يناقش البرلمان العراقي هذه الأيام قراراً مقترحاً يفيد بتحريم تسنم العراقيين من حملة أكثر من جنسية واحدة المناصب السيادية. وإذا كان هذا القرار مهماً للغاية ، إن لم نقل مفيداً للغاية كذلك،
إلاّ أن المتوقع ان يواجه صعوبات وعقبات عدة، ليس فقط بسبب طبيعة المجتمع العراقي الذي مرت به أنواع الغزوات الأجنبية والأقوام عبر تاريخ مخضب بالدماء، ولكن كذلك بسبب طموحات بعض قادة المعارضة السابقين والمتنفذين الحاليين، إذ إن العمل السياسي ضد النظام السابق قد أفرز ظاهرة هجرة أعداد هائلة من المعارضين إلى الدول الغربية التي كانت تحتضنهم وتخصهم بالرعاية و"العناية المركزة" بناء على ما كانت تعقده عليهم من مأمول الأدوار السياسية المستقبلية.
هذا ما حدث بالفعل، إذ بقي المعارضون في الدول الغربية، الطامحة لمصالحها في العراق وفي الشرق الأوسط، عقوداً هناك حتى اكتسبوا جنسيات الدول المضيفة، ومنها الجنسيات البريطانية والأميركية. لقد كان هذا الاكتساب شيئاً طبيعياً بعد مضي عدد من السنين في هذه الدول التي، حسب قوانينها، تمنح جنسيتها للمقيمين على أرضها بشروط معروفة. وكان من بين هؤلاء المقيمين أعداد من الناشطين سياسياً والناشطين "عائلياً"، حيث أثمر بقاؤهم في الدول الغربية عقوداً طوال عن إنجاب الأولاد والبنات الذين كانوا يكتسبون الجنسية الأجنبية تلقائياً، والذين (للأسف) لا يفهمون شيئاً من اللغة العربية ولا يفقهون ما يكفي عن ظروف بلدهم الأصل، وربما يخصونه ويخصون المتحدثين بالعربية أو الكردية بنظرة دونية! وهكذا توطدت أعمدة بقائهم في الدول الغربية، الأمر الذي تتوج بكسب الجنسية الأجنبية وكسب الولاء للدول التي يحملون جنسياتها.
لقد كان الانهيار الدرامي للنظام السابق في بغداد، وراء اندفاع المعارضين السابقين عبر عملية الإبدال والاستبدال، نحو المناصب المهمة أو السيادية: فقد تسنم بعض هؤلاء مناصباً لا تقل أهمية عن أعلى السلطات، كما قفز آخرون نحو مناصب "الثأر" والانتقام في الأجهزة الأمنية كي يصفوا حساباتهم مع من كان يضطهدهم ويعذبهم على سنوات النظام السابق، بينما جرت عمليات الاندفاع إلى الوظائف التي كان معارضو الأمس يحلمون بها.
وهكذا كانت النتائج غريبة ومثيرة للشكوك حيث بدأت التساؤلات تتزايد عن أهلية مزدوجي الجنسية لتسنم المناصب المهمة، خاصة عندما يأتي الأمر إلى محك الخيار بين الولاء للوطن الأصلي، العراق، وبين الولاء للوطن المضيف الجديد، كالولايات المتحدة أو بريطانيا. مثل هذه الخيارات والمحكات الصعبة لا محال من ظهورها ولا يمكن تجنبها، خاصة في الحقول التجارية والاقتصادية والعسكرية والسياسية، من بين حقول أخرى: فإذا كنت عراقياً/بريطانياً وكنت وزيراً مخيراً بين منح العقد أو المناقصة الفلانية لشركة بريطانية تنافسها شركة فرنسية، فلمن ستنحاز؟ بغض النظر عن مصلحة العراق الأم.
لقد كانت هذه الظاهرة مثيرة للاستغراب، وللتندر أحياناً، إذ قرر بعض معارضي الأمس الإفادة من فائض الوظائف المتاحة بأن يكافئوا أنفسهم أولاً، فكانت النتيجة هي أن امتلأت سفارات العراق في العالم بسفراء يحملون جنسيات الدول المضيفة. وقد برزت هذه الظاهرة على نحو لا يقبل الشك عندما خيرت الخارجية الأميركية سفيرتنا المعينة بواشنطن بين الاحتفاظ بجنسيتها الأميركية أو التنازل عنها مقابل منصب سفيرة. وكان خيارها الاحتفاظ بالجنسية الأميركية بدلاً عن سفارة بغداد. ولكن مع هذا لم تفعل وزارات الخارجية في دول كبريطانيا والدانمارك، السويد وهولندا من بين دول أخرى، مثل هذا الإجراء الأميركي، الأمر الذي أدى إلى امتلاء سفاراتنا بأصحاب الجنسيات المزدوجة، ولكن بشيء من الكتمان. وكان من عجائب الأمور أن يظهر سفير العراق بلندن، بين الفينة والأخرى، على شاشات الفضائيات وهو يضع العلامة الحمراء لحزب العمال البريطاني على صدره، كناية عن تأييده لهذا الحزب بدلاً عن حزب المحافظين: فهل هذا الرجل سفير عراقي ام بريطاني يعمل في لندن بالنيابة عن حكومته؟
وإذا كانت وظائف وزارة الخارجية هي الأكثر وضوحاً، فإن على المرء أن يلاحظ أن المناصب المهمة الأدنى أهمية من مرتبة سفير قد امتلأت بأبناء المعارضين السابقين المولودين خارج العراق والذين لا يعرفون العربية ولا الكردية. وهكذا كانت مناصب السكرتير الأول والثاني والقنصل والملحق في سفاراتنا في الخارج، من بين المناصب الأخرى لممثليات العراق في المنظمات الدولية، من حصة أولاد وبنات المسؤولين الجدد ممن قد لا يحملون حتى الجنسية العراقية، خاصة من اخواننا الكرد! وهذا ما يفسر الاعتراض الذي عبر عنه عضو البرلمان العراقي، سامي العسكري، على ما يجري في وزارة الخارجية.
لهذه الأسباب راحت الأصوات تتعالى ضد شغل المناصب المهمة والسيادية من قبل أفراد يحملون جنسيات أخرى غير الجنسيات العراقية. وهي ظاهرة مبررة خاصة في العراق حيث كانت المناصب المهمة والمدرة، على سنوات النظام السابق محتكرة من قبل فئة صغيرة معينة، بينما كان سواد الناس لا يحلمون بتبوئها. أما اليوم، فقد انقلبت الأمور، ولكن بطريقة أخرى.