وبعد، فماذا يمكن أن نستخلصه من سلسلة المقالات التي تتبعنا فيها آراء ابن خلدون في موضوع الدولة وأطوارها؟
أعتقد أن "مغادرة" ابن خلدون إلى "ما بعده"، أو إلى ما لم يقله ولكن "يقتضيه مذهبه" -حسب عبارة ابن رشد في شروحه على أرسطو- يقتضي منا استعادة أهم العناصر التي تنتمي إلى ما قاله صاحب "المقدمة" وتشكل قوام مذهبه في الموضوع الذي نحن بصدده.
لقد فصَل ابن خلدون كما رأينا بين تطور الدولة باعتبارها: 1) شخصاً يملك. 2) عصبية تحكم. 3) عصبية عامة غالبة، وأخرى مغلوبة. وكما رأينا فقد ربط تطور الدولة، في المستوى الأول، بتطور "الحسب" نازلًا من القوة إلى الضعف، وفي المستوى الثاني ربط تطور الدولة بتحول العصبية من التعاون والتعاضد إلى التنافس والتخاذل. أما تطور كلية الدولة في المستوى الثالث، أي باعتبارها أسرة حاكمة غالبة وعصبيات مغلوبة محكومة، فيعني أساساً انتقال الحكم كله من "المساهمة والمشاركة"، و"الرفق بالرعية" إلى "الانفراد بالمجد" والاستبداد بالحكم، ومن ثمة إلى "الهرم" والسقوط.
"الحضارة" التي شجبها ابن خلدون، وجعلها مسؤولة عن هرم الدول واضمحلالها، هي شيء آخر، غير الحضارة بالمعنى الحديث والمعاصر.
إن سياق تحليل ابن خلدون لتطور الدولة على هذه المستويات الثلاثة، يشير بوضوح إلى أن "الفساد في السمكة يبدأ من الرأس"، بمعنى أن أول ضعف يتسرب إلى الدولة ناتج عن "نهاية الحسب" في البيت المخصوص بالرئاسة والحكم. وذلك حين تنقلب الِخلال الحميدة، التي جعلت من صاحب البيت رئيساً على عصبته أثناء "خشونة البداوة"، إلى ضدها، فيصبح الرئيس (الملك)، تحت تأثير فعل الظروف الجديدة، ظروف الملك، مبتعداً منعزلًا أكثر فأكثر عن قلب عَصَبَتِه، مستبدلاً خواص قومه وكبراء عشيرته بعناصر "حضرية" غريبة أجنبية، مؤثراً "المتحضرين" من أعيان المدينة، مقرباً إياهم، مسنداً إليهم إدارة شؤون الدولة من وزارة وحجابة وجباية، منصرفاً هو نفسه إلى اصطناع "شارات الملك" وإلى الانشغال بأبهته والعناية بمظاهر السلطان.
وهكذا تكبر هذه الحاشية السلطانية ويتسع نفوذها حتى إذا مات صاحب الدولة، المؤسس لها، بدأت في السيطرة على مقاليد الأمور، باحتضان ورثة العرش لتستبد عليهم، أو بالعمل على الإطاحة بمن لا يخضع لها من الملوك المتعاقبين لتنصب مكانهم الصغار والعاجزين، مما يدفع بزعماء العصبة الحاكمة -الذين غالباً ما يكونون ولاة في الأقاليم- إلى الثورة والدعوة لأنفسهم والمطالبة بالملك أجمعه. والنتيجة المباشرة لكل ذلك انقسام أهل العصبية الحاكمة وانفكاك عرى تضامنهم، وانصراف كل منهم إلى الدفاع والحفاظ على مصالحه الشخصية ومكاسبه الخاصة، تلك المصالح والمكاسب التي نماها "الجاه المفيد للمال" وبلورها تقليدهم لأعيان "أهل الحضارة من المدن" الناشئين فيها أو الوافدين عليها من الدول المجاورة، هاربين، أو طالبين للجاه والثروة وطامعين في نمط حياة "النخبة".
والنتيجة الحتمية لكل ذلك "فساد العصبية" بالمرة، وانقلاب الرئاسة إلى ملك مستبد يعتمد على الموالي والمصطنعين ومرتزقة الجند، مع ما يتبع ذلك من حاجة متعاظمة إلى الأموال لتغطية نفقات عوائد الترف التي استحكمت، وأعطيات الجند التي تكثرت وارتفعت، ولوازم الحروب الأهلية التي انتشرت واتسعت، بالإضافة إلى ما تدعو الحاجة إليه من استمالة بعض كبراء القوم بالهدايا والأعطيات، فيعمد صاحب الدولة إلى الإكثار من الضرائب والمغارم، ثم إلى مصادرة أموال الأسر التي أثرت بخدمة سلفه أو بخدمته هو، فيتذمر الجميع، خاصة وعامة، ويفسد ولاء الرعية و"يقبضون أيديهم عن العمل" والإنتاج، وتدخل الفوضى مختلف مرافق الحياة العامة، مما يكون نتيجته دخول الدولة في طور الهرم، ذلك "المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها منه برء إلى أن تنقرض...".
وإذن فالفساد يصيب الرئيس أولاً، ثم أهل عصبيته ثانياً، ثم مجموع الدولة حاكمين ومحكومين!
