أشرنا في المقال السابق إلى مفارقة تسِم علاقة الفكر العربي بالفكر الأوروبي، منذ بدء اليقظة العربية الحديثة في القرن التاسع عشر، مفارقة تتمثل في الظاهرة التالية،
وهي أنه ما أن يبدأ الفكر العربي في اقتباس مفهوم من المفاهيم من أوروبا حتى يبدأ ذلك المفهوم في فقدان بريقه وإجرائيته ودخول مرحلة شيخوخته في موطنه الأصلي، ليقوم بعده مفهوم جديد يخلفه يدفع بالمفهوم السابق إلى سلة "الماضي". وهكذا يجد العرب أنفسهم يطلبون مستقبلاً لهم في "ماضي" ثقافة أوروبا، فتتوسع دائرة "التخلف" عندهم لتشمل ليس الحاضر فحسب، بل أيضاً البديل المستقبلي الذي يطلبون.
تلك ظاهرة معقدة، ذكّرنا بها هنا بإيجاز مُخل، لأننا نعلم أن الذين اطلعوا على المقال السابق سيفهمون ما نشير إليه. وسيتضح الأمر أكثر من خلال المفهوم الذي سنحاول النظر إليه هنا من أحد شقوق مرآتنا "المُهشمة"، نقصد مفهوم المواطِن والمواطَنة، مدار القول في هذه الاستطرادات التي "نُحَنِّشُها" على هامش "المشهد الثقافي العربي". (وانسجاماً مع هذا الاستطراد نقول إن كلمة "حنش" التي استعملتها لم أطلبها وإنما فرضت نفسها بصورة تلقائية وهي من الدارجة المغربية، توصف بها كتابة الطفل الصغير الملتوية على اللوح وهو يتعلم الكتابة. ولعلها من التواءات "الحنش" في زحفه، والحنش كلمة عربية ومعناها الحيَّة..! العروبة لغة يا ناس!).
المفاهيم أيضاً "تُحنَّش" في سيرها عبر التاريخ. لا تسير مستقيمة بل تسافر بحركة ملتوية يغلب عليها الطابع اللولبي. فلنتتبع حركة مفهوم المواطِن عبر تاريخه.
صار "المواطِن" في الفكر الأوروبي الحديث كائناً مجرداً، شخصاً اعتبارياً: بمعنى أنه مجموعة من الحقوق، هي التي عبر عنها إعلان "حقوق الإنسان والمواطن".
قلنا في حلقة سابقة إن كلمة "مواطِن" في أصلها العربي تحيل إلى الوطن، وبهذا المعنى فالمواطن هو من يشارك آخرين في العيش في موطن واحد. ومقابلها الفرنسي والإنجليزي... هو compatriot-e، وهذه الكلمة تفيد الانتماء إلى أرض وليس إلى قوم. لكن ما نعنيه بـ"المواطِن" في الخطاب العربي السياسي المعاصر شيء آخر، ليس لدينا اسم خاص به، والقدماء من المترجمين والفلاسفة العرب لم يستعملوه مفرداً بل تحدثوا عنه "جمعاً" هكذا "أهل المدينة"، والمقصود المدينة اليونانية التي تحدث عنها مفكرو الإغريق وفي مقدمتهم أفلاطون وأرسطو. أما السبب الذي جعل المترجمين والفلاسفة العرب يعرضون عن البحث والانشغال بـ"المواطن" بالمفرد فيمكن تفسيره -على سبيل الافتراض- بالظاهرة التي تحدثنا عنها أعلاه. ذلك أن فكرة "المواطن" كانت تبخرت في بلاد اليونان نفسها عندما تركت "المدينة اليونانية polis مكانها لإمبراطورية الإسكندر المقدوني الذي كان أرسطو، بمعنى ما من المعاني، أستاذاً ومرافقاً له في غزواته. ومع أن أرسطو قد رفض فكرة أستاذه أفلاطون الذي اشترط في رئيس المدينة الفاضلة أن يكون فيلسوفاًً (حكيماً كامل المعرفة والأخلاق، والفلسفة عند اليونان معناها محبة الحكمة، وطلب المعرفة من أجل المعرفة ذاتها وليس من أجل شيء آخر)، مُبيّنا -أعني أرسطو- أن هذا الشرط قد لا يتحقق بسبب قلة الفلاسفة ولعدم تسليم الناس لهم أمورهم من جهة، وأيضاً لأنه حتى لو وجد فيلسوف وأسند إليه أمر المدينة فلا شيء يضمن أن الذي سيأتي بعده سيكون مثله. والتجربة، تجربة المدن اليونانية، قد برهنت على أن الحاكم الصالح قد لا يعقبه رجل صالح مثله، بل قد يخلفه من لا علاقة له بالفضل والصلاح. من أجل ذلك كان من الصواب في نظر أرسطو أن نختار للمدينة القانون -أو الدستور- الصالح بدلاً من "الرجل الصالح". فالدستور الصالح الذي يضعه المواطنون الإغريق في المدينة لا ينقلب من الصلاح إلى ضده كما ينقلب الرجال، لأن تغيير القانون يتوقف على قرار جميع المواطنين، وهذه ضمانة مؤقتة، على الأقل.
