عرضنا في المقالات الأخيرة للمنظور الذي قرأ ابن رشد من خلاله "الواقع السياسي العربي"، وكان المقال الأخير أكثر إفصاحاً عن رأيه في نظام الحكم السائد في زمانه وفي الأندلس خاصة، معمماً ذلك على التجربة الحضارية العربية الإسلامية.
وقد أبرزنا كيف أنه مع ذلك كله لم يكن يائساً بصورة مطلقة من قيام حكم عادل صالح، حكم الأخيار من النخبة الاجتماعية، أو "المدينة الفاضلة"، وذلك إذا استقر الحكم في أيدي هذه النخبة وتوارثه أخيارها، كل يحافظ على ما فعل سابقه ويضيف إليه في مسيرة الإصلاح نفسها، وهذه النخبة هي بالضرورة من أصحاب "البيوتات"، لأن الشأن السياسي والاقتصادي والإداري قد آل في بلده وزمانه وفي الحضارة العربية كلها، إلى أصحاب البيوتات.
لقد سبق أن قلنا مراراً إن ابن رشد لم يكن يتقيد بنفس منظور أفلاطون، وإنه انفصل عنه مرات عديدة، إما بتأثير منزعه الأرسطي، وإما بتأثير بيئته الفكرية والاجتماعية العربية الإسلامية، وإما لأن المطلوب منه لم يكن تأليف كتاب في "السياسة" بإطلاق، بل من أجل "السياسة": من أجل صديقه الأمير المتفلسف الذي كان يعد نفسه لخلافة المنصور الموحدي الذي كان ذا نزوع عسكري. لقد قام هذا الخليفة بحروب وفتوحات بلغت بها حدود الإمبراطورية الموحدية -التي كانت عاصمتها مراكش- إلى حدود مصر. ويقال إنه كان يعد العدة لضمها إلى إمبراطوريته هذه! هذا فضلاً عن وراثتها لموريتانيا ولقسم كبير من الصحراء الكبرى من سابقتها الإمبراطورية المرابطية التي جاءت من موريتانيا لتوحد المغرب ولتنقله إلى الأندلس، عندما استنجد علماء هذه الأخيرة بأميرها يوسف ابن تاشفين، لصد تقدم الأسبان في حروبهم لاسترجاع الأندلس بعدما أصاب هذه الأخير من التشتت والفرقة والتناحر بسبب حروب "الطوائف".
كانت مراكش فعلاً هي عاصمة المغرب الرسمية، السياسية الإدارية، للإمبراطوريتين المرابطية والموحدية، لكن العاصمة الحضارية، الثقافية والعلمية والفنية، لهاتين الدولتين المغربيتين الكبيرتين كانت في الأندلس: اشبيلية/قرطبة. وهكذا فعندما كان ابن رشد يقرأ "الواقع العربي" بمناسبة تلخيصه لكتاب "الجمهورية" لأفلاطون، كان يفعل ذلك، لا من واقع "الجزر اليونانية"، بل من واقع مدن حضرية وحضارية: حضرية بخلوها من البدو والهجمات البدوية، وحضارية بمعنى أن سكانها البدو من العرب والأمازيغ قد أخذوا في "التحضر" منذ أن استقر الفتح العربي الإسلامي فيها منذ "عبدالرحمن الداخل"، الأمير الأموي الذي تمكن من النجاة والإفلات من التصفيات التي قام بها العباسيون للعنصر الأموي بعد سقوط دولته. وهكذا فمنذ هذا "الداخل" إلى الأندلس (عبدالرحمن بن معاوية، حفيد هشام بن عبد الملك، الذي لقب بـ"صقر قريش" وعاش في القرن الثاني للهجرة)، أخذ الحضور العربي في الأندلس يتسع وينمو، ناقلاً معه حضارة دمشق، متنافساً مع الخلافة العباسية ليس على المجال السياسي وحسب، بل أيضاً، وهذا أهم، في المجال الحضاري العام الذي يشمل الثقافة بمختلف تجلياتها الفكرية، العلمية، والدينية، والفنية، والاجتماعية والمعاشية الخ، منذ ذلك الوقت وقرطبة وغيرها من حواضر الأندلس تنافس القاهرة وبغداد، فضلاً عن فاس ومراكش والقيروان... إلخ! إنها دمشق، في أوج عزها في العصر الأموي، هي انتقلت وانغرست في مختلف حواضر الأندلس، حتى صارت الأندلس كلها حاضرة: الأرياف فيها تابعة للمدن، ولا وجود للبدو بالمعنى العربي للكلمة.
القرنان الفاصلان بين ابن رشد وابن خلدون، عرفا تحولاً خطيراً في مسار الحضارة العربية، لخصه ابن خلدون بتوصيفه لأحوال المغرب والمشرق في عهده.
