التأم في البرلمان الكندي بالعاصمة أوتاوا، نخبة متميّزة من الأكاديميين والمفكرين والباحثين العرب والأجانب من جنسيات مختلفة، بحضور ملحوظ لعدد من السفراء العرب والمسلمين والبعثات الدبلوماسية في كندا، في مؤتمر مهم (24-26 يونيو 2008) تحت عنوان: «الهوية الكونية (الكوزموبوليتية) في العالم الإسلامي»، دعا إليه «المركز الدولي للتجديد الحكومي» باقتراح من سفير المؤتمر الإسلامي السابق في الأمم المتحدة السفير مختار لماني.
وكان المؤتمر حدثاً مهماً في كندا، كما أشارت إلى ذلك الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة، لاسيما في ضوء ما تركه من ردود فعل إيجابية وما اقترحه من سياقات لمواصلة الحوار وتبادل وجهات النظر.
ولعل الدلالة الأولى لانعقاد هذا المؤتمر، هي أن هناك سوء فهم حقيقياً بين ما نطلق عليه «الإسلام» ككتلة، وما نطلق عليه «الغرب» ككتلة موازية.
فالإسلام الذي يمثل حضارة كونية إنسانية رفدت البشرية بالكثير من عناصر التقدم، مازال غائباً ومُغيّباً، في حين أن الصوت الأبرز الذي يتحدث باسم الإسلام يمثل التطرف والتعصب، لاسيما بتجسيده في حركات ومنظمات استخدمت الإرهاب وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية «متعكزة» على الدين «كإسلامولوجيا»، وبالضد من تعاليمه التي تحض على التواصي والتآزر والتعارف والتسامح.
ومازال الإسلام المعتدل، الوسطي، معزولاً ومهمشاً في حين تتصدر فتاوى الإلغاء والإقصاء والتحريم والتجريم الواجهات وتشكل المشهد السائد في غياب فسحة الحرية والحق في الاختلاف.
أما الغرب، فلا يمكن أن نتحدث عنه بالمطلق، وإذا كان الغرب السياسي يسعى إلى فرض الهيمنة والاستتباع وإملاء الإرادة، ويقوم على إيديولوجيات وفلسفات ومصالح، فإن الغرب الثقافي يمثل منظومة متميّزة عن المصالح الآنية الضيقة، رغم محاولات توظيفه أحياناً لمصلحتها، لكنه يبقى حاملاً لقيم ومبادئ بشّرت بالحرية والديمقراطية والمساواة والتعددية واحترام حقوق الانسان وحقوق المرأة والأقليات، الأمر الذي شكّل منبعاً للحركات الإصلاحية والمدنية على الصعيد العالمي ومنه العالم العربي والإسلامي، وهنا المفارقة حين يتم التعامل من جانب بعض القوى المتسيّدة على أساس المعايير الازدواجية والسياسات الانتقائية، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية.
إن السعي إلى بحث وتفكيك الظواهر المعقدة والمركّبة وعدم إطلاق الأحكام التعميمية الجاهزة، يحتاج إلى حوار جدي معرفي وثقافي، لاسيما من جانب النُخب الفكرية والأكاديمية، وهذه هي أولى الدلالات التي جسّدها الحوار الكندي-الإسلامي.
الدلالة الثانية، تتعلق بأن الفهم الملتبس للإسلام لا يقتصر على النخب الفكرية والأكاديمية في الغرب، بل لدى أوساط المسلمين وتياراتهم السياسية والدينية، لاسيما في إطار نخبهم الفكرية والأكاديمية أيضاً، الأمر الذي يحتاج إلى وقفات مطوّلة وعميقة للحوار على جوانب مختلفة من علاقة الإسلام بالغرب، وعلاقة الإسلام بالمسيحية، وعلاقة المسيحية بالشرق والعالم العربي الإسلامي، ولعل ما كشفت عنه وقائع المؤتمر وحواراته واللقاءات بين المشاركين، يؤكد الحاجة الماسة إلى التواصل وتبادل الرأي.
أما الدلالة الثالثة، فيمكن استنباطها من خلال الفهم القاصر لبعض الإسلاميين أو الإسلامويين، الذين يعجزون عن رؤية ما يمكن أن يقدّمه ويضيفه الفكر الإسلامي كرافد مهم للبشرية، من خلال تطوير المجتمعات المسلمة ذاتها وفتح حوارات جادة بين نخبها الفكرية والأكاديمية وصنّاع القرارات وراسمي السياسات، كل من طرفه، لاسيما التنوع والغنى التاريخي للإسلام كحضارة، خصوصاً عندما تكون البيئة أكثر وعياً وتجاوباً وإيجابية في إطار العلاقات الدولية.
الدلالة الرابعة، هي وجود قنوات جادة وحريصة على تطوير الفهم المشترك، لاسيما استثمار حوار العقول والأدمغة المفكّرة ومن أوساط مختلفة ومعنيّة بالإسلام والعلاقات الدولية وقضايا الحقوق والحريات ومناهضة الإرهاب، فالمشترك الإنساني يُفضي إلى تبرئة الإسلام كدين من تهمة الإرهاب الدولي، وهذا الأخير لا دين له ولا وطن ولا قومية ولا جنسية ولا إيديولوجيا، سوى الإرهاب وإزهاق الأرواح وإحداث الفزع بالسكان المدنيين الأبرياء وإلحاق الأذى بهم.
