هذا السؤال على بساطته يتضمن مفهوم النقلة الإيبستيمولوجية في وجاهته وإهميته ، فهو يُشير إلى طبيعة الثقافة السائدة في الوطن العربي وطبيعة الإنتاج الفكري والمعرفي لدى كُتابه ، وفي الوقت نفسه هو تنبيه من جانب للتحري عن العقل العربي عن دوره وعن ماهيته ، ولماذا هذا الإنكماش الظاهر عليه وسط عقول الجماعة البشرية الأخرى ؟
مافات والعمل من أجل تصحيح حركة الإنتاج المعرفي والعلمي والثقافي ، وطرد كل ماهو عامل في تقهقر الثقافة العربية ، وهذا يلزم :
أولاً : نقد الذات من خلال نقد العقل العربي ومتبنياته القديمة التاريخية والخبرية والتشريعية والعقدية .
وثانياً : نقد الموضوعات التي شكلت وعينا التاريخي والقيمي ، من خلال تفكيك بنيتها التراثية التي قامت عليها .
وثالثاً : الفصل بين الدين وبين قضايا العلم ومسائلة ، وإعتبار الدين منظومة خلقية ليس إلاّ .
ورابعاً : الخروج من هيمنة تاريخ الملل والنحل الذي أثر فينا وفي طريقة فهمنا للواقع الذي نعيشه ..
وهذه العملية إجرائية وحاسمة في تحديد أولويات مايُمكن وما يجب عمله ، نعم إن عملية النقد بنيوية وواجبة لمجمل النظام المعرفي لدينا نحن العرب ، من خلال فك الإرتباط بين السياسي والديني تلك الثنائية الضاغطة على وعينا وفكرنا مما خلق التوتر والتعصب والتكلس الفكري والإنزواء القيمي الذي يعيشه العقل العربي في وجدانه وضميره .
ولكي نحقق هذه المعادلة يلزمنا الإعتراف بأهمية منظومة القيم في العدل والحرية والسلام ، التي هي قواعد مؤسسية في التنمية الفكرية والإنتاجية في الحاضر وفي المستقبل .
كما يجب خلق عقل عربي حيوي وفاعل في قدرته على ردم تناقضات تاريخنا المشوه الذي جعل منا أنصاف بشر ، تاريخنا الفرقي المليء بكل ماهو قبيح سواء في تركيبه أو في إختلاط قضاياه ومسائله ، و حتماً نحن نُشير لما هو سائد وحاكم على ثقافتنا وخطابنا المقرؤ والمسموع ، والذي قلص وبشكل واضح دور الإجتهاد العقلي العلمي ، مما جعلنا نجتر موضوعات أنتهى أوآنها سواء في قضايانا المعيشية أو العملية ، وهذا الإجترار نلتقيه في كل مسائل - الفكر الإسلامي - .
فالكشف عن الصواب وعن الخطأ في قضايانا الفكرية هو تحييد لسلطة - حكم من سبق - الرائجة في كتب أهل التراث وأدبياتهم .
صحيح إن بنية العقل العربي بسيطة وغير مركبة حسب التعاريف المتداولة ، لكن هذه البنية في اللاوعي تُشير لطبيعة الإنتاج والتحليل العلمي المترشح عنه ، فالعربي حين يؤمن - بلا إله إلاّ الله – يؤمن بها من دون تحليل لهذه المفردة اللسانية ، ومن دون التعرف على دلالتها الإقتضائية المعرفية والعلمية ، ومدى إرتباطها بمجمل قضايا الإيمان في العقيدة وفي الشريعة .
لهذا أتكئ العقل العربي على غيره في تحليل قضاياه ومسائله الخاصة ، أتكائة أثرت عليه مما جعلته عاجزاً في صُنع حاضره وإستشراف مستقبله ، ولم نجد في هذا المجال إلاّ النادر الشاذ الذي يُمكننا الإشارة إليه ككونه قد قدم لنا نتاجاً خاصاً به ، أي إنها محاولات ذهبت في وسط الكثير من منتجات الغير والتي كان لها كبير أثر في تحديد هويتنا المعرفية والإيديولوجية .
ونحن نُشير هنا للمدرسة الدينية بشكل خاص ، وهذه الإشارة فيها خيبة أمل ويأس من قدراتنا الذاتية على الخلاص من هيمنت الآخر وتجاوزه بحكم كوننا الأرض التي أستقبلت رُسُل السماء ذات يوم . وهذا منا توكيد وتعريف بحقيقة يجب إمعان النظر بها ، فعقل الآخر شارك في صناعة وصياغة كل شيء من بضاعتنا التاريخية والخبرية و في إنتاجنا الفقهي والفلسفي والمنطقي والكلامي والصوفي بل وحتى في لساننا العربي ، ونادراً جداً بل غريب ان يقال : إن هذا الفيلسوف أو ذاك الفقية هو عربي اللسان والبيئة مئة في المئة ..
* لهذا ترآني ميال للتقسيم الذي تبناه أحدهم حول ماهية العقل العربي وطبيعته البسيطة المفارقة لعقل الآخر مفارقة بنيوية وليست مفارقة بايولوجية كما يظن البعض ، فهي مفارقة في أدوات وآليات البحث المتبعة وفي التصميم وفي الجد والثقة ، ولهذا تأتي نتاجاتهم مغايرة وذات شأن وكيان معنوي مستقل يمكن الإشارة إليه في تقييم كل ظاهرة والحكم عليها .
إن العقل التحليلي المركب قادر بفعل حركيته الذاتية وإستقلاليته في إستشراف قيم المعرفية من حيث تشكلها الأبتدائي ومن ثم الإيمان بها ، وهذا يعني في اللاوعي سذاجة العقل العربي البسيط فيما يجب فعله وتطبيقه ، وهنا تبدو المسالة إشكالية في بنائنا الذاتي ، لهذا عندنا أنصاف متعلمين وأنصاف مثقفين وأنصاف أدباء ، وفي نصفنا هذا نحاكي ماعليه الآخر في مسلماته الأبتدائية في الحكم على الأشياء وتعليلها ، ولهذا ينقصنا الكثير في صناعة أشيائنا التي نود تسويقها لبعضنا البعض ، ناهيك عن غلبة للدين السياسي عندنا حيث صيرنا روبوتات تتحرك وفق منهجه التراثي عن الدين الأبائي ، مع نقص وتقليص متعمد للحرية المنتجة وتحديد لأطر التفكير فكل أشيائنا المباحة ممنوعة من جهتي الدين السياسي والحاكم المستبد .
إن إمتلاك الحرية على نحو واقعي كفيل بإعادة إنتاج عقلنا العربي على نحو يكون فيه قادراً على تحديد موضوعاته والحكم عليها ، والحرية يلزمها السلام فهو الأداة السحرية لبناء قواعد للتحرك الحضاري الرصين .
إن إيماننا بمنظومة القيم هو الكفيل بتحرير عقل الكاتب العربي والمفكر العربي من سلطة - الحاكم المستبد والإسلاموية المحدثة - والأمن من سلطة الإرهاب الفكري والإرهاب الذي صنعه الدين الفرقي ..