قبل أوجـد حسنه ** فقضى جمال وجوده بوجودي
إني بحسنك قد حييــت وإنني ** سأموت من شوق عليك شديد
وإذا رضيت بأن أموت هوى فقد ** أحييتني يا مبدئي ومعيـدي
أضحى جمالك مفرطا وصبابتي ** لورودها فمتى يكون ورودي
ولقد رأيـت مياهـها لكنهـا ** رؤيا صد عن ذوقها مصدود
أمعذبي بدلالــه ومنـعمي ** بجماله وبهائـه المشهــود
إن كنت في يوم العذاب معاتبي ** فمتى أفوز بيومه الموعود
لي من جمالك حسن وعد يرتجى ** ومن الدلال على حسن وعيد
خطوات ذكرك لا تفارق خاطري ** وجمال حسنك لم يزل مشهودي(33)
فالأبيات تعكس تطورا في الفكر الجمالي في هذا العصر، إذ يحاول الشاعر الموازنة بين الجمال المطلق وما يتخارج عنه من تعينات ظاهرة يمثلها الحسن بشتى مظاهره وأشكاله إذ إن الجمال الإلهي يمتد في أصلاب الوجود، قبل أن يأخذ الله العهد على البشر بالعبودية في قوله "أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى"، ثم أخذت تجليات هذا الجمال تتبدى في الكون فتخلب القلوب قبل الألباب.
ولكن نلاحظ ارتباط الجمال عند الشاعر هنا بقضية الاغتراب عن الذات الإلهية حيث يشعر أن روحه مغتربة عن عالمها الحقيقي، ولكنها لا تأنس إلا عند استئناسها بالجمال وهذا يجعلها في تطلع دائم للعودة إلى مصدرها حتى تطمئن في جوار الجمال المطلق. والشاعر هنا يلتقى مع فلاسفة العصر الحديث أمثال هيجل ولوكاتش, فلوكاتش يرى أن الجمال "هو علاقة التناغم بين الإنسان والعالم ولذلك ففي أوقات الأزمة والانشقاق بين الإنسان والعالم يهرع الإنسان إلى الجمال ليستعيد توازنه الروحي"، أما هيجل فإنه لجأ إلى اللانهائي في تصويره للجمال، وأعطى القدرة للمخيلة الإنسانية في التعبير عن الروح في تكاملها عن طريق التعبير الحسي، وهذا يعني أن هيجل يرى في الجمال هذا المعنى الذي يتجاوز الواقع، ويرتبط لديه بمفهوم الجمال المطلق"(34).
ويقول ابن الخيمي كذلك معبرا عن الجمال المطلق الذي تتناثر مظاهره في ربوع الوجود:
قوم على الجمرات من وادي منى ** نزلوا ومن قلبي على الجمرات
نصبوا على ماء النقــا أبياتهم ** وهم معاني الحسن في الأبيات
وتحجبوا عنا بنــور جمالهم ** كتحجب المصباح بالمشكـاة
لم يبق عزهم لذلي مطمعــا ** فيهم وليس لغيرهم حاجـاتي
والحسن يدعو كل قلب فارغ ** فيجيب ما فيه من الذرات(35)
ويتشابه عشق الصوفية للجمال مع عشق الرومانتيكية له حيث إن العنصرين الأساسيين للروح الرومانتيكية هما: حب الاستطلاع وعشق الجمال، ومن دلائل هاتين الخاصيتين الرجوع إلى القرون الوسطى، ففي جوهره المشحون ينابيع غير مستغلة ذات تأثير رومانتيكي حافل بالجمال الغريب الذي يستطيع الخيال القوي الحصول عليه من أشياء معينة غير مألوفة. ويحتل حب الاستطلاع والرغبة في الجمال - عند الرومانتيكية - موضعا في الفن يماثل موضعهما في كل نقد صحيح"(36).
وتلتقى نظرة كل من الصوفية والرومانتيكية للجمال أنهما معا يردان إلى الذوق في شعورها بالشيء الجميل، إذ مر الجمال عند الرومانتيكيين "إلى الذوق، والذوق فردي، وخلق الفنان للجمال يستتبع القريحة أو العبقرية(37)، ولكن وجه الاختلاف بين الرومانتيكيين والصوفية في النظرة إلى الجمال أن الرومانتيكيين ينظرون إلى الجمال نظرة نسبية، ولا يقصدون إلى الجمال في قيمته المطلقة، بل في قيمته النفعية أي أنهم نظروا إلى الجمال بما يروقهم، ولا يروق إلا ما هو نافع(38).
ولكن الصوفية آمنوا كما لاحظنا بمطلق الجمال، وأحبوه على صورته المجردة ولذا تكرر حب الجمال المجرد عن الأعراض، فهو أفضل أنواع المحبة، وهو حب الشيء لذاته أي لجماله المجرد، قال الشاعر:
إني أحبك حبا ليس يبلغه فهمي ** ولا ينتهي وهمي إلى صفتـه
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي ** بالعجز مني عن إدارك معرفته(39)
ويصور إبراهيم الجعبري حبه للجمال المجرد قائلا:
وأفاضل الناس الكرام أبـــوة ** وفتوة فمن أحــب وتاه
عشقوا الجمال مجردا بمجرد الرو ** ح الزكية عشق من زكاه
متجردين عن الطبــاع ولؤمها ** متلبسين عفافها وتقـاه(40)
ووصل عشق الشعراء الصوفية في هذا القرن للجمال إلى الخضوع له وتلبية ندائه؛ لأنهم يعلمون أن هذا الجمال هو مرآة ذي الجلال، وعن طريق التأمل في مظاهره التي تملأ الوجود يرقي السالك حتى يفني في الذات الإلهية صاحبة الجمال المطلق, وما جمال الوجود إلا فيض من فيوضاتها.
