علاقة المواطن بالنظام السياسي تقوم على الاحترام المتبادل. فالمواطن قد اختار النظام السياسي بمحض إرادته. والنظام السياسي أتى لحماية حقوق المواطن. هناك وئام بين الاثنين وتوافق في المصالح. لذلك يطمئن النظام من غضب المواطن وثورته. كما يطمئن المواطن من قهر النظام السياسي وتسلُّطه.
هذه الحالة المثالية والطبيعية في نفس الوقت لا تطرد لدى كل الشعوب. فقد يكون بين الاثنين عداء مستحكم وتناقض في المصالح، وتضارب في الأهداف بل وعداوة مستحكمة عبر تاريخ النظم وتاريخ الأوطان.
ولا ينطبق هذا الوصف على نظام سياسي بعينه بل هي حالة افتراضية تعم عديداً من النظم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً. وقد وصف الفلاسفة من قبل مثل الفارابي "المدينة الفاضلة"، والمدن الجاهلة، مدن القوة والفساد. والنظام غير الدولة. النظام متغير والدولة ثابتة. النظم تتوالى على الدولة، والدولة قائمة. والشعب باقٍ مثل الدولة. تتوالى عليه النظم المتغيرة. ويتبلور لديه الوعي التاريخي.
ليس الهدف من هذا الوصف قبول النظام المثالي المتفق مع الإرادة الخاصة للمواطن والإرادة العامة للمواطنين، أو الثورة على النظام القائم المناقض لهما، بل تحليل التجارب اليومية التي يعيشها المواطن ورصيده الأول في علاقته بالنظام وتحديد اتجاهاته نحوه. فالنظام البديل الذي قد يأتي بعد الثورة على النظام القديم قد لا يختلف عنه. فمظاهر النفور من النظام ظواهر ثابتة عبر التاريخ وليست خاصة بنظام دون غيره. وهو أحد أسباب النفور من بعض الأنظمة السياسية والرفض النفسي له. فالاستغلال والاحتكار والفساد والقهر والتسلط والتبعية عناصر شبه ثابتة في بعض الأنظمة السياسية مهما تغيرت أسماؤها وتعددت مراحلها. هناك ثقافة شعبية سائدة هي التي تتحكم في الحاكم والمحكوم، في النظام والمواطن. وقد يتبلد الإحساس عند كليهما فلا يؤثر فيهما نقد كل منهما للآخر. فالنظام يترك الناس تتكلم وهو يفعل ما يشاء. والناس تفعل ما تشاء، وتترك النظام يتكلم.
الثورة على النظام الرأسمالي من قوى اشتراكية معارضة، والثورة ضد نظام مرتبط بقوى خارجية، والثورة ضد القهر والتسلط في الداخل. كل ذلك مفهوم في مجتمع عقلاني رشيد يعرف فيه كل طرف حقوقه وواجباته. أما النفور من النظام القائم فهو إحساس وطني عام مع عجز عن تغييره فلا بديل عنه في ثقافة الفِرقة الناجية، وهي الحكومة، والفِرق الهالكة الضالة وهي فرق المعارضة.
وأسباب النفور من النظام وإدارة الظهر له والتوقف عن إطلاق النكات الشعبية عليه فإنه لا يستحقها عديدة. منها انتشار الشرطة والأمن المركزي وقوات الأمن بالعصي والخوذات والدروع واللباس الأسود في كل مكان حول الجامعات والمصانع التي يحتمل أن تخرج مظاهرات الاحتجاج منها، والجري بالخطوة السريعة كالمردة والشياطين يعلنون قوة النظام. والويل لمن يخرج عليه. فإذا حدث الصدام تسيل الدماء من أوجه الطلبة والعمال أو يزج بهم في السجون تحت قانون الطوارئ أو المعدل باسم قانون مكافحة الإرهاب الذي يجدد من أسبوعين إلى ستة أشهر دون تهمة معينة أو محاكمة.
كما تحوط الشرطة وأجهزة الأمن ومصفحاته حول مقار النقابات والاتحادات وسائر منظمات المجتمع المدني حتى تظل احتجاجاتها وخطبها وبياناتها داخل المقار، ولا تخرج للناس. كما تحوط بدور العبادة والمساجد والكنائس والمعابد حتى لا يتحرك جمهور المصلين منها أيام الجُمع والأعياد وحتى لا يعتدي بعضها على بعض في نظام يبث الفرقة بين المواطنين والديانات حتى يعطي لنفسه الذريعة في الاعتماد المتزايد على قوى الأمن لحفظ النظام.