وقد كان في بعض الأوساط المتدينة من المسلمين مَن يعتقد أن بامكانه اثبات الأفضليات من خلال العنف والإرهاب، لاسيما عندما تنقصه الحجة وتعوزه القدرة ويفتقد الدليل ويضيع الأصل وتُهضم الحقوق، مثلما يوجد في أوساط يهودية ومسيحية متعصبة ومتطرفة مثل هذا التصور، لكنه في الأحوال جميعها لا يمكن دمغ اليهودية أو المسيحية كدينين سماويين بالإرهاب.
الدلالة الخامسة، هي التوجه إلى الأكثرية المسلمة، حيث تعيش في بلدانها، وإلى الأقليات المسلمة حيث تعيش في إطار جغرافي في الغرب، بهدف تلمّس الطريق الصحية، لاسيما بعدما أحدثته فاجعة 11 سبتمبر الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة، من خلال نشر الحقائق والمعلومات وتعميق المعرفة والترويج لثقافة الشراكة الانسانية، بالضد من ثقافة الترويع والغلو والتعصب والعنف، سواء في المجتمعات المسلمة أو المجتمعات الأخرى، وهو الأمر الذي يحتاج إلى معالجات فكرية سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة لظاهرة الإرهاب وأسبابه ومنابعه وجذوره وليس بتقسيم المسلمين إلى: معتدلين ومتطرفين، مسالمين وميلشياويين، إلى غير ذلك من الوصفات السطحية الجاهزة التي لا تعكس تنوع وثراء المجتمعات المسلمة وغناها الفكري والروحي، حداثية أم محافظة، إصلاحية أم تقليدية، نهضوية أم أصولية، وهو أمر بحاجة إلى حوارات متواصلة وجادة على الصعد المختلفة.
وقد أدرك المؤتمر ضرورة وأهمية ذلك، حين قرر تشكيل لجنة استكشافية للمتابعة كانت نواتها تضم السفير الأخضر الابراهيمي خبير الأمم المتحدة، ومحمد أركون المفكر الجزائري وباول هاينبيكر سفير كندا السابق في الأمم المتحدة والبروفيسور روجرادين من جامعة هارفارد والأكاديمي الهندي سلمان حيدر، إضافة الى السفير مختار لماني.
إن المجتمعات المسلمة مثل غيرها من المجتمعات تسعى إلى التكيّف مع الواقع المتغيّر مع حفاظها على هويتها الثقافية والفكرية وخصوصيتها، لكنها في الوقت نفسه لا تتحلل من الالتزامات الدولية التي يفرضها المشترك الإنساني لبني البشر جميعاً، في حين أن بعض الحركات الإسلاموية يريد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء تحت دعاوى العودة إلى «عصر النقاء»، من دون أن يدرك أن ذلك جزء من المتخيّل الماضوي، وقد تعامل المؤتمر مع موضوعات «مشتبكة» غاية في الأهمية مثل: الإرث الفكري الإسلامي في السياق العالمي المعاصر، والإسلام والحداثة والديمقراطية، والثقافة المدنية المشتركة، والمواطنة بين القومية والكوزموبوليتية في العالم الإسلامي، إضافة إلى علاقة كندا بالعالم الإسلامي وبناء السلام العالمي المنشود.
ولعل سؤالاً ضرورياً يواجه الباحث والمتابع: لماذا كندا؟ والجواب تقدمه بعض الوقائع والمعلومات، فاولاً، لأنها أبدت مثل هذا الاستعداد والتعاون لتنظيم المؤتمر الحيوي. وثانياً، لأن كندا لم تستعمر بلداً من بلدان الجنوب، عربياً أم مسلماً مثلها مثل بعض البلدان الاسكندنافية التي أقدمت على بعض المبادرات. وثالثاً، أنها مانعت الحرب على العراق، لاسيما بعدم وجود تفويض دولي من الأمم المتحدة يبرر مشاركتها قانونياً وشرعياً. ورابعاً، لأن كندا رغم علاقتها السياسية والاقتصادية الوطيدة مع الولايات المتحدة وحساسية ودقة ارتباطاتها التجارية والمالية المصيرية، بدت في بعض مواقفها أكثر استقلالية من غيرها، فمثلاً يوم فرضت الولايات المتحدة حصاراً شاملاً على كوبا منذ الستينيات، ولاتزال حتى الآن، أبقت كندا على علاقاتها مع هافانا رغم الحصار الأميركي، وكان ذلك بمنزلة رئة أو جزء منها تنفست عبره كوبا.
وإذا كان ثمة أصدقاء للعرب والمسلمين وللحقوق والحريات مثل باول هاينبيكر سفير كندا السابق في الأمم المتحدة، فثمة من هم في موقع الخصم أو العدو، حيث انتهز هؤلاء مواقف هاينبيكر المنددة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية الذي يعتبره مخالفاً لقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف، لاسيما هدر حقوق الإنسان، وقام بشن حملة ضده شارك فيها السفير الإسرائيلي في كندا، وكتبت صحيفة «ناشيونال بوست» اليمينية المحافظة مقالة لأحد الكتاب قال فيها: «ككندي لا يشرفني أن يكون بول هاينبيكر قد مثّل بلادي في الأمم المتحدة، لأنه يدافع عن التطرف والدكتاتوريات».
ولعل في هذا السجال رغم تجنيه على الحقيقة والحقوق، ينطوي على دلالة سادسة، فهذه هي كندا رغم وجود حكومة محافظين وأطراف يمينية متنفذة، لكن الأجواء العامة تبقى ليبرالية، الأمر الذي ساعد في انعقاد المؤتمر تحت قبة البرلمان، في إطار حق الاختلاف وحق التعبير والرأي وحق الاعتقاد، وتلك من الحقوق الأساسية التي لا يمكن التجاوز عليها.