لو لم تنصرف صحف الشارع البريطاني في الأيام الماضية إلى الاهتمام بقضية مقتل الأميرة ديانا وصديقها دودي الفايد، وتسارع فتيات صغيرات إلى الانتحار،
لظلّت بالتأكيد معنيةً بأسقف كانتربري ونُصرته للشريعة الإسلامية! قصة الأسقف "روان ويليامز" مع المسلمين والإسلام ما بدأت قبل شهر مع تصريحه بشأن الشريعة وتطبيقاتها، بل قبل سنتين، عندما ذكر في محاضرةٍ له أنّ التشدد في الإسلام لا علاجَ له بسبب شدة تجذره في نصوص المسلمين وذهنيتهم. والأسقف الذي هو رأس الكنيسة الأنجليكانية ببريطانيا والعالم، والتي يبلغ عدد أتباعها حوالي 90 مليون نسمة، معروفٌ بجرأته وميله للإثارة بعض الشيء وانفتاحه في كلّ الأحوال. فقد قاد بنفسه نقاشاً عن الشاذين بين رجال الدين، وعن دور المرأة في الكنيسة، وعن الحب والجنس قبل الزواج.. إلخ. وكان خصومه في الكنيسة قد أنذروا المجتمعين في برلمانها بأن لا يصوّتوا له ليكونَ أسقفها، لأنه سيثير من المشاكل أكثر مما يقدّم من الحلول!
وعلى أيّ حال، فإنّ وليامز قال قبل شهر في إحدى مقابلاته مع الإذاعة البريطانية إنّ على المشرّع البريطاني والقضاء البريطاني، النظر في إمكان تطبيق أجزاء من الشريعة الإسلامية تتعلق بالمشكلات التي تخص المسلمين. ولأنّ المحاضرة ما كان ذلك موضوعها، وما أوضح الأسقف أية أجزاء يعني، فقد أطلقتْ الصحف الشعبية حملة ضد الرجل متهمة إياه بمحاولة تطبيق الحدود الإسلامية في القتل والسرقة والزنا! وفي حين رحَّب المسلمون البريطانيون برأي الأسقف، ما اهتمت الصحف الجادّةُ بالمسألة، واستمرت الحملةُ من صحف الشارع، إلى حدٍ أرغم رئيس الوزارة البريطانية على التصريح بأنّ الحكومة والبرلمان لا ينويان تغيير القوانين، وليس من شأنهما الاشتراع لصالح أي دينٍ أو في مُواجهته. وتحت وطأة الحملة نفسِها اضطر الأسقف للقول أمام برلمان الكنيسة إنّ كلامه أُسيئَ فهمُهُ، وربما كان يتحمل جزءاً من المسؤولية عن ذلك، لأنه قال ذلك في جملةٍ معترضة، ولم يوضّح قصده. لكنه أكَّد على حقه وواجبه في الاهتمام بمشكلات التواصل والحوار والحياة بين أهل الأديان في بريطانيا والعالَم.
لكن ما هي المشكلات التي كان يشير إليها أسقف كانتربري، والتي قد تستدعي تطبيقاً لبعض أحكام الشريعة؟ في بريطانيا اليوم نحو مليوني مسلم، جاءت غالبيتهم الكبيرة من الهند وباكستان. وهؤلاء لديهم عشرات المشاكل في الزواج والطلاق والإرث والحضانة. والمعروف أنّ بعض العقود تكون قد أُجريت في البلد الأُمّ، ثم تحدث المشاكل في بريطانيا. أمّا القضاة البريطانيون فيعودون إلى الأعراف التي عاشوها مع المسلمين عندما كانوا مستعمرين في شبه القارة. في حين يتقيد بعضُهم بالقانون المدني البريطاني، والذي يُثير تطبيقه على المسلمين مشكلات بقدر ما يقدّم من حلول. والمعروف أنّ المسلمين أقاموا في الحقيقة "محاكم" أو احتكامات عُرفية فيما بينهم، لكنّ الطرف المحكومَ عليه أو الذي لا يُلائمُهُ الحلّ المقترح، يلجأ للمحاكم البريطانية، وهو الطرفَ النسائي عادةً. وما كان ذلك يثير قضايا كبيرة في الجيل الماضي، أي حتى سبعينيات القرن الماضي. فالذين يذهبون للمحاكم البريطانية، كانت تعتبر "الجماعة" أنهم أصبحوا خارجها، وبالتالي تنتفي المسؤوليات المتبادَلة. إنما مع صعود الوعي الذاتي بالخصوصية، صارت الأجيال كلّها، ومن الطرفين، تميل لتطبيق الحلّ الشرعي، حتى عندما تلجأ للمحاكم البريطانية، لأنّ الحلول العُرفية غير ملزِمة قانوناً. وبين القضاة البريطانيين شبانٌ متحمّسون للعلمانية وللفصل بين الدين والدولة، وهؤلاء يريدون "تحرير" المسلمات من "إسار" دينهن، لذلك يتبنَّون الحلول الراديكالية تبعاً لنصّ القانون، فيزيد ذلك من تعقيدات الأُمور. وأمام المحاكم البريطانية اليوم آلاف القضايا المعروضة التي يتصل أكثرها بالطلاق وحضانة الأطفال والنفقة. وهي أمورٌ تختلفُ فيها أحكام القانون، عن أحكام المذهب الحنفي الذي يعتنقُهُ مسلمو شبه القارّة الهندية، أو الذين أتوا من هناك قبل جيلين أو ثلاثة.
ويليامز أراد ردْم الهوة بالإصغاء إلى آلاف العائلات المسلمة، كما اعتدنا نحن أن نصغي للغرب، علومه وأعرافه... سخافاته وسفاسفه!