ويُقبض على رؤساء تحرير الصحف ويقدمون للمحاكمة للتعبير عن الرأي وهو ما يضمنه الدستور وحرية الصحافة. فلا صحافة إلا صحافة الدولة والحزب الحاكم والمعارضة المستأنسة والإعلام الرسمي الذي يبرر النظام. كما يتم القبض على القضاة، السلطة المستقلة والتي لها حصانتها، وتقديم كبارهم إلى المحاكمة أمام السلطة التنفيذية. ويعتقل أساتذة الجامعات لأي نشاط زائد على المهنة، إلقاء المحاضرات، دون أي حق في ممارسة أي نشاط إضافي كمواطن يشارك في الحياة العامة وحصانة الجامعة مثل حصانة القضاء للأستاذ وللقاضي، للعلم وللعدل.
وقد تزوَّر الانتخابات البرلمانية والمحلية لصالح النظام. ويضرب مرشحو المعارضة أو يقبض عليهم قبل الانتخابات أو توضع أمامهم العراقيل الإدارية مثل عدم اكتمال الأوراق، زحمة الطوابير، غلق مكاتب استلام الأوراق حتى ينتهي آخر موعد للترشيح، فالعين بصيرة واليد قصيرة. وتقال الوزارة ويعين غيرها لامتصاص الغضب الشعبي، والإيحاء بانتهاء الأزمة وقرب الحل، وإعطاء الأمل لطوابير الانتظار في المنصب الوزاري. ويحدث نفس الشيء بالنسبة لمناصب رؤساء الجامعات ورؤساء تحرير الصحف والمحافظين ومديري الأمن وكل المناصب المحورية في الدولة. وإذا حدث تغيير فهو تغيير شكلي، ضم محافظتين في واحدة، أو قسمة محافظة إلى محافظتين، ضم حييْن في حي واحد أو قسمة حي إلى حيين.
وقد تستعمل ملفات الفساد كأداة للضغط على المسؤولين ورؤساء تحرير الصحف السابقين والوزراء ومديري الشركات. وتظل على مكتب الرئيس إن شاء انتقم وإن شاء صمت. وتنشر الأخبار على الصفحات الأولى لبيان طهارة اليد وتعقب النظام للفساد والفاسدين والمفسدين. ثم يخيم الصمت، وينتهي الأمر. وتبدأ الذاكرة في النسيان.
وقد تنتشر الرشاوى في مؤسسات الدولة الأمنية والإدارية، في أقسام الشرطة ودواوين الحكومة وإدارات المرور لاستخراج تراخيص القيادة والسيارات أو تخفيض الغرامات أو استخراج تراخيص البناء بل في دخول كليات الشرطة وكليات الحربية لضمان الوظيفة بعد التخرج، وينافس الشرطي منادي السيارات على "البقشيش" بعد ركن السيارات على الأرصفة. فالشرطي رئيس المنادي. فيتحول المنادي إلى وظيفة أخرى مثل الرقابة من بعيد عليه.
وقد يثير النفور من النظام طوابير الخبز وسكان المقابر ونجوع الصفيح وأكوام الزبالة والمجاري الطافحة، وحفر الطريق، والأرصفة المهدمة. وفي نفس الوقت كنس الشوارع التي يمر بها المسؤول، ووضع الخطوط البيضاء، وإيقاف مرور السيارات على الطرق العلوية والناس تهرول إلى أشغالها في الصباح، وتأخير المرور عليها لأن بعض الوزراء ورجال الأمن يمرون وكأن الوطن للبعض دون البعض الآخر. وتزدحم الطرقات، وتتوقف حركة المرور بسبب أو بغير سبب، وتعود الناس إلى بيوتها محطمة من الإرهاق وحرب الشوارع، وقد تكفر بالنظام وتنفر منه.
ويثير النفور والاشمئزاز التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، بين سكان القصور وسكان القبور، بين القرى السياحية وبين آلاف القرى غير السياحية في الريف التي تعوزها المياه الصالحة للشرب والكهرباء، والصرف الصحي، والبيوت الآمنة بدلاً من بيوت الطين أو الخوص التي تلتهمها ألسنة النيران في دقائق. ويوحي التفاوت الشديد بين القرية والمدينة بأن الوطن قد انقسم إلى قسمين، مركز ومحيط، أشراف وعامة.
وفي الجملة قد تكون مظاهر النفور من النظم عديدة وتؤدي إلى انكسار الذات والانطواء على النفس والانزواء إلى الحائط. فالوطن ليس للمواطن ولا المواطن له وطن. ويصبح الزوجان في حالة ظِهار دائم إلى أن يعود الحب والوئام بينهما. سبحان الله مغير القلوب.