يرصد الجزائريون داخلياً وخارجياً، وبمختلف ميولهم وتوجهاتهم وطبقاتهم، الأحوال المستجدة والتطورات الحاصلة بالتقلبات الأمنية، متطلعين وطامحين الى ان تنتصر عهدة ولاية الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة على الجماعات المتطرفة وعصابات الهدر والفساد مثلما انتصرت جبهة التحرير الوطني على قوى الاستعمار بجدارة واستحقاق.<
ولا ريب ان السلطة "الثورية" التي استلمت مقاليد الحكم عقب استقلال الجزائر عام 1962 تحت راية جبهة التحرير الوطني، لم تكن حقيقة صاحبة القرار السياسي، بل كانت تشكل أداة تنفيذية لقرارات المؤسسة العسكرية الحاكمة فعلياً آنذاك، بالرغم من انها كانت تعد الحزب الواحد المشرف والمخول له دون سواه في إدارة شؤون البلاد. هذا الموقع، أدى بها إلى تحميلها مسؤولية أخطاء الساسة العسكريين من جهة، كما كلفها التعرض لرصاص أحزاب المعارضة غير المرخص لها آنذاك بالانتقادات اللاذعة من جهة أخرى. غير ان التحول الانفتاحي الديموقراطي الذي شهده النظام السياسي الجزائري بالانتقال من مرحلة الحكم العسكري إلى الحكم المدني خصوصاً مع تولي الرئيس بوتفليقة سدة الحكم، أضفى صبغة جديدة ناصعة على جبهة التحرير الوطني، صاحبة أكبر تمثيل نيابي في البرلمان، ذلك عبر حنكته وبراعته في إدارة الشؤون السياسية والديبلوماسية، كذلك باستخدام العقلية المدنية الحكيمة في معالجة القضايا الخطيرة الداخلية، وتحقيق إصلاحات في المشروعات الاقتصادية والتنموية. ومع ان عهدة الرئيس بوتفليقة تعتبر حقبة الإنجازات والمكاسب النوعية في جميع القطاعات من خلال الأرقام والتقارير والإحصاءات الرسمية، الا ان ثمة أسئلة وجيهة حول مدى قدرة جبهة التحرير الوطني في تصفية أعمال الإرهاب، وعن دواعي تراجع مقاعد ممثليها في مجلس الشعب الوطني، بالإضافة بما يتعلق عن مسؤوليتها الأحادية أو المشتركة في تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. في هذا الإطار، تبدو الإجابة عن هذه التساؤلات عموماً محصورة في قوة شعبية جبهة التحرير الوطني المتصلة أساساً بدرجة نزاهة وكفاءة شخصيات ممثليها، زيادة على مدى قدراتها في استيعاب ومعالجة أوضاع الطبقات الفقيرة والشرائح الاجتماعية ذات المداخيل المحدودة من دون التغاضي عن ان الخطاب الثوري في إقناع مختلف الأوساط الجماهيرية سيظل المعيار الرئيسي في ارتفاع نسبة شعبيتها ـ جبهة التحرير ـ أو هبوطها، بمعنى ان الحفاظ والتشبث بالمبادئ الثورية لا يمكن تجسيدها وترسيخها في الواقع الاجتماعي الوطني الا بالترجمة العملية المقرونة دائماً بنظافة اليد والشخصيات ذات المصداقية في أفكارها ومشروعاتها عبر كفاءتها وأهليتها في تقديم رسائل مقنعة، من خلال حسن اتصالها بالجماهير وتمتين حصانتها بثقتها مع الوسط الشعبي، مع التركيز على تأسيس مشروع تكاملي متواصل يقوده رجال ذوو مزايا قيمة ويتمتعون بمواصفات الانفتاح وقوة الإقناع.
والغاية الأسمى من ذلك، حماية القيم والمكتسبات الثورية لجبهة التحرير من الحملات الانتقادية الشديدة، وتصفيح ديموقراطية الدولة المواكبة للنظم الدولية المعاصرة من الاهتزازات والتصدعات الخطيرة. بناء عليه، وفي السياق ذاته ان أيدي الإرهاب التي طاولت الأماكن العامة والمراكز الحكومية إلى حد ان بلغ بها استهداف رئاسة الجمهورية شخصياً تعكس خطورة عودة مسلسل العنف الدموي المرعب إلى عمق الشارع الجزائري، مع ان التصريحات على منابر القيادات الحزبية، جبهة التحرير الوطني، التجمع الوطني الديموقراطي، حركة مجتمع السلم، أفادت بإشارات لافتة ومتفاوتة، لكن مضمونها واحد أهمها: الإرهاب في ربع الساعة الأخيرة، ذيول الإرهاب في لحظاته الأخيرة، دقائق الإرهاب معدودة. واذا كانت التصريحات متقاربة ومتشابهة إلى حد ما، لا خلاف بأن الجزائر أقوى من الإرهاب ومن أيدي الإجرام، لكن أيضاً ان الأحداث التفجيرية الأخيرة تؤشر على وجود شبح مخيف بإمكانه إرباك المؤسسات النظامية الحاكمة، وفي ذات الوقت تقويض البنية الاجتماعية المدنية، ولذا ان مشروع المصالحة الذي أطلقه الرئيس بوتفليقة في اطار ما عُرف بالوئام الوطني سيبقى صمام الأمان.
ان صلاح ديموقراطية الدولة الجزائرية مرهون بصلاحية جبهة التحرير الوطني بمقومات مكاسبها، الوطنية الثورية والمشروطة بالولاء تحت وخلف قيادة حكيمة مرشدة موجهة، تحمل مشروعاً تكاملياً وحدوياً مفتوحاً مع جميع الأطراف والفعاليات التي تحظى بالثقة والمصداقية، مقابل القيام بتطهير جميع الأيدي الملوثة الملطخة التي يتمترس أصحابها في مواقع ومراكز رفيعة ومرموقة بقرارات صارمة نافذة، كخطوة فعلية لوضع المصالحة الجزائرية على سكة الاتجاه الصائب، وإلا ستظل المصالحة شعاراً فضفاضاً.
(*) كاتب جزائري