مع الإسكندر المقدوني تحولت المدينة اليونانية إلى إمبراطورية، ذابت فيها المدن الإغريقية وأوطان أخرى، فأصبحت فكرة المواطِن والمواطَنة غير ذات موضوع، لقد صار الموضوع -بتعبير لغة المتكلمين والمؤرخين في الإمبراطورية العباسية- هو: الفِرَق والمِلل والنحل... والشيء نفسه حدث في زمن الإمبراطورية التي سبقت العباسيين، أعني الإمبراطورية الرومانية، كما حدث زمن الإمبراطوريات التي جاءت بعدهم: الإمبراطوريات الأوروبية، والإمبراطورية العثمانية في العالم العربي. الناس زمن الإمبراطوريات فِرق وملل ونِحل... والجميع رعايا للراعي الأكبر وللرعاة المحليين الذين يقعون ضمن رعيته.
عندما قامت الثورات في الولايات المتحدة الأميركية وفي إنجلترا وفرنسا، وكان قد غلب فيها مظهر "ثورات الرعايا على الرعاة"، استعاد إيديولوجيو تلك الثورات مفهوم "المواطِن" من المدينة اليونانية"، وهو مفهوم ذو مضمون أسمى من مجرد "الفرد". فالمواطن عند اليونان هو عضو المدينة polis كما قلنا، ومعنى عضويته في المدينة أنه الإنسان/ السياسي، وليس الإنسان العبد الذي كان يعتبر بمثابة "الآلة"، ولا الإنسان "الميتيك" métèque، الذي يسكن في مدينة غير التي منها أصله.
قلنا استعادت ثورات أوروبا مفهوم "المواطن" من المدينة اليونانية، ولكن في وضعية وظروف مختلفة، واختلاف الوضعية والظروف هو الذي سيعطي لمفهوم "المواطن" في الفكر الأوروبي الحديث معنى "أنبل وأشرف": كانت المدينة اليونانية polis عبارة عن "مجموعة من السكان تتمتع باستقلال تام، ولها السيادة، طبقاً للقانون، على المواطنين الذين تتشكل منهم والذين يرجع إليه وضع ذلك القانون، وتعتمد في وحدتها وتراصِّ أعضائها على الطقوس والشعائر الدينية". كانت ديانتها وثنية أي أنها قائمة على تعدد آلهتها، والغريب في الأمر أن اليونان جعلوا الانقسامات والحروب الدينية من خصائص مدينتهم الإلهية، ليحافظوا على الوحدة والانسجام في مدينتهم الأرضية السياسية. ولا أعلم هل انتبه إيديولوجيو الثورات في أوروبا إلى هذا الأمر فطالبوا بفصل الدين عن الدولة فجعلوا "الدين لله والوطن للجميع"، أم أنهم إنما اختاروا العلمانية إقصاء للكنيسة التي كانت تبرر وجودها، كدولة داخل الدولة، بكونها صاحبة الشأن فيما يرجع لنفوس الأفراد وحياتهم الروحية، بينما يقتصر شأن الإمبراطور على أجسام الناس؟
هناك جانبان مهمان اختلفت فيهما تصورات الثوار وفلاسفة الأنوار في أوروبا للمواطنة عما كان الحال عليه عند الإغريق. كانت المدينة الإغريقية تمثل ما يمكن التعبير عنه يـ"التجاوز السياسي" للقبيلة، الشيء الذي جعل منها المدينة/ الدولة، ولكن دون أن يطال هذا التجاوز لا الوضعية الاجتماعية ولا الحقوقية المميزة للقبيلة. أما الثورات الأوروبية فقد قامت لتنهي وضعية دولة الإمبراطورية لتقيم مكانها الدولة/ الأمة. كانت المدينة/ الدولة في أوج ازدهارها بأثينا (زمن بيركليس 495- 429 قبل الميلاد)، قد تقلصت "المواطنة" فيها فأصبحت مقتصرة على "الذين كان أبوهم مواطناً وأمهم بنت مواطن". أما الثورة الفرنسية التي قامت لتحقيق فكرة الدولة/ الأمة عقب الاستبداد الإمبراطوري فقد دشنت قطيعة نهائياً مع التصور الأثيني لفكرة المواطنة فرفعت شعاراً مزدوجاً عبرت عنه بـ"حقوق الإنسان والمواطن": حقوق الإنسان بمعنى إلغاء جميع القيود التي كانت تجعل من الكائن البشري عبداً، وحقوق المواطن بمعنى تعميم الحق في أن يكون الإنسان "حيواناً سياسياً" أو مدنياً، الحق في ممارسة جميع أفراد الأمة ما يعبر عنه اليوم بـ"الحقوق السياسية".
وهكذا فبينما كان "المواطن" في المدينة الإغريقية إنساناً مُشخصاً، يتحدد بكونه ليس عبداً ولا أجنبياً عن المدينة، صار "المواطن" citoyen في الفكر الأوروبي الحديث كائناً مجرداً، شخصاً اعتبارياً: بمعنى أنه مجموعة من الحقوق، هي التي عبر عنها الإعلان الذي أصدرته الجمعية الوطنية الفرنسية في 26 أغسطس 1789 بـ"حقوق الإنسان والمواطن".
والكلام في هذه الحقوق في المقال القادم.