وما أراده أسقف كانتربري، كما أوضح فيما بعد، هو النظر في إمكان تطبيق الحلّ الفقهي الإسلامي في المحاكم، إذا اختار المتخاصمون ذلك. ولكي لا يبقى الأمر عرضةً للأخذ والردّ، رأى إمكان الاشتراع في ذلك استناداً إلى صَون الحرية الدينية التي يرعاها القانون المدني العلماني. بيد أنّ ذلك يثير مشكلات لجهة التمييز بين المواطنين، بإخضاعهم لقوانين متعددة. وفي العادة عندما يجري اشتراع قانون لا يبقى تطبيقُهُ اختيارياً بل يُصبحُ ملزِماً لكلّ الأطراف. وكما سبق القول فإنّ القُضاة البريطانيين والفرنسيين (والآن: الألمان)، يُراعون الشريعة وأعرافَها ومدوَّنات الأحوال الشخصية في مصر وتركيا وباكستان، إذا كانت القضايا المعروضة بين مسلمين، وليست بين مسلمٍ وزوجته الأوروبية. لكنّ تلك المُراعاة عُرفية كما سبق القول، وهي تُطبَّقُ دونما ذكْرٍ لذلك. وقد كان من دوافع تصريح الأسقف أيضاً أنه أراد الإسهام في دمج المسلمين بالمجتمع البريطاني، بحيث يجد الجميع في القوانين متسعاً حتى لتقاليدهم الخاصة، بدلاً من الانفصال التدريجي واللجوء للحلول التي تزيد التباعُد والانعزال.
وإذا كان ذلك كلُّه محلَّ اعتبار، فالذي لا ينبغي نسيانُهُ هو التحولات الكبرى خلال العقود الماضية، والتي أنتجت في أوروبا دنيويةً شديدةَ الهول وخروجاً جماعياً من الكنائس، لدى البروتستانت التقليديين أكثر من الكاثوليك. والواقع أننا لا نعرفُ مبادراتٍ للكنيسة الأنجليكانية للحوار العميق مع اليهود والمسلمين، باستثناء ما حدث ويحدث أيام هذا الأسقف والأسقف السابق. فالتواصُلُ مع المسلمين- الذين يبدو دينهم شديد الحيوية والفعالية- يخدم الأفهام والقيم الجديدة التي يؤكد بعضُها على الفردانية بطريقة لا تترك للدين شيئاً. ولا شكَّ أنّ الأسقف يعرف الكثير عن الثوران الديني داخل الإسلام، وفي البروتستانتية الأميركية. لذلك إذا أُريد استيعابُ هذا الثوران ينبغي التعامُلُ معه بحكمة، وهذا ما حاول الأسقف فعلَه، وسيظلّ يحاول. وهو بالمناسبة قد جوبهَ بالرفض من بعض المسلمين المتشددين: فالشريعة "لا تُطبَّقُ في دولةٍ كافرة"، والشريعة لا يمكن تطبيقُها "جزئياً"، فإما أن تُطبَّقَ كلَّها أو لا تطبق!
إن هذا المزاج الإسلامي المتغير وبخاصةٍ في بلدان الاغتراب، هو الأكثر إغراباًَ وتحييراً في أوروبا المعاصِرة. والمعروف أنه في السنوات الأخيرة، تجاوز الأمر التأكيدات المبالَغ فيها على الهوية والخصوصية، إلى قيام بعض الشبان بممارسة العنف والهجمات الانتحارية. وقد أجابت الحكومات الأوروبية (ومنها الحكومة البريطانية) بهستيريةٍ وتغييراتٍ للقوانين وفرض قوانين جديدة للتنصت والرقابة والقبض بالاشتباه والحجز الاحتياطي ومنع الانتقاد في المساجد وحبس بعض المشايخ أو نفيهم. ويحاول أسقف كانتربري أن يفهم هذا الثوران وأن يتلاءم مع خصوصيات المسلمين وطرائقهم في التفكير. وقد لا يكون ذلك كافياً وسط ضغوط الدولة والسياسيين. والطريف أنْ لا يخافَ رجل الدين الكبير على كنيسته (اشترى المسلمون كنائس وحوَّلوها إلى جوامع)، وأن يخاف الجمهور البريطاني والألماني والفرنسي من "عدوانية" المسلمين وتعصُّبهم الديني، رغم أنه جمهورٌ غير متديّن. لكنّ أسقف كانتربري يذهب إلى أنّ ذلك هو السبب بالذات، فالجمهور الأوروبي غير متديّن، ولذلك لا يعرفُ مدى التزام كثيرين من شبان المسلمين بدينهم وأخلاقهم، واحتفاظ عديدين منهم أيضاً بثقافة التعايُش والانفتاح. وقد وقع في تأملات الأسقف، كما أوضح فيما بعد، أنه لا بد من كسْب ثقة هؤلاء الشبان بحيث يتضاءل لديهم تأثير شائعات التآمُر على الإسلام والمسلمين. بقدْر النجاح في ذلك -كما قال ويليامز- نمنع نشوء أجيالٍ جديدةٍ من الشبان الحاقدين على دنياهم وعلى العالم، ونمهّد السبيل لتقوية التعددية المقترنة بالتسامُح والوداعة. ويقول الأسقف إنَّ ذلك كلَّه كان في ذهنه. لكن كان في ذهنه أيضاً آلاف العائلات الإسلامية التقليدية التي تُعاني من مشكلاتٍ جمّةٍ لاختلاف القوانين، وعدم الشعور القوي بالشرعية لدى المسلمين. لقد أراد ردْم الهوة بالإصغاء إلى أعراف هؤلاء، كما اعتدنا نحن أن نصْغي إلى الغرب، وعلومه وعاداته وأعرافه وسخافاته وسفاسفه!