أعتقد أن هذا الاستطراد ضروري لفهم موقف ابن خلدون الذي جعلناه موضع السؤال في خاتمة المقال السابق حينما قلنا: إن ابن رشد لم يكن يتكلم "بالقصد الأول" عن الواقع العربي، وأن الشخص الذي تكلم عن هذا الواقع العربي جملة وبـ"القصد الأول" والذي سيكون علينا الاستماع له فهو... ابن خلدون!
سيكون علينا عند الانتقال من ابن رشد إلى ابن خلدون، أن نستحضر أولاً ثلاث حقائق:
1- أن ابن خلدون لم يطلع على كتاب ابن رشد الذي تحدثنا عنه في هذه المقالات. لقد سبق أن ذكرنا أن هذا الكتاب هو الذي كان وراء نكبته، وقد كان من كتبه الأخيرة (أواخر تسعينيات القرن السادس الهجري)، فكان لابد أن يكون أول ما صودر وأحرق من كتبه، وهي الكتب الفلسفية، خصوصاً شروحه على أرسطو. ومن حسن حظنا أن ترجمة كتب ابن رشد إلى العبرانية واللاتينية قد بدأت فعلاً في هذه الفترة. وقد بقيت نسخة من الترجمة العبرانية للكتاب الذي نحن بصدده، وقد نشرناه ضمن "أعمال ابن رشد" بعنوان "الضروري في السياسة"، عام 1998، وقد نقله من العبرانية إلى العربية، في إطار هذا المشروع، زميلنا الأستاذ شحلان، وقمنا بتقريب عبارة الترجمة إلى لغة ابن رشد، مع إثرائه بمدخل ومقدمة تحليلية.. إلخ.
2- وفي المقابل، اطلع ابن خلدون على تلخيص ابن رشد لكتاب الخطابة لأرسطو. وقد طرح أرسطو فيه جوانب مما كتبه أفلاطون في "الجمهورية" حينما تعرض لمسألة تأثير الخطابة في استمالة الناس، وناقش ذلك على ضوء ما كتبه أفلاطون عن أنواع المدن.. إلخ. وقد ذكر ابن خلدون أنه اطلع فعلاً على هذا الكتاب، فرد على ما ذكره فيه ابن رشد حول مسألة كون الحكم، وشؤون الاقتصاد والسياسة.. إلخ، إنما هو لأصحاب "البيوتات".
3- إن القرنين اللذين يفصلان بين الرجلين (عاش ابن رشد في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، وابن خلدون في القرن الثامن الهجري، الرابع عشر الميلادي)، قد عرفا تحولاً خطيراً في مسار الحضارة العربية الإسلامية عبر عنه ابن خلدون بأسلوب بليغ مؤثر، فقال يصف أحوال المغرب (والأندلس) والمشرق في عهده ما نصه: "وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه، وتبدلت بالجملة، واعتاض من أجيال البربر، أهله على القدم، بما طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب (بني هلال وبني سليم)، بما كسروهم (كسروا البربر) وغلبوهم وانتزعوا منهم عامة الأوطان، وشاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم. هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة: من الطاعون الجارف الذي تحيّف الأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها وفلّ من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقص عمران الأرض بانتقاص البشر، فخربت الأمصار والمصانع ودرست السبل والمعالم وخلت الديار والمنازل وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه؛ وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة..."!
من هذا المنظور يرد ابن خلدون على "تفاؤل" ابن رشد الذي عاش في أوج الحضارة المغربية الأندلسية، وقرأ على ضوئها الواقع السياسي العربي جملة. لقد غدا بإمكاننا إذن أن نفهم ونتفهم انتقاد ابن خلدون لابن رشد حين كتب يرد عليه قائلاً: "وقد غلط أبو الوليد ابن رشد... لما ذكر الحسب في كتاب الخطابة من تلخيص كتاب المعلم الأول. والحسب هو أن يكون الرجل من قوم قديم نزلهم بالمدينة ولم يتعرض لما ذكرناه! وليت شعري ما الذي ينفعه قدم نزولهم بالمدينة إن لم تكن له (لطالب الحكم) عصبة يُرهب بها جانبه، وتَحمل غيرَهم على القبول منه! فكأنه (ابن رشد) أطلق الحسب على تعديد الآباء فقط، مع أن الخطابة إنما هي استمالة من تؤثر استمالته وهم أهل الحل والعقد. وأما من لا قدرة له البتة فلا يلتفت إليه ولا يقدر على استمالة أحد، ولا يستمال هو، وأهل الأمصار من الحضر بهذه المثابة. إلا أن ابن رشد تربى في جيل وبلد، لم يمارسوا العصبية ولا أنِسوا أحوالَها فبقي في أمر البيت والحسب على الأمر المشهور من تعديد الآباء على الإطلاق، ولم يراجع فيه حقيقة العصبية وسرها في الخليقة"!