تعني العلمانية "السلفية" العلمانية الجذرية التي لا تقبل نقيضها أو أي حوار معها. وعندما تتحول إلى عقيدة بديلة وتعصب مضاد لكل الأيديولوجيات والمذاهب المعارضة، وعندما تصبح مذهباً مغلقاً طارداً.
تجمع بين النقيضين، العلمانية نظرياً بمعنى الانفتاح وقبول الرأي الآخر، وفصل الدين عن الدولة وتحكيم العقل والاعتزاز بحرية الإنسان وبحقوق المواطن، و"السلفية" عملياً وتعني الحرفية والعقائدية والمذهبية والانغلاق، ورفض الرأي الآخر، وتأسيس الدولة على العلمانية كدين جديد، والثبات دون التغيير، وفرض رأيها على كل الناس، وإنكار حقوق المواطن في حرية الاختيار وتعددية الآراء.
وهو ما يحدث في تركيا هذه الأيام بتصديق البرلمان على سن قانون يسمح بحرية ارتداء الحجاب في الجامعات وقيام العلمانيين، وهم أقلية في البرلمان، بتنظيم احتجاج داخله وخارجه ضد قانون وافقت عليه الأغلبية، مع أن الديمقراطية من ركائز العلمانية ومكوناتها. وقد اعتبروها خطوة لأسلمة المجتمع، والتوحيد بين الدين والدولة من جديد، وهدماً لأسس الدولة التركية الجديدة والثورة الكمالية التي قضت على الخلافة العثمانية، وأقامت بدلاً منها الجمهورية التركية الجديدة على أسس علمانية خالصة.
والحقيقة أن العلمانية تعني أن الدولة لا دين لها. تقوم على القوانين الوضعية والدستور والمواطنة ومساواة الجميع في الحقوق والواجبات. الدين علاقة خاصة بين الإنسان وربه، وليس علاقة عامة بين المواطن والدولة، عبادات وليس معاملات، دين وليس دنيا. والعلمانية على هذا النحو دين جديد، تريد إقامة الدولة عليه. وهو ما يناقض روح العلمانية، وأن الدولة لا دين لها. علمانية في الظاهر و"سلفية" في الباطن. فقد استمرت العقلية "السلفية" عند العلمانيين الأتراك أكثر من استمرارها عند الإصلاحيين في "حزب العدالة والتنمية" الذي يقبل الرأي الآخر، ويحتكم إلى المعايير الديمقراطية، الانتخابات البرلمانية والدستور واحترام الأقلية لرأي الأغلبية. الدولة لها رؤية استراتيجية تعبر عن أمنها القومي طبقاً للجغرافيا والتاريخ والموقع وعبقرية المكان، وليس لها دين واحد بل قد تتعدد فيها الأديان. والدين مثل الأيديولوجيا تعبير عن ذلك.
إذا كانت العلمانية عملة العصر فقد تحجَّرت وأصبحت عقيدة تتجاوز كل العصور. في حين أصبح الإسلام رؤية تتجدد بتجدد العصور.
لقد كانت العلمانية المتوحشة اختياراً طبيعياً لتركيا بعد سقوط الخلافة، وكرد فعل على ضعفها وفسادها وتخلفها. وكانت أساس قيام الدولة الوطنية التركية الحديثة المستقلة التي استطاعت تحرير الوطن من الاحتلال اليوناني، وبناء الدولة الوطنية، بعد أن عجز التيار "السلفي" عن إنقاذ الخلافة، وعجز التيار الإصلاحي عن إصلاحها. ومنذ عشرينيات القرن الماضي وحتى الآن تغير الشعب التركي. وبرد قانون الفعل ورد الفعل. واستحال تغيير تركيا عن طريق الانقطاع عن الماضي. وظل قابعاً في اللاوعي السياسي. فإذا ما ضعفت الدولة الوطنية وتعثر اقتصادها ولم تستطع الاندماج كلياً في النموذج الأوروبي الجديد والتردد في قبولها عضواً في الاتحاد الأوروبي قويت جماعات المعارضة الإسلامية والماركسية والليبرالية. وحدث رد فعل آخر عند أربكان بالعودة إلى اللاوعي الإسلامي الذي لم ينطفئ. وظن الناس أنه يعود إلى خلافة جديدة بعد أن طاف العالم الإسلامي كما فعل محمد نجيب في بدايات الثورة المصرية. فأطاحت به العلمانية التي لم ترض لغيرها أن يكون بديلاً لها، وحرمت عليه العمل بالسياسة لمدة خمس سنوات حتى شاخ الرجل. ثم استطاع "حزب العدالة والتنمية" أن يستثمر هذا التغيير في رؤيته للإسلام الحضاري الذي يضم الإسلام العقلاني المستنير، والإسلام الليبرالي، وإسلام العدالة الاجتماعية، في آن واحد. وإذا كانت العلمانية عملة العصر فقد تحجَّرت وأصبحت عقيدة تتجاوز كل العصور. في حين أن أصبح الإسلام رؤية تتجدد بتجدد العصور. وكان من جراء تحجرها وتجاوزه الزمان والمكان أن سقطت الخلافة كما تسقط العلمانية الآن.