يقول إبراهيم الدسوقي جامعا بين الحب والجمال ومستجيبا لندائهما:
والله مالي منكم سواكم ** بالله رفقا بضعف حالي
وافيت في حبكم وفائي ** مالي وللحياة، مـالي
حبي دعاني إلى التداني ** لبيك يا داعي الجمال(41)
ويجعل محمد بن عبد الوهاب الأدفوي للجمال نبيا مما يؤكد أن هؤلاء ما كانوا يقصدون الجمال في صورته المادية بل في حقيقته المجردة، يقول:
يهوى رشا حارت عقول أولى النهي ** لما تبدى في بديـع صفاته
قامـت نبـوة حسنـه بدلائل ** دلت على مكنون سر سماته
بعث النواظر خفية توحي الهـوى ** لما أقام اللحظ في فتراته(42)
وهكذا لم يكن حب الصوفية للجمال وعشقهم له عشقا للظواهر والماديات الحسية، ولكنه كان عشقا مجردا لما وراء الظواهر، لذلك كانت تجربة التذوق الجمالي عندهم تجربة تـأملية هدفها الوصول إلى الجمال الأسمى والمطلق الذي تهفو إليه الأرواح، والذي هو علة الجمال في كل شئ موجود، وأدى بهم هذا الحب إلى السمو الروحاني والترقي إلى درجة الفناء والاتحاد بالخالق سبحانه.
الهوامش:
1 - عبد الحكيم حسان: التصوف في الشعر العربي، ص 74.
2 - أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها، 2003، ص 106.
3 - محمد غنيمي هلال: الحياة العاطفية بين العذرية والصوفية، ص 10.
4 - المرجع نفسه، ص 10.
5 - نيكلسون: الصوفية في الإسلام، ص107.
6 - محمد علي أبو ريان: فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، دار الجامعات المصرية، ط5، الإسكندرية 1977، ص 18 - 19.
7 - المرجع نفسه، ص 20.
8 - نفسه.
9 - نفسه.
10 - محمد علي أبو ريان: فلسفة الجمال، ص 20 - 21. إدراك الجمال إذن إدراك حدسي وخيالي, وهذا ما قرره كروتشي عندما رأى أن الجمال مرتبط بالطاقة النفسية داخل الإنسان, وأن الطبيعة جميلة في نظر من يتأملها بعين الفنان. د. عبد العزيز حمودة: علم الجمال والنقد الحديث, الهيئة المصرية العامة للكتاب, 1999م، ص 75.
11 - أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال أعلامها ومذاهبها، ص 108 - 109.
12 - ابن الفارض: الديوان، ص 210.
13 - وهذه النظرية لها مثيلتها عند فلاسفة العصر الحديث، فهيجل مثلا يسلك في مذهبه الجمالي مسلكا ميتافيزيقيا إذ يرى أن المطلق يتبدى ويكشف عن نفسه من خلال الطبيعة والتاريخ. راجع، د. أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال، ص 148 - 176.
14 - ابن الفارض: الديوان، ص 113 - 114.
15 – المصدر نفسه، ص 204.
16 - يوسف زيدان: عبد الكريم الجيلي فيلسوف الصوفية، ص 155.
17 - ابن الفارض: الديوان، ص 92.
18 - ابن عربي: ترجمان الأشواق.
19 - ابن الفارض: الديوان، ص 195.
20 -النابلسي: شرح ديوان ابن الفارض، ج2, ص 72 - 74.
21 - محمد عبد السلام كفافي: جلال الدين الرومي، حياته وشعره، دار النهضة العربية، 1971، ص 75.
22 - ابن الفارض: الديوان، ص 202.
23 - النابلسي: شرح الديوان، ج1، ص 213.
24 - يوسف زيدان: عبد الكريم الجيلي، ص 157.
25 - ابن الفارض: الديوان، ص 202.
26 - المصدر نفسه، ص 92 – 93.
27 - التلمساني: الديوان، ج1، ص 197.
28 - المصدر نفسه، ج1، ص 139.
29 - ابن الفارض: الديوان، ص 113.
30 - التلمساني: شرح مواقف النفري، ص 309.
31 - التلسماني: الديوان، ج1، ص 245 - 246.
32 - راجع تعليق المحقق على هذه الأبيات، المصدر نفسه.
33 - ابن الخيمي: الديوان.
34 - رمضان بسطاويسي محمد غانم: علم الجمال عند لوكاتش، ص 106 - 107.
35 - نفسه.
36 - راجع الرومانتيكية ما لها وما عليها، مقال بعنوان حاشية عن الكلاسيكي والرومانتيكي لوالتر باتر، ص 20 - 21.
37 - محمد غنيمي هلال: الرومانتيكية، ص 27.
38 - راجع المرجع نفسه، ص 158.
39 - لسان الدين بن الخطيب: روضة التعريف بالحب الشريف، ص 400.
40 - على صافي حسين: الأدب الصوفي في مصر، ص 428.
41 - الدسوقي: جوهرة الدسوقي، ص 130.
42 - الأدفوي: الطالع السعيد، ص 560.
|