لا يبدو أن الغرب بذل مجهودا كبيرا من أجل فهم احتياجات العالم منذ نهاية الحرب الباردة، ذلك أن السياسات الغربية ظلت كما هي عليه دون محاولة في التغيير،
وزاد الغرب على ذلك انه ظل يحاول أن يكتسب جميع الأراضي التي لم تكن له في السابق وكانت تحت نفوذ الاتحاد السوفييتي السابق. والغريب انه في الوقت الذي يعلن فيه الغرب مبادئ عالية فإن كل السياسات والتصرفات تدل على انه يفعل عكسها، وقد ظهر ذلك أخيرا حين ظلت الولايات المتحدة تخفض قيمة الدولار من أجل التغطية على عجزها على حساب دول العالم كله، غنية وفقيرة وقد أدى هذا الوضع إلى ارتفاع هائل وغير مسبوق في أسعار النفط، وهو ارتفاع اكتوت بناره الدول الفقيرة التي أصبحت تستورد النفط بأسعار عالية، وقد ذهبت كل تلك الأموال إلى الخزائن الأمريكية، ذلك أن معظم الدول المنتجة للنفط في مختلف أنحاء العالم لم تكن لديها مشروعات جاهزة تستوعب تلك الأموال وبالتالي ذهبت الأموال إلى المصارف الأمريكية وهــو ما جعل ثروات الشعوب الفقيرة تنتقل إلى الولايات المتحدة في وقت تبــاهي فيه واشنطن بأنها تعمل من اجل مساعدة دول العالم الثالث. ولم يقتصر هذا السلوك الأمريكي على الدول الفقيرة بل تجاوزه إلى دول كبيرة لها إمكانات قادرة على تهديد المصالح الأمريكية، كما ظهر أخيرا في المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة، وهي مواجهة تأخرت كثيرا إذ ظل العالم يتساءل عن الأسباب التي تجعل بلدا في حجم روسيا يقبل الاملاءات والسياسات الأمريكية دون أن تكون له مصلحة مباشرة في هذه السياسات المتراجعة، ولكن العملاق الروسي خرج فجأة عن صمته وتحدث بلغة التحدي التي أصابت الغرب بالذهول بل وجعلت الولايات المتحدة نفسها تدرك أن تحولا خطيرا بدأ يحدث في العالم، وإذا كان البعض قد أشار إلى هذا التحول بكونه بداية حرب باردة جديدة فإن الكثيرين يرون الأمر أخطر من ذلك، لأنه ليس ضروريا أن يكون حربا باردة بكون أي خطأ في الحسابات قد يدخل العالم في أتون مرحلة جديدة يصعب التكهن بنتائجها، وكما نقلت صحيفة 'الغارديان' البريطانية فقد شبه السفير الروسي في حلف الناتو ما يحدث بين روسيا والعالم الغربي بأنه يشبه الأحداث التي سبقت الحرب العالمية الأولى، كما شبه الرئيس الجورجي 'ميخائيل سكاشفيلي' بالقاتل 'غافريلو برنسب' الذي كان سببا في إشعال الحرب العالمية الأولى عندما قتل ولي عهد التاج 'الهنغاري- النمساوي' في 'سراييفو'، ولكن الغربيين يرون في الوقت ذاته أن اعتراف روسيا باستقلال اوسيتيا وأبخازيا لا يقل خطورة عن ذلك، وقد أنهى بالفعل المبادرة الفرنسية التي رعاها الرئيس ساركوزي، والمسألة هنا لا تتوقف عند الأحداث التي تحرك الخلافات بل هي تتجاوز ذلك إلى الاستراتيجيات التي تقف حولها، ذلك أنه من السذاجة أن تفكر الدول الغربية في التوسع في اتجاه روسيا وإحاطتها بحزام صاروخي يهدد أمنها وتتوقع منها أن تسكت على هذا الواقع، فقد لا تكون لروسيا التقنية المتقدمة التي تحرك بها ترسانتها العسكرية ولكنها لا تحتاج إلى ذلك بكون أوروبا كلها ترقد في حديقتها الخلفية وهي تملك من الأسلحة النووية ما يمكنها من مواجهة أوروبا في بضع ساعات بل وإحالة العالم كله إلى جحيم دون أن تضرب أهدافا محددة. ولا شك أن هذا الموقف الروسي الجديد قد يحرك الكثير من أصدقاء الإتحاد السوفييتي القدامى في اتجاه روسيا، وذلك ما حدث بالفعل عندما رأينا الرئيس السوري يتوجه نحو روسيا ويعلن دعمه لها في موقفها، بل ويطالبها بان تقيم قاعدة عسكرية فوق بلاده، ولا شك أن هذا الموقف من جانب روسيا يسعد إيران أيضا وهي ترى فيه فكاكا لها من الضغوط الأمريكية المستمرة، ورأينا في الوقت ذاته تطورا آخر عندما اتهمت كوريا الشمالية الولايات المتحدة بأنها لم تلتزم باتفاقية إزالتها من قائمة الدول الراعية للإرهاب وبالتالي قررت العودة من جديد لمزاولة برنامجها النووي وهو وضع أثار القلق في اليابان وكوريا الجنوبية، ولكنه يقرأ في سياق التطور في السياسة الدولية بكون كوريا لم تتخذ هذا الموقف بناء على تراجع عن اتفاق وقع معها، بل اتخذته لأنه من وجهة نظرها موقف طبيعي إذا كانت الحرب الباردة أو الساخنة ستعود من جديد. وهي قراءة لها ما يدلل عليها خاصة بعد أن أعلن الرئيس 'ميدفيدف' أنه لا يخشى من العودة إلى الحرب الباردة، وذلك ما أكده أيضا وزير الخارجية 'سيرغي لافروف'.
