لم يسبق لرئيس إيراني أن زار العراق منذ قيام الجمهورية الإسلامية، وبالتالي تكتسب زيارة الرئيس الإيراني إلى العراق أهمية كبيرة، ليس فقط لكونها الأولى منذ ثلاثين عاما، ولكن لما بين البلدين من رواسب عديدة في مجرى علاقاتهما بعد عقود من الشد والجذب، تخللتها حرب مدمرة بين 1980 و1988 راح ضحيتها أكثر من مليون قتيل ومثلهم من الجرحى والمعوّقين وتكلفة مادية تجاوزت تريليون دولار،
بما يطرح التساؤلات حول مغزى الزيارة والأهداف التي سعى الرئيس نجاد لتحقيقها؟ وهل تساهم في إعادة صياغة العلاقات بين البلدين على أسس جديدة، وفي حل القضايا العالقة بينهما؟ وما هو دور الولايات المتحدة الأمريكية التي تحتل العراق في ضبط مسار المعادلة الإيرانية - العراقية؟ لقد ظلت العلاقات الإيرانية - العراقية في إطار النمط الصراعي حتى انهارت قوة العراق الإقليمية بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، لتصبح إيران القوة الإقليمية الكبرى، بعد أن استعادت عافيتها الاقتصادية ومساعيها في امتلاك برنامج نووي وصاروخي، وبدأت تغيّر من تكتيكات سياستها الخارجية، خاصة تجاه دول الجوار وتسويق نفسها كقوة إقليمية قادرة على ممارسة دور فاعل في معادلة الأمن الإقليمي.
ومن جهتها تدرك الإدارة الأمريكية جيدا الدور الإيراني المتزايد في تفاعلات المعادلة العراقية، خاصة نفوذها القوي لدى النخبة السياسية العراقية الحاكمة، ولذلك تسعى لتطبيق سياسة الاستيعاب مع إيران، وتوظيف دورها لصالح تحقيق الأمن والاستقرار في العراق، ووقف نزيف الخسائر الأمريكية البشرية، بما يخدم المصالح الاستراتيجية في العراق.
لقد تميزت العلاقات العراقية - الإيرانية بكثرة الملفات العالقة، التي بدأت تطفو على سطح المشهد السياسي بين الطرفين، وأثارت سجالا كبيرا، سواء تلك المتعلقة بتغيير خط الحدود الفاصل بين البلدين في شط العرب، أو الحقول النفطية المشتركة بين الطرفين التي تستغلها إيران بذريعة عدم وجود نقاط حدودية فاصلة، فضلا عن ملفات وشكاوى من قبل قوى سياسية عراقية بأنّ إيران تقف وراء بعض الجهات السياسية، من أجل تحقيق مخطط إيراني للسيطرة على المنطقة، وملف منظمة ’’ مجاهدي خلق ’’ الإيرانية، التي تبقى رهانا أمريكيا مستقبليا.
إنّ ما تريده إيران هو حماية مصالحها القومية في العراق، وهو ما يعني إقامة أواصر الود والعلاقات السلسة مع أطيافه المختلفة، ولكنها تخفي رهانها حتى يتسنى لها الرد على أي سيناريو في المستقبل. لذلك ستجعل براغماتية السياسة الإيرانية كبار المسؤولين يغضون النظر عن الحضور العسكري والسياسي الأمريكي، بل أنها مع تقاطع المصالح الذي برز بينها وبين ما أنجزته الإدارة الأمريكية في أفغانستان والعراق.
إنّ الأهم في دلالات الزيارة أنّ العراق هو أرضية التفاوض والتسويات بين القوتين النافذتين فيه، وبهذا المعنى يبدو العراق أرض المساومة الرئيسة: إذا كانت الإدارة الأمريكية ستسحب قواتها، أو أغلبها، للاحتفاظ بأدوارها في ميادين أخرى في المنطقة، فإنها تريد ضمان عراق تتقاسم السلطة والنفوذ فيه قوى غير معادية لها مع قوى حليفة وصديقة. أما إيران فيهمها أن تحافظ على حصتها في البلد الغني والاستراتيجي لمصالحها، في ظل معادلة فيها حد أدنى من الاستقرار، كي لا يضيع ما أنجزته من نفوذ في اَتون استمرار الصراع على السلطة، خاصة إذا حصل الانسحاب الأمريكي من دون تفاهم مسبق.
وعلى العموم لا تبدو المسألة خارج حوار الطرفين بشأن الوضع في العراق، بل هي في صلبه، والملاحظ هو أنّ جولات الحوار السابقة أسهمت في جعل هذه الزيارة ممكنة، ومن المؤكد أنه لو لم يخفّ منسوب التوتر بين الطرفين، ويحصل تقدم فعلي في بحث الملفات الثنائية، ما كانت الزيارة ستتم وفق الشكل الذي تمت فيه. ومن هنا يمكن اعتبارها محطة مهمة في طريق الحوار بينهما، بصدد الوضع في العراق والملف النووي الإيراني وبقية القضايا الإقليمية.
وهكذا، زار الرئيس نجاد بغداد لأنّ الإدارة الأمريكية وافقت على وجوده فيها، إما لمنح النظام العراقي شرعية سياسية يفتقد لها في المنطقة، أو لشكره على سياسة التهدئة التي اتبعها خلال الحملات العسكرية الأمريكية الأخيرة، أو لتمهيد الطريق أمام صفقات جديدة معه كما حدث قبل ذلك في ’’إيران كونترا’’ وأفغانستان وعراق 2003.
أما في ما يخص الجانب العراقي، فالزيارة تعني تتويجا لاعتراف رسمي بالعملية السياسية وما أفرزته من نتائج. ومع أنها حظيت بترحيب أغلب القوى السياسية العراقية، إلا أنها لم تخلُ من الانتقاد، إذ أنّ عددا كبيرا من الشيعة العراقيين العرب غير راضين عن الدور الإيراني، ويرون أنّ الوطنية العربية العراقية ستظهر لمواجهة من يرون أنه تسييد فارسي على بلادهم.
وسواء كانت زيارة الرئيس الإيراني تخفي في طياتها تحديا ل ’’الشيطان الأكبر’’ بالنسبة لإيران، أو كونها رغبة صادقة في فتح صفحة جديدة مع العراق، فإنها سترسخ المطامح الإيرانية في بلاد الرافدين، التي ما زالت في انتظار بارقة أمل عربية تعيد توازن القوى المختلة إلى نصابها. ولا يمكن لهذه الزيارة التاريخية أن تمر من دون تداعيات ستترك اَثارها على المرحلة المقبلة من العلاقات الإيرانية - الأمريكية، والعلاقات الإيرانية - العربية.
أما الدلالة الأبرز للزيارة، مع كل رمزيتها، هي أنّ عرض القوة الإيراني في بغداد قد تم في غياب خطة عربية موحدة لبلاد الرافدين. والمفارقة هنا أنّ الحوار الإيراني - الأمريكي على أرض العراق، الذي يشمل المعادلة الإقليمية برمتها، وليس العراق وحده. في حين أنّ النظام الإقليمي العربي لا يملك تصورا واضحا، والأهم موازين قوة، للحؤول دون سيطرة قوة إقليمية واحدة على إقليم الشرق الأوسط، نتيجة اختلاف نظرة دوله إلى الوضع الإقليمي وعلاقات إيران مع المعادلة الإقليمية.