واحدة من أهم الاشكاليات في تجربتنا السياسية العربية أننا تعاملنا مع مسألة الهوية العربية من الزاوية السلبية. كل فكرنا السياسي “القومي” كان يشدد على الوجه النقيض لهذه الهوية. مرة كان العثماني، ومرة كان الاستعمار الغربي، ومرة كانت الصهيونية،
وها نحن الآن نحاول إيجاد ضدّية ما لهويتنا العربية. البعض يجد ذلك مجسداً في دولة معينة ومشروع إقليمي، والبعض يقيم تضاداً مع الإسلام السياسي الحركي بمنوعاته، المهم ان تكون العروبة في التعريف هي ضد هذا أو ذاك. في تجربتنا أيضاً أقمنا نوعاً من التناقض بين الهوية القومية، أي العروبة، وبين الكيانات القطرية السياسية وكذلك مع التجمعات الاقليمية الجهوية.
لقد صغنا فكرنا السياسي العربي على فرضيات مسبقة وعلى قواعد ومرجعيات مقتبسة من تجارب ومسارات أخرى. هذا النوع من الفكر القومي سقط وانتهى واقعياً وأخلى المكان لسياسات تجريبية يغلب عليها الطابع العفوي غير الواعي لحاجاتنا الإنسانية العربية. طبعاً هناك إسلام سياسي يتحرك الآن ليملأ الفراغ الفكري على صعيد المشروع العربي. لكن مركز النقل في الواقع الآن هو للقبول غير المفكر فيه بالمعطيات الراهنة، أي بالتكوينات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كما استقرت عليه في نصف قرن تقريباً. لكن ذلك لم يمنع العرب من أن يتلمسوا الحاجة إلى صيغ عربية كان من أبرزها التجمعات الإقليمية التي نجح بعضها حتى الآن كما في تجربة مجلس التعاون الخليجي مع فتح باب الأسئلة على إمكانات التطوير، وفشل بعضها الآخر كالاتحاد المغاربي مثلاً.
كان لافتاً مؤخراً أن تطرح للمناقشة مسألة الهوية في دول الخليج العربي من زاوية الوجود الفعلي لمجتمع خليجي فيه الكثير من العناصر المشتركة. وأهم ما في تلك المناقشة أنها ركزت على الوقائع لا الايديولوجيات وانطلقت مما حققه الخليج على هذا الصعيد بالمعنى الإيجابي في التكامل الاقتصادي والسياسي. هكذا إذاً نبدأ كعرب في طرح مسألة هويتنا من جهة معاصرة ليس بوصفها جزءاً من التراث والتاريخ والماضي، وليس بوصفها نقيضاً لشيء آخر على حدودنا ومن حولنا، بل بوصفها مسألة احتياجات يفرضها التطور الاجتماعي والسياسي وتحديات النظام العالمي الجديد. ان النقلة النوعية في مفهوم الهوية اليوم هو في ربطه بمشروع الدولة القائمة حالياً والبناء عليها لا على مفهوم سابق وبائد لنقضها.
ان منطق التجاوز الطبيعي هو ذاك الذي يبنى على احتمالات التطور نحو مرحلة أكثر تقدماً بعد إنجاز الأسس والمقومات السابقة. ما يعيب الوضع العربي الراهن بصورة أساسية هو غياب مفهوم الأمن القومي الذي يمكن أن يشكل قاعدة للتعاون بين الدول والتجمعات الاقليمية إذا وجدت. ونحن نقصد بالأمن القومي ليس الجانب العسكري منه فقط، بل أمن الحدود والثروات الطبيعية الاستراتيجية التي منها النفط والمياه والمعادن والسلع الغذائية التي باتت تشكل حاجة كونية متزايدة. طبعاً، استطاع العرب أن يتفقوا على اعتماد سياسات نفطية مشتركة أقله على صعيد الانتاج والأسعار والأسواق. لكن أموراً كثيرة أخرى يمكن أن تكون محل حوار عربي وسياسات عربية مشتركة. لا تزال العلاقات البينيّة العربية على الصعيد الاقتصادي ضعيفة جداً، ولا تزال الخطط لتكامل اقتصادي عربي شبه معدومة.
العروبة المعاصرة، العروبة الواقعية، تنبع من حاجات المجتمعات العربية إلى التعاون. نحن الآن نقيم علاقات تعاون مع دول مجاورة في مسألة النفط والمياه والغاز والطاقة الكهربائية، فيما الحاجة إلى مثل هذا التعاون كبيرة جداً بين العرب أنفسهم. إن مشروع الربط الكهربائي بين مجموعة من دول المشرق العربي لم يتحقق بعد رغم أنه حاجة ملحة ويعطي مردوداً اقتصادياً كبيراً.
لا تشكل العروبة التاريخية، سواء أكانت هوية قومية أم هوية ثقافية، إلاّ بنية تحتية يجب البناء عليها بحجارة معاصرة. إن ما يشد المجتمعات بعضها إلى بعض ويكوّن وحدتها اليوم هو المصالح الاقتصادية والمعايير الأساسية لحقوق الإنسان التي هي المرجع الأساسي لروح المواطنة، لأن الدولة الحديثة هي عقد وطني واجتماعي بين الأفراد على التسليم بقيادة الدولة للمجتمع.
لقد صار واضحاً أن السياسة والايديولوجيا عناصر تفرقة في الوضع العربي، وليستا عناصر توحيد. تتشخصن السياسة وتتحول الاتجاهات الايديولوجية إلى عصبيات نابذة، فيما يشكل البعد الاقتصادي الاجتماعي عامل جذب قوياً يؤسس بدينامية القاعدة المادية الضاغطة من أجل تطوير روح التعاون والتكامل ويُعزز المصالح المشتركة ويخلق ثقافة الوحدة كلما تطورت البنى الاجتماعية باتجاه الحداثة، وتكرست حقوق المواطن في مواجهة الثقافات التقليدية المرتبطة بالقبلية أو الطائفية أو الولاءات الجهوية.