ليس من الصعب أن تشرح للناس مفهوماً من المفاهيم أو تصوراً من التصورات ويفهموك، مقتنعين أو غير مقتنعين، لا فرق.
ذلك لأن الاقتناع فرع من الإيمان وليس من الفهم. نحن نؤمن بأشياء كثيرة ونقتنع بصوابها أو صلاحيتها من غير أن يكون للعقل والتفكير دور في ذلك. إن الأفكار المتلقاة بالنسبة لمجال الفكر هي كالعادات بالنسبة للسلوك. فكما يعتاد المرء ما يفعله حين التدخين مثلاً (لنقل طريقته في التدخين)، إذ يقوم بحركات معينة لم يتعلمها ولا فكر فيها، يعتاد أيضاً استعمال كلمات ومفاهيم تلقاها من الوسط الذي يعيش فيه، دون أن يكون قد فكَّر ولو مرة واحدة في مدلولها ولا في مصدرها.
أقول هذا لأني أعتقد أنه لن يكون من السهل عليَّ ولا على غيري إقناع الناس في بلداننا العربية بأن ما نعنيه اليوم بـ"المواطِن" و"المواطَنة" لا علاقة له بـ"الوطن" إطلاقاً. ولذلك اضطررت إلى التركيز في المقال السابق على أننا بصدد مفهوم ترجمناه بما ليس هو إياه، لأن لغتنا لا تُسعفنا بكلمة تؤدي المعنى الذي يحيل إليه ذلك المفهوم (وأكرر مرة أخرى أن هذه الثغرة ليست خاصة بالعربية بل هي من الثغرات التي تعم جميع اللغات).
إن النخبة العربية المثقفة التي لها صلة بالثقافة الأوروبية الحديثة تفهم من كلمة "المواطِن"، التي يكثر استعمالها اليوم في خطابنا السياسي، ما تعنيه الكلمة الفرنسية citoyen والكلمة الإنجليزية citizen، كما تفهم من "المواطَنة" ما تعنيه citoyenneté بالفرنسية وcitizenship بالإنجليزية. لكن ليس جميع "الناطقين بالضاد"، بالعامية أو بالفصحى، وهم الأغلبية، "الساحقة" و"المسحوقة" معاً، يفهمون هذا المعنى. إنهم يربطون الكلمتين بأصلهما العربي الذي هو "الوطن"، ولهم الحق -اللغوي وليس السياسي- في هذا! ذلك أن المعنى السياسي لـ"المواطِن" و"المواطَنة" لا يعني مجرد الانتماء إلى "وطن" أو مجرد الاشتراك في السكنى في وطن، وإن كان لا ينفي ذلك. وعدم نفي الشيء عن شيء لا يعني أنه هو إياه.
إن المعنى السياسي لـ"المواطِن" و"المواطَنة" لا يعني مجرد الانتماء إلى "وطن" أو مجرد الاشتراك في السكنى في وطن، وإن كان لا ينفي ذلك.
ومن هذا المنطلق أقول: جميع العرب، في أي قطر كان، من المحيط إلى الخليج، هم "مواطنون" في بلدانهم، بالمعنى الذي تعطيه هذه اللفظة العربية التي سبق أن قلنا عنها إن مقابلها الأجنبي هو اللفظ الفرنسي/ الإنجليزي Compatriot-e بمعنى "الشخص الذي يعيش في بلد واحد مع آخرين", ولكن لا أحد من العرب من الخليج إلى المحيط -اليوم وقبل اليوم- يستطيع أن يقول: أنا "مواطن" بمعنى citoyen، citizen! ذلك لأن الشخص الذي يستحق أن يسمى بهذا الاسم، هو الشخص الذي لا يدين بالولاء لا للقبيلة ولا للطائفة ولا حتى للأسرة ولا لحكم على رأسه فرد، عادل أو غير عادل، ولا لدولة يكون بعض القائمين بها يستمدون سلطتهم من مصدر غير إرادة الشعب المعبر عنها تعبيراً حراً. دعْ عنك أموراً أخرى منها أن هذا الشخص يتصف بما يحمله مفهوم "الحداثة" كما يستعمل اليوم. والوضع القانوني لهذا المواطن -بجميع هذه المواصفات- هو ما يعبر عنه بـ"المواطنة"، وإذن، أفلا يحق لنا القول: إنه لا "مواطن" ولا "مواطنة" في العالم العربي المعاصر؟ نعم في الوطن العربي ككل أو كأقطار، وطنيون ووطنية، قوميون وقومية. ولكي لا نقع ضحية سوء فهم من أي طرف كان، نقول: إن ما هو مستهدف، من الخارج، في العالم العربي كمجموع أو كأقطار هو الوطنية والوطنيون، لكن ما هو مطلوب في الداخل هو "المواطَنة"، دون أن يعني هذا أن المواطَنة تقوم مقام الوطنية، ولا أن الوطنية تقوم مقام المواطَنة.
