قيمة التاريخ العظمى.. ليست في تتابع أحداثه.. ومقدرتنا على سرد مشاهده ومراحله وتراكماته.. قيمة التاريخ العظمى تكمن في قدرتنا على تأمله وإعمال بصيرتنا في حركته والإستلهام من دروسه ما يعيننا على تجاوز أخطاء البشر،
رموز وقوى و أفراد، والتي أثرت سلبا في مجراه العام من المنطلقات والى الغايات.. وقدرتنا على رصد النقاط الجوهرية الرئيسة في ذروة الانتصارات المجسدة على أرض جغرافيا الأمة.
2- بعض المشاهد:
مشهد الأمة الآن تجاوز ذروة الدراما في مسلسل حركتها في التاريخ الحديث..هو مشهد التيه والضياع في صحراء العولمة المتوحشة ومشروع التفيت الطائفي القائم أساسا على تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وهو بالطبع، أخر حلقة تم إنتاجها في فندق الفيرمونت بولاية سياتل الأمريكية، والمقر الدائم لقادة العولمة المتوحشة المتغطرسة المتسلحة بشتى أنواع الأسلحة، من السيطرة على الاقتصاد، الى الهيمنة على التكنولوجيا عسكرية كانت أو معلوماتية أو استهلاكية، مرورا بهيمنة على مؤسسات السيطرة المالية و الاعلامية و الثقافية والاجتماعية والسياسية.
مشهد الأمة الآن ليس وليد اللحظة الراهنة.. ولكنه الحلقة الراهنة من سيناريو الصراع بين الأمة في تاريخها الممتد، وبين مشاريع إقليمية حينا، والغرب في كل الأحايين.. سبقته حلقات متنوعة في الأدوار والممثلين والنص.. من الهكسوس والحيثيين، مرورا بالروم والفرس والتتر والمغول والترك، وصولا الى الفرنجة بحروبهم الصليبية، والفرنسيس والانجليز بحملاتهم، وخروج الغرب من حروبه الأهلية وصراعاته الثانوية بالتوحد في الهدف المشترك، الأ وهو أمتنا العربية.. ليست فقط في ذاتها، وان كان هذا صحيح، ولكن أيضا بإعتبارها قلب الدائرة الاسلامية، من آسيا وأفريقيا، وذات مجد وتاريخ حضاري عربي إسلامي، و نقاط مضيئة في مسيرة التاريخ الانسانى.. و هيمنة حضارية امتدت قرون عدة، وفي قلب أوربا، في عصور انحطاطها و ظلامها، بثمانى قرون في الأندلس، نقلتها من طور متخاف مظلم جاهلي، إلى طور حضاري مبصر متنور متمدن.
وكان طبيعيا أن تكون مصر " الموقع و الموضع "، اقدر على التجدد الذاتي، ليس فقط بسبب مزايا الجغرافيا والعمق التاريخي الثقافي الممتد عشرات القرون، ولكن أيضا بسبب تزايد كثافة دورها القيادي على مسرح المنطقة بعد تداعى ادوار دمشق وبغداد وتعثر الآستانة، كانت مصر هي التي هزمت حملات أوروبا باسم الصليب التي استمرت مائتي عام، ومصر هي التي ردت بقيادة قطز وبيبرس حملات المغول التي اجتاحت بغداد وأنهت حكم العباسيين، ونقل مماليك مصر إلى القاهرة نوعا من الخلافة الاسمية للعباسيين بدأت بالمستنصر "1361" وانتهت بعزل المتوكل الثالث "1517" على يد السلطان العثماني سليم الأول، ورغم تحولها إلى جزء من الخلافة العثمانية، فقد حافظت على استقلالها التقليدي المستقر منذ دولة احمد بن طولون "835 – 884" ودعم دور مصر أن خلافة الآستانة راحت تترنح أمام ضربات أوروبا بنهضتها البازغة، وبدأت اكبر هزائم العثمانيين اثر محاولتهم احتلال فيينا عام "1683" ونجح الحلف الصليبي الأوروبي في فرض معاهدة "كوشوك" في ابريل 1774 على السلطان عبد الحميد الأول، بعدها فرضت الحماية الأوروبية على المسيحيين في رعايا الدولة العثمانية.
