ثروات أي بلد ملك شعبه، قاعدة عامة معترف بها مثلما تعترف القوانين الدولية والنظم الديمقراطية التي تعلن أن الحكم للشعب وتحترم الإرادة الشعبية صاحبة المصلحة في إدارة دفة الحكم وتحقيق مصالح البلاد والعباد بان تضع عمليات نهب الثروات وتخريب الاقتصاد وتدمير مؤسسات الدولة وهدر المصادر والقوى العاملة،
في باب الجرائم الكبرى وتحاسب عليها بأشد العقوبات الجنائية. فلماذا تُقرُ مثل هذه القواعد القانونية والأخلاقية والسياسية في العالم وتحجب في العراق اليوم؟.
في خمس سنوات من الاحتلال الأميركي ومن حالفه للعراق تتكشف فضائح يومية، من بينها ما يتعلق بالتصرف بأموال الشعب العراقي، والسؤال عنها مشروع لأن الأوضاع التي يعاني منها الشعب اليوم يرثى لها وتثير اكثر من سؤال استفهام وقضية. العراق بلد غني بكل المعايير والمستويات والمجالات ولا أحد يقول العكس ولكن الشعب العراقي اليوم يكابد قسوة عيش تتصاعد فيها أرقام ونسب الذين يعيشون تحت خط الفقر فيه، وتتزايد أعداد الباحثين عن العمل وحجم الفساد وانعدام الخدمات العامة وغيرها من المسائل التي ترتبط بها. وكل يوم تنشر قضايا جديدة وليس آخرها ما كشفه تقرير أميركي لمكتب المحاسبة عن أن الحكومة العراقية لم تصرف سوى مبلغ هزيل لم يتجاوز 4.5 بالمائة من ميزانية سنة 2007 لإعادة الاعمار حتى شهر أغسطس الماضي. ويُقدر إنفاق الحكومة العراقية علي المشاريع الخدمية العامة، بما لا يتجاوز 22 في المائة فقط من موارد النفط التي خصصت لمشاريع إعادة الاعمار لسنة 2006. ومثلها تجري عمليات الصرف والتحضير لما يسمى بالاعمار ومؤتمراته والمانحين والمخططين والمشرعين لها. وكلها تظل في دائرة الأرقام والتقارير الأميركية للداخل الأميركي، مثلها مثل ما تنشره وسائل الإعلام الأميركية يوميا عن مضاعفات الخسائر المادية للاقتصاد الأميركي من جراء الاحتلال والحروب العدوانية والتي يكتبها خبراء أميركان حريصون على بلادهم وعلاقاتها بالعالم، وليس ما يخطط له من سموا بالمحافظين الجدد واللوبيات المتنوعة من مشاريع وخطط حربية عدوانية للهيمنة الامبراطورية وإعادة إنتاج الاستعمار من جديد.
هذه بعض أرقام تخص ميزانية ومحدودة بمجالها وقد أشارت تقارير سابقة لتصرفات كثيرة هدرت فيها أموال كبيرة في مجالات غير إنتاجية وتسربت أموال وسرقت أخرى وتفاعلت معها ضخامة فرص الإفساد والفساد الإداري والمالي إلى درجة اعتبار العراق من بين ابرز الدول في هذا المضمار.
التقرير يأتي بعد تقارير سابقة لنفس المجلس ولغيره عن الهدر المقصود والسرقات الكبيرة التي تتجاوز المليارات سواء عبر أفراد أو مؤسسات وشركات، بدءاً من الحاكم الاميركي بول بريمر ووصولا إلى شركة هولبرتون ومديرها السابق نائب الرئيس ديك تشيني. ولما تزل هذه القضايا طي الكتمان المقصود ولم تكشف حساباتها وتدقق مصاريفها وأوجه التبذير فيها ولخدمة من وضعت الأموال هذه ومن استفاد منها ومن المسؤول المباشر عنها؟.
ومن الغريب هنا تشكيل هيئة باسم النزاهة في العراق تمنع من نشر أوراقها بل وتحارب على أساس الشفافية التي يحاول بعض مسؤوليها تبنيها والانطلاق من حفظ ما يمكن من نزاهة أخلاقية. وتمر مثل هذه القضايا مرورا سريعا في وسائل الإعلام بينما يعاني العراقيون من اشد الأوضاع مأساوية، وهم في بلد اسمه العراق، ثرواته تحولت عليه من نعمة إلى نقمة، سال عليها لعاب الشركات والمؤسسات الاحتكارية الغربية ونهشته أساطيل المستعمرين القدماء والجدد، ووفرت مناخات لعصابات المحافظين الجدد في التسلل إليه.
بين فترة وأخرى يعترف من ساهم بكل ما حصل بسوء التخطيط والإدارة لما بعد الغزو وان الإدارة الأميركية وحلفاءها وخاصة البريطانيين لم يقدروا بدقة حجم الخراب والدمار في العراق، ويصل الأمر أحيانا إلى إحصاء تلك الخسائر وتحميل الشعب العراقي المسؤولية عنها وكأنه هو الذي استدعاها وطلبها، كما تحاول الآن بعد أزماتها وتورطها في العراق أن تكبله بقيود وأغلال جديدة في اتفاقيات أمنية ترهق كاهله بديون بليونية لكلفة ما تقوم به وعلى حسابه تحت دعوى طلب الحكومة العراقية لها.
يأتي كشف هذا التقرير إلى ضرورة المطالبة بإجراء تحقيقات واسعة في الأسباب والنتائج، في انعدام الشفافية وتبذير المال العام والنقص المتواصل في تحقيق ابسط متطلبات وحاجات الشعب العراقي اليومية وفسح المجال أمام عمليات الهدر والاختلاس والتهرب من تحمل المسؤوليات المباشرة عنها. ولابد من الاعتبار من فترة بول بريمر ومقاضاته ومن خلفه من بعد في تحمل هذه المسؤوليات وإعادة ما نهب وسرق وتكليف الإدارة الأميركية ومن حالفها بتحمل تكاليف إعادة الاعمار والإسراع في الخروج من العراق وكشف كل الملفات التي لم تزل مغلقة وضائعة في سراديب الاحتلال وحلفائه. إذ لا يمكن مقارنة هذا التقرير وغيره من التقارير الأميركية أو الدولية الأخرى دون الاستمرار في المحاسبة والكشف وإعادة الاعتبار للقانون ومحاكمة المقصرين والمسؤولين المباشرين عن أي إخلال في هذه الأمور التي تهم الشعب العراقي وثرواته ومستقبل أجياله. وما يشير إلى المشاركة الجماعية في ما آل إليه الوضع في العراق اليوم، حسب التقرير المذكور، بأن كل هذه الإجراءات تهتم فقط بما يقلل من تحملها المسؤولية المباشرة ويخرجها من دائرة الاتهام، بينما تتحدث ديباجات كل التقارير والقرارات الدولية التي صدرت من الأمم المتحدة عن ضرورة تلبية احتياجات ومصالح الشعب العراقي واحترام سيادته واستقلاله ولم نجد في الحقيقة أية مصداقية لمثل هذه الأمور، لا في هذا التقرير ولا على ارض الواقع / الكارثة.
فضيلة هذا التقرير الممكنة، وغيره طبعا، استصراخ الضمائر، أين تذهب أموال الشعب العراقي؟.