مفهوم "المواطن" -و"المواطنة"- الذي نفيناه عن العرب اليوم وقبل اليوم، لكونهم جميعاً، أفراداً ومجموعات، يدينون بالولاء إما للقبيلة وإما للطائفة... إلخ، قد تحقق فعلياً وبنسبة عالية جداً في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأميركية إبان ثوراتها. وهو من منجزات عصر الأنوار في أوروبا، هذه حقيقة تاريخية. وهناك حقيقية تاريخية أخرى، وهي أن هذا المفهوم يرجع في أصله ومعناه إلى اليونان.
ذلك أن اللفظين citoyen، citizenهما صيغة نسبة إلى Cité، Cityوهذه من Civitas باللاتينية كترجمة لكلمة pólis اليونانية التي تعني السياسة، الدستور المدينة/ الدولة، أيْ مجموعة من المواطنين -الذين يحكمون أنفسهم بأنفسهم- ويعيش معهم عدد ممن هم غير مواطنين كالأجانب والعبيد. وقد تحدث فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو عن أنواع المدن، أو السياسات، انطلاقاً من تصور النموذج المثال لأفضلها، الذي تحدث عنه أفلاطون في كتابه Perì politeías أي كتاب "الدستور" (المقصود النظام السياسي)، وقد ترجم في أوروبا بـ"الجمهورية"، بينما تحدث عنها فلاسفة العرب باسم "المدينة الفاضلة"، و"السياسة المدنية"، أو "السياسة الفاضلة".
وفي جميع الأحوال فـ"المدينة" بالمعنى اليوناني للكلمة هي أولاً "أهلها"، أي الذين لهم الحق في الانتماء إليها، لا بوصفها بلداً أو موطناً، بل بوصفها شخصية اعتبارية بالمعنى الذي توصف به "الدولة" بهذا الوصف. فالمدينة عند اليونان هي في الوقت نفسه مدينة/ دولة تماماً كما أن الدولة الأوروبية الحديثة هي دولة/ أمة. والمواطن في هذه المدينة ليس أياً كان، بل هو من له "حق المواطَنة" في مدينة، أي حق المساهمة في تدبير شؤون المدينة. ومن هنا تختلف "المدن" في الفكر اليوناني حسب نوع الحكم السائد فيها، وقد صنفوها (أفلاطون وأرسطو خاصة) إلى أصناف: منها التي تحكمها الأرستقراطية وقد ترجمها العرب الأقدمون بـ"حكومة الأخيار"، ومنها التي يحكمها أصحاب الثروة والمال وهي الأوليغارشية وقد ترجمها العرب بـ"مدينة اليسار"، ومنها التي يحكمها شخص مستبد هو الطاغية وقد عبر عنها ابن رشد بـ"وحدانية التسلط"...
وبما أن المدينة الفاضلة Politeia كما تصورها أفلاطون ليست من هذا العالم الواقعي بل هي من عالم "المُثل" كما قال هو نفسه، فإن أقرب "المدن" أو "السياسات" إليها في نظر أفلاطون هي الأرستقراطية ("حكومة الأخيار"). أما بالنسبة لأرسطو فأقرب المدن إلى المدينة الفاضلة هي المدينة الديمقراطية demokratia وقد ترجمها العرب بـ"المدينة الجماعية" أو "السياسة الجماعية" وأحياناً بـ"مدينة الحرية". يقول عنها ابن رشد، "فأما (السياسة) الجماعية فهي التي يكون فيها كل واحد من الناس مُطلَقاً، يفعل ما يرغب فيه... ولذلك ينشأ في هذه المدينة جماع الأشياء المختلفة مما هو في المدن الأخرى... فتنشأ في هذه المدينة كل الصنائع والهيئات, وتكون معدة لأن تنشأ فيها المدينة الفاضلة وسائر أنواع المدن. وبيِّن أنه لا سيادة (=في هذه المدينة) إلا بإرادة المَسُودين أو تبعاً للقوانين الأولى (الفطرية)، ولذلك فمما لا ريب فيه أن تُحفظ على الناس حقوقهم الأولى وهي: الأماكن التي يختارها أهل المدينة أولَ مَقدمهم إلى هذه المدينة، وكذا مطعمهم مما هو موجود بها أيضاً، يلي ذلك حقوقهم الثواني التي هي البيع والشراء، تليها حقوق ثوالث هي هيئاتهم وما شابه ذلك" مما نعبر عنه اليوم بالحقوق السياسية.
ذلك -بإيجاز مُخل- عن تاريخ اللفظين citoyen، citizen لكن السؤال التاريخي المطروح اليوم في أوروبا هو التالي: إذا كان مفهوم المواطن والمواطنة قد تحقق في أوروبا عقب الثورة الفرنسية في ظل الدولة/ الأمة، فكيف يمكن الحفاظ عليه في "الاتحاد الأوروبي" الذي يقوم كبديل عن الدولة/ الأمة. إن قيام الاتحاد الأوروبي يستتبع قيام "المواطن الأوروبي". فبأي معنى!؟
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فعصرنا، عصر العولمة والأمْركة، الذي تمكن -وهدفه أن يتمكن- من محو الوطنية، والدولة/ الأمة، ليترك المجال لـ"الفوضى الخلاقة" التي أبرز أبطالها "القبيلة" و"الطائفة" و"برميل البترول"... الخ، أقول هل يسمح عصر العولمة هذا بقيام وازدهار مفهوم المواطِن والمواطَنة بمعنى citoyen، citizen؟