إنما الخطورة في كسب المعارك الصورية مثل حرية ارتداء الحجاب في الجامعات. صحيح أن الحجاب رمز لحضارة، وعلامة لهوية كما هو الحال في "الشادور" في إيران ولا يزال ضد محاولات الشاه في التغريب، ولكنه صوري حتى ولو كان مقدمة لرموز أخرى، وبداية لأسلمة المجتمع. فالحجاب مسألة شخصية، وزي مثل باقي الأزياء الوطنية. ليس له هذه الأهمية القانونية والتشريعية. لا شأن للدولة به، سلباً أم إيجاباً. هو جزء من الحريات العامة وحق المواطنة. صحيح أن الرمز يعبر عن واقع، لا مع ولا ضد، ولكن الواقع أيضاً يعبر عن نفسه في القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. هو الواقع المباشر الذي يمس حياة الناس، سعادتهم وشقاءهم، وليس مجرد رموز وعلامات صورية. المهم هي معارك الاستقلال الوطني، ورفض سياسة الأحلاف، والتفكير في الخروج من حلف شمال الأطلسي بعد أن فقد وظائفه بعد انهيار المنظومة الاشتراكية و"حلف وارسو"، وغلق القواعد العسكرية مثل قاعدة "إنجرليك". المعركة هي عثور تركيا على أحلاف من دول الجوار تعبيراً عن أمنها القومي في الشرق، العراق وإيران والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا، وفي الجنوب، مصر والشام، وفي الشمال روسيا، وليس في الغرب الأوروبي أو الأميركي وحده، والتأكيد على أن جناحها الشرقي الممتد إلى آسيا لا يقل أهمية عن جناحها الغربي الممتد في أوروبا عبر البلقان. المهم هو الابتعاد عن إسرائيل والاقتراب من العرب، والعمل المشترك على تحرير القدس. المهم أيضاً معارك التنمية والتقدم والتصنيع. وقد سارت في هذا المجال على طريق إندونيسيا وماليزيا. والمهم ثالثاً القضايا الاجتماعية في العدالة والمساواة، والقضاء على البطالة. هذا هو الصراع بين "حزب العدالة والتنمية" والعلمانية على الأمد الطويل، ومن الباب العريض وليس من الباب الضيق، باب الحجاب. هذه هي الأرض المشتركة التي يقف عليها الإسلام والعلمانية والتي تسمح بالكشف عن التماهي بين الإسلام والوطنية، وبين العلمانية والتغريب. أما أرض الرموز مثل الحجاب فهي "سلفية" مشتركة في الوعي الإسلامي في "حزب العدالة والتنمية" وفي اللاوعي السياسي عند العلمانيين.
ويتكرر نفس الشيء في كافة أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي. ففي دولة عربية بدأ البرلمان يناقش ضرورة منع الاختلاط في الجامعات الخاصة بعد أن تأسست جامعة تلك الدولة الوطنية على مبادئ الليبرالية. وإذا كان الاختلاط قد وقع في مراحل التعليم الأولى فكيف يُمنع في المرحلة الجامعية؟ وإلى متى سيظل النظر إلى المرأة كأنثى، والرجل كذكر، وليس كمواطن يطلب العلم بصرف النظر عن جنسه؟ وهل قامت مناقشات مماثلة حول مذابح العرب في فلسطين والعراق واحتلال القدس؟
إن الطريق الثالث الذي يقيم الجسور بين الإسلام والعلمانية كما يفعل "حزب العدالة والتنمية" في تركيا والمغرب والذي اشتقته ماليزيا وإندونيسيا من قبل، هو الذي يساعد على تقوية الجناح الإصلاحي في المجتمعات الإسلامية، والعلمانية المستنيرة في مقابل العلمانية المتوحشة. فالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي هو المعيار. أي الفريقين أقدر على التعامل معه؟ ليست العبرة بالمنطلقات النظرية بل بالنتائج العملية. ليس المقياس هو البدايات بل النهايات.