وكانت أوروبا تحاول فتح أبواب مصر لنفوذها خصوصا الاقتصادي منذ القرن السادس عشر وكان ممثلو فرنسا في القاهرة والآستانة يقترحون احتلالها منذ أوائل القرن الثامن عشر، بل أن النمسا كانت تفكر في الاستيلاء على مصر من قبل ذلك.
ففكرة غزو مصر أقدم كثيرا من نابليون في عهد حكومة الديريكتوار، وتعود إلى منتصف القرن السابع عشر وهي أيضا ليست فرنسية فقط، لأن هناك مشروعا آخر روسيا ومشروعا يونانيا، كان دافعهما هو الصراع العنيف مع الإمبراطورية العثمانية، وكانت فكرة غزو مصر هي الحل الاستراتيجي في تلك المشاريع جميعا، لأن ضرب تركيا في مصر هو المفتاح الاستراتيجي السحري، لأن القاهرة في النهاية ستكون الموئل الأخير لو تراجعت تركيا من اسطنبول.
وسوف نجد الرحالة الفرنسي الأب كوبان في كتابه عن "الحروب الصليبية" يدعو إلى نفس الفكرة في منتصف القرن السابع عشر، كما نجدها في مقترحات بعض القناصل الفرنسيين في البلاط العثماني بالآستانة مثل دنيس دي هاى والماركيز دي فوانثيل وجير رواق، ولكن اخطر هذه المشاريع مختلفة المصادر كان هذا المشروع الذي قدمه المفكر الألماني ليبينيز وظل يلح به في مذكراته وخطاباته، وكانت أهم هذه المذكرات تلك الوثيقة التي كتبها باللاتينية مرة وبالفرنسية مرة، ملخصة مرة وضافية أخرى، ففي هذا المشروع يتحول ليبينيز من مفكر يدعو إلى التوفيق بين الأرثوذكسية والكاثوليكية، وبين أرسطو وديكارت، إلى داعية أهوج لفكرة عسكرية جعلته يعكف على دراسة مبررات الحملة وظروفها السياسية والاجتماعية، بل ودراسة الشواطئ المصرية والمسافة بين فرنسا ومصر وسهولة الانتقال بالبحر ومدة الانتقال وعدد التحصينات، وغير ذلك من عوامل "تقدير الموقف" التي يعكف عليها العسكريون بالضرورة. وقد كتب هذا المشروع الفيلسوف الألماني ليبينيز عام 1672 وأرسله إلى الملك لويس الرابع عشر أقوى ملوك أوروبا و"الملك الشمس" كما كان يوصف وفيه يدعو ألفيلسوف الملك أن يكف عن حروبه الأوروبية مع المسيحية في أوروبا فيعبر البحر إلى مصر، لأن الاستيلاء على مصر سوف يوقف المد العثماني الإسلامي وسط أوروبا ولأن تركيا العثمانية تهدد بولندا والمجر والنمسا.
وقبل ذلك كانت أوروبا الاستعمارية قد حققت نجاحاتها الأولى باكتشاف الأمريكتين عام 1493، وسقطت غرناطة في يد فرديناند وإيزابيلا، اللذان مولا في العام نفسه رحلة كريستوفر كولومبس التي انتهت باكتشاف أمريكا، ثم تمت لها السيطرة على الشرق الأقصى بعد اكتشاف طريق راس الرجاء الصالح، ثم نجحت أوروبا في تقليم أظافر القوة العثمانية، بعدها اتجهت أوروبا الاستعمارية بميراثها الصليبي لاحتواء القلب العربي الإسلامي، وكانت حملة نابليون طليعة الزحف، ورغم أن المقاومة البطولية للشعب المصري نجحت في صد الحملة ألفرنسية ثم الحملة الإنجليزية بعدها، إلا أن اثر الحملة ألفرنسية بالذات ظل باقيا يدغدغ الخيال النهضوي في مصر، فقد جاءت الحملة الفرنسية ومعها لمحات عن العلوم الحديثة التي طورتها الحضارة الأوروبية "نقلا وإضافة للإبداع الحضاري العربي الإسلامي" وجاءت معها بالأساتذة الكبار الذين قاموا بدراسة أحوال مصر والكشف عن أسرار تاريخها القديم.