والمسألة هنا لا تتعلق بالحرب الباردة أو عودتها بل تتعلق في أساسها بفشل السياسات الأمريكية التي تتميز بقصور كبير في الرؤية، ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تتحرك من خلال مصالح وطنية حقيقية بل تتحرك من خلال مصلحة محدودة لبعض النخب في داخلها وأيضا من خلال الضغوط الصهيونية على سياستها، وهي تضحي - من أجل أن تحافظ على هذا الوضع - بما يعتبر مصلحة حقيقية لها - بكون معظم الدول التي تعاديها الولايات المتحدة ليست لديها مواقف عداء حقيقي مع واشنطن وهي تشعر بأنها تدفع دفعا من أجل السير في هذا الطريق، كما أنه من الخطأ أن تتصور دولة مثل إسرائيل أن مصالحها المستقبلية تتحقق فقط من خلال القوة أو من خلال الاعتماد على الولايات المتحدة مع أن الخيارات الأخرى المتاحة أفضل وتستند أساسا على تحقيق السلم وإعطاء الحقوق لأهلها. ولكن الولايات المتحدة لا تريد أن تختبر هذه الخيارات، وتلك مشكلة سائدة في العالم الغربي حيث العالم مقسم سلفا في صور نمطية مقبولة لدى العالم الغربي، ولكن الخطورة أن ينفرط العقد من جديد وتدخل الصين قوة فاعلة في هذا الصراع، ومن المؤكد أنها ستنضم إلى المعسكر الروسي، ومن الخطأ أن يظن أحد أن المواجهة القادمة ستكون مثل المواجهة التي كانت سائدة أيام الحرب الباردة، ذلك أن العالم تجاوز تلك المرحلة ولن يعود إليها من جديد. ومن الخطأ أن يتصور العالم الغربي أن الثمن الذي يقدمه من أجل تغيير الخريطة العالمية يمكن أن يكون مقبولا، فقد دلت التجارب على أن الحديث عن الديمقراطية قد يكون سرابا عندما يرى العالم أن الولايات المتحدة تهزم منطقها بدعمها للقوى غير الديمقراطية في العالم وتخوض حروبا لا داعي لها وتتعارض مع كل المبادئ الديمقراطية. كما أن دعوة كثير من الدول التي كانت في الماضي ضمن المعسكر الشرقي لتصبح جزءاً من الناتو أو من السوق الأوروبية المشتركة هي في الحقيقة وصفة لكثير من المشكلات المستقبلية، وقد ظهر ذلك الآن من خلال موجات الهجرة العالية إلى بعض الدول الغربية التي يتوافر فيها نظام للضمان الاجتماعي المتقدم وهي هجرة غير ضرورية، وبدأت تحدث قلقا في كثير من المجتمعات المتقدمة التي ترى أن هذا النوع المفتوح من الهجرة غير مفيد وغير ضروري وذلك ما قد ينذر بكثير من المشكلات المستقبلية التي لا يستطيع الكثيرون أن يتكهنوا بها. ومؤدى قولنا أن ما يحدث اليوم في القوقاز ليس من أنواع الصراع الهامشية بل هو صراع استراتيجي لا بد أن يحسم، وكل الدلائل تشير إلى أن طريق حسمه يمتد في منعطفات خطيرة تنذر بتفجير مواجهة حاسمة بين روسيا والعالم الغربي، وهي مواجهة قد تقع بسبب أخطاء في التصور أو الاحتمالات، وذلك شيء ممكن لأن العالم الغربي لا يبذل جهدا كبيرا في محاولة فهم العالم بأسلوب جديد، أو إعطاء الآخرين حقهم في تأكيد مواقفهم، وهو يتبع سياسات عفا عليها الزمن ولم تعد صالحة في عالم يتغير، وبدأ يكتشف الزيف الذي يختبئ وراء دعوات الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان وكل تلك دعوات تطبق في اتجاه واحد بينما لا يحاسب عليها كثير ممن يعرف العالم أنهم قاموا بخروق حقيقية ضد حقوق الإنسان. ' كاتب من السودان