ولكن لماذا يستتبع فساد الرئيس فساد عصبته حتماً؟ لماذا لا تستطيع العصبة الحاكمة، الغالبة، الحفاظ على وحدتها وتماسكها وهي التي يجمعها النسب القريب، فتعين من بين زعمائها شخصاً يتولى الملك؟
قد يكون الجواب عن هذا السؤال، أن العَصَبَة لا "تعين" رئيسها، وإنما يفرض الشخصُ نفسَه رئيساً على عصبته بما يتمتع به من الخلال وما يحظى به بيته من حسب وشرف المحتد، ولكن مع ذلك يبقى السؤال: لماذا لا تنتقل الرئاسة في هذه العصبة الحاكمة إلى أحد فروعها المخصوصة بالرئاسة قبل تداعي كيان الدولة وانهيارها؟ لماذا يسقط حكم العصبية المالكة بالمرة، ليقوم مقامه حكم عصبية أخرى قريبة أو بعيدة تبدأ هي أيضاً، في "تأسيس" دولتها من الصفر؟ بعبارة أخرى لماذا هذه "الدورة العصبية" بالذات؟
الواقع أن الفساد والخلل يتطرقان إلى الدولة ككل في مرحلة معينة من تطورها، وليس هذا الفساد راجعاً إلى تقلص الحسب، أو ضعف في العصبية، ولا نتيجة عوامل سيكولوجية- اجتماعية محض: (الانفراد بالمجد، الاستبداد، التقليد، النزعات القبلية أو المذهبية) بل إنه نتيجة جملة من العوامل الموضوعية، تنظيمية واجتماعية واقتصادية متداخلة مترابطة، تشكل في مجموعها ما يطلق عليه ابن خلدون اسم "الحضارة". "الحضارة" التي يقول عنها صاحب المقدمة "إنها غاية العمران ونهاية لعمره، وإنها مؤذنة بفساده"؟
العصبية، الدولة، الحضارة، ثلاثة مفاهيم مترابطة، يعطيها ابن خلدون معاني ودلالات خاصة، ومن ثمة يتوقف على فهمها وتحديد مقصوده منها، فهمُ نظرياته وآرائه.
لقد شرحنا، بقدر ما يتسع له المقام، هذه المفاهيم في المقالات السابقة، ونريد أن نبين هنا أن ابن خلدون لم ينتقد الحضارة لأنه كان ذا "نزعة تشاؤمية" ملازمة لتفكيره كما قال بعضهم، ولم ينتقدها لأنها لفظته وقذفت به بعيداً إلى إحدى القلاع البدوية المحصنة، قلعة ابن سلامة، حيث كتب مقدمته، كما قال آخرون. لا، ولم ينتقد ابن خلدون سكان المدن لكونهم "مذنبين" في نظره، ولأن ذنبهم هو عجزهم عن تشكيل قوة سياسية "طبقة بورجوازية تمكن الملك من مقاومة هجومات الأرستقراطية القبلية" كما ذهب إلى القول بذلك إيف لاكوست. كلا، ثم كلا! إن ابن خلدون لم ينتقد "الحضارة"، ولم يتحامل على سكان المدن، بدافع من هذا العامل أو ذاك، وإنما حلل ظروفاً اجتماعية وسياسية خاصة، وأبرز خصائص نمط من الحياة خاص بتلك الظروف نفسها. وبعبارة أخرى إن "الحضارة" التي شجبها ابن خلدون، وجعلها مسؤولة عن هرم الدول واضمحلالها، هي شيء آخر، غير الحضارة بالمعنى الحديث والمعاصر.
الحضارة كما يعرفها صاحب المقدمة هي "التفنن في الترف واستجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه من الصنائع المهيئة للمطابخ أو الملابس أو المباني أو الفرش أو الآنية ولسائر أحوال المنزل". إنها نمط من العيش وأسلوب في الاستهلاك، خاص بالفئة الارستقراطية الحاكمة، ومن يدور في فلكها من الموالي والمصطنعين والموظفين الذين "يكسبون" عيشهم بـ"مذهب غير طبيعي في المعاش" هو "الإمارة". إنها أسلوب حياة أولئك الذين يعيشون من "الجاه" فقط، أولئك الذين لا يعملون ولا ينتجون، في الوقت الذي يستهلكون فيه بغير حساب.
هذا النمط من الحياة مفسد للعمران في نظر ابن خلدون: مفسد لأخلاق الأفراد الذين هم قوام الاجتماع الإنساني، ومفسد للدولة ليس بمجرد "التفنن في الترف" بل أيضاً بما يلحق ذلك التفنن أو ينتج عنه من تغيير في علاقات أفراد العصبية الحاكمة بعضهم مع بعض من جهة، وبينهم وبين العصبات المغلوبة المحكومة من جهة ثانية. وبعبارة أعم، يمكن القول إن الحضارة عند ابن خلدون تعني في هذا المجال، مجال تطور الدولة، مجموع المعطيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ترافق هرم الدولة وتلازمه ملازمة العلة للمعلول (انظر المقال المنشور في هذه الصفحة عدد 12077 بتاريخ 29 يوليو 2008).
أما السؤال الذي طرحناه في المقال السابق، حول إمكانية ملء بعض "قوالب" خطاب ابن خلدون حول تطور الدولة وهرمها بوقائع من التاريخ العالمي، ومن معطيات واقعنا الراهن، عربياً ودولياً، فهو سؤال لا يمكن الخوض فيه بطريقة علمية ومنهجية إلا بشروط لابد من القول فيها أولًا.