وكان ذلك تحديا استفز استجابة تقابله، وقال الشيخ حسن العطار: "أن بلادنا لابد أن تتغير، ويتجدد فيها من العلوم والمعارف ما ليس فيها" وجاءت تجربة محمد على لتضع أمنية شيخ النهضة في الممارسة والتطبيق.
وتدور عجلة التاريخ، ليتوحدوا في مواجهة مشروع اليقظة الأول في عصرنا الحديث، بعد وراثة محمد علي الفعلية والعملية والواقعية لإمبراطورية الرجل المريض، فقد كان محمد علي باشا - إذن- صاحب مشروع سياسي نهضوي يهدف في المقام الأول إلى بناء قاعدة عسكرية وسياسية حديثة ذات شأن تقي المشرق العربي عدوان الغرب لا عن طريق المواجهة وإنما عن طريق التزود بأسباب المنعة والقوة التي تحقق نوعا من توازن القوى مع الغرب وتجعل الأخير يتعامل مع الدولة العثمانية معاملة الند للند، لذلك فقد سعى إلى أن يقيم في مصر "دولة نموذجية" حديثة توفر له فرصة إقامة دولة إسلامية قوية من خلال تطبيق نموذج مصر على الدولة العثمانية ذاتها، فقد صرح يوما لبعض خلصائه برغبته في الوصول إلى الآستانة، وخلع السلطان وتولية ابنه الصبي وتنصيب نفسه وصيا عليه لتتاح له فرصة إصلاح الدولة كلها، وهكذا كانت مصر - عند محمد علي- قاعدة انطلاق لمشروع سياسي إقليمي يعتمد على بناء قوة عسكرية كبيرة حديثة، وبناء مثل هذه القوة يحتاج إلى موارد مالية ضخمة تقصر دونها خزانة والى مصر التي كانت تعتمد على الخراج والمكوس، ولا يستطيع محمد علي أن ينشد تلك الموارد من مصادر خارجية كالآستانة مثلا، فقد جعله الحرص على إستقلال قراره السياسي ينفر من فكره الإستدانة ويرفضها عندما عرضت عليه في العقد الأخير من حكمه، فلا مفر أمامه من أن يدبر الموارد اللازمة لمشروعه السياسي من مصر ذاتها وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا إذا إستطاعت "الدولة" أن تضع يدها على موارد البلاد كلها، تديرها وتنميها بالقدر الذي يوفر الأموال اللازمة لبناء القوة العسكرية الحديثة، بما تتطلبه تلك القوة من مؤسسات إنتاجية وخدمية، ومن ثم كانت السياسات الإقتصادية التي نفّذها محمد علي - تدريجيا- وإنتهت بوضع الإقتصاد تحت إدارة السلطة المركزية وتعبئة الموارد لخدمة المشروع السياسي الإقليمي وإدخال تغييرات هيكلية على النظام الإداري وما إرتبط بذلك من تطور في التعليم،. وعلى الرغم من أن السبب المباشر لإنهيار تجربة محمد علي الرائدة كان التدخل الجماعي للدول الأوربية، وهزيمته العسكرية في الحرب معها، أي الظروف الخارجية، فان السبب العميق الجذور لهذا الإخفاق يكمن في الظروف الداخلية، وفشل محمد علي في تشكيل "كتلة تاريخية" من كل القوى والفئات الاجتماعية صاحبة المصلحة في الدفاع عن منجزات التجربة وإستيعاب دروسها وتنظيم صفوفها للوقوف ضد كل محاولات اجهاضها.
والدرس المهم الثاني الذي ينبغي إستخلاصه من تلك التجربة، هو وعي أوروبا بما يمكن أن تشكّله
الوحدة العربية من خطر على مصالحها ومطامعها الإمبريالية، وإستعدادها للجوء إلى تدابير صارمة لإجهاض أي مشروع لها، إذ كان محمد علي قبل مواجهته النهائية مع أوروبا، قد مد حكمه إلى الحجاز وأجزاء مهمة أخرى من الجزيرة العربية، وإلى سوريا الكبرى، حيث رحّب به السوريون بإعتباره محررا لهم من الإمبراطورية العثمانية المستبدة والمتفسخة ومناصرا للعنصر العربي داخل الإمبراطورية، على الرغم من أنه هو نفسه كان من أصل ألباني، ولا ريب في أن هذه الصحوة للقومية العربية وإمكان تحقيق الوحدة العربية على يد حاكم تقدّمي حازم، كان من الأسباب الرئيسية - إن لم يكن السبب الرئيسي- وراء مواجهة أوروبا له.
و تدور عجلة التاريخ لتصل الى أهم تجربة عربية في جغرافيا العروبة، وهي التجربة الناصرية.. و الناصرية ببساطة هي فكرة النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر و التي تحولت إلى فكرة عبر عنها التيار الذي عرف باسم الجامعة الإسلامية، والذي بدأ من نهايات الطهطاوي ونمى مع أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في طوره الثوري الأول، وفي النصف الأول من القرن العشرين استمرت الفكرة ذاتها فكرة النهضة استنادا إلى معادلة التوفيق بين ثقافة الذات ومتغيرات العصر في صورة الحزب الوطني (مصطفي كامل ومحمد فريد) ثم حركة الجيل الجديد بعد معاهدة 1936 خاصة مصر الفتاة بتطوراتها، ثم الحزب الوطني الجديد بقيادة فتحي رضوان، ولو تأملنا قليلا فسنجد أن حركة الضباط الأحرار كانت بمثابة مجلس أركان حرب للأجيال الجديدة في السياسة المصرية وقتها، هذا من زاوية الحركة، أما من زاوية الأفكار التي تواصلت منذ صدمة نابليون وحتى ثورة 52 فهي إجمالا كانت تعبير عن خط التوفيق الفعال، هذا الخط هو بذاته ما تطورت على أساسه الفكرة الناصرية في زمن التجربة الناصرية، وملامحه عند لحظة 1952 كانت على النحو التالي: طليعة عسكرية وثيقة الصلات بالتيارات الشعبية خاصة الأجيال الجديدة، عداء شديدا للاستعمار، الإيمان بسلطة مدنية مبرأة من شبهات الكهانة والحكم بالحق الإلهي، رغبة في استقلال سياسي تام، رغبة في استقلال اقتصادي باشتراكية الكفاية والعدل، رغبة في التوحيد العربي، تضامنا فعالا بين أمم العالم الإسلامي. هذه الملامح تكونت عبر كل تجارب النهضة (تطبيقية أو فكرية) التي تعاقبت منذ صدمة نابليون وحتى ثورة جمال عبد الناصر، المعنى الذي نقصده أن المشروع الناصري وجد قبل تجربة جمال عبد الناصر؛ لأنه ببساطة مشروع النهضة، لماذا نقول ذلك؟ لأن المشروعين الآخرين اللذين وجدا في الفترة ذاتها حملا سلبيات تخصهما، ففي مقابل خط التوفيق الفعال وجدت مدرستان في التفكير: أولاهما هي الانغماس في الاتجاه الغربي، والثانية هي الانغلاق على الموروث، عبر عن تيار الانغماس عدد من المفكرين، ثم تيارات سياسية حملت صفات الليبرالية والماركسية، وعبر عن خط الانغلاق أو رغبة الانغلاق عدد آخر من المفكرين، ثم تيارات سياسية دارت كلها حول الصفة الإسلامية، والتبس تفكير بعضها بمعنى الدولة الدينية التي لا وجود لها في التفكير الإسلامي الصحيح، تبقى نقطة متعلقة بالتغيرات التي حدثت بعد تجربة جمال عبد الناصر وبعد تراجع التيار القومي في أعقاب انتصار أكتوبر 1973، وهناك تغيرات درامية حدثت في الواقع العربي أو في الواقع الدولي، هذا صحيح لكنها لا تؤدي إلى نفي العناصر التي تكونت لمشروع النهضة الذي نطلق عليه اسم الناصرية، وإن جاز أن تضيف إليه عناصر جديدة ووضوحا أشد خاصة في مسألتين: الأولى تتعلق بعلاقة مشروع النهضة بالإسلام، والثانية تنصرف إلى علاقة مشروع النهضة بقضية الديمقراطية.
3- التقدم إلى الخلف:
لقد مثل نصر أكتوبر 1973 نقطة تحول حاسمة في تاريخ العلاقات الدولية، بل مثل أعظم درس تاريخى على إمتداد القرن الماضى، فلقد أثبتت معركة النفط وإستخدامه كسلاح إستراتيجي في 73 / 1974، أن النظام الدولي ليس نتاجاً "لحوار بين مجموعة من الحكماء" وإنما يعكس في الواقع موازين القوى الحقيقية، فقد أعتبر رفع أسعار النفط في عام 73 / 1974، بمثابة إنتصار جماعي للعالم الثالث، فلأول مرة منذ أربعة قرون يتخذ قرار يتعلق بالعالم أجمع ككل خارج إطار سيطرة المركز الرأسمالي، لقد أثبتت هذه الخطوة إمكانية هذا، وأثبتت أن ما يدعى "قوانين السوق" التي يستند إليها لتفسير إستحالة تغيير الأسعار المجحفة لمنتجات العالم الثالث، ليست سوى مقولة "أيديولوجية" وضعت لإخفاء حقيقة موازين القوى الدولية.
لقد كان نصر أكتوبر وإستخدام سلاح النفط وإتخاذ قرار جماعى للعالم الثالث برفع أسعار النفط في عام 73 / 1974 وهو أول قرار للدول النامية منذ أربعة قرون يتعلق بالعالم ككل وغير صادر عن سيطرة المركز الرأسمالي، كان ذلك دعماً لمصداقية برنامج العمل من أجل إقامة نظام اقتصادى دولى جديد وإمكانية إستخدام مصادر القوة المتاحة للدول النامية للحصول على أسعار مختلفة للمواد الخام وإستخدام الموارد المالية المتراكمة عن هذا الطريق للإسراع بعملية التصنيع وبهذا المعنى يمكن القول أن أكتوبر 1973 مثل بحق نقطة تحول في تاريخ العلاقات الدولية، إذ عند هذه النقطة أصبحت بلدان العالم الثالث واعية ليس بحقوقها فقط، وإنما بمدى قوتها بالأساس.
كان هذا القرار هو الدافع الرئيسى للغر ب للإنقضاض بوسائل أخرى على طور جديد لحركة جديدة بدت في الأفق
، وكانت البوابة الرئيسية هي الآقتصاد و عبر ما عرف ببرامج التثبيت و التكيف الهيكلى و التي أخذت غطاء آخرتحت مسمى الرخاء و الرفاهية و الاصلاح الاقتصادى، وكان خيار نظام الردة على الناصرية في مصر هو ضربة البداية لخطف مصرالدور من محيطها العربي وسلخها من قلب حركة مقاومة الهيمنة الغربية و اندماجها مع المشروع الغربي للهيمنة و السيطرة على العالم في ظل الحرب الباردة..و في هذا السياق فإن بعض الكتابات الغربية، التي تصدر عن بعض مراكز رسم السياسة والتفكير الإستراتيجي بعيد المدى تصرح بأن هناك هدفاً " إستراتيجياً " غير معلن في الوثائق المتداولة لبرامج التصحيح الهيكلي التي يعممها البنك الدولي والصندوق وهو " تفكيك أوصال الدولة " وقدراتها الإقتصادية. ولاشك في أن سيطرة رأس المال الأجنبي على بعض القطاعات الإقتصادية وخاصة الإستراتيجية منها سواء كانت صناعية أو مالية (القطاع المصرفي) سوف يؤدي بالضرورة إلى تجسيد هذا الهدف غير المعلن في تفكيك أوصال الدولة وقدراتها الإقتصادية، خاصة وأن خطر الإنقضاض الأجنبي على مقدراتنا الإقتصادية نتيجة ضعف سوق المال المحلي وتحفظ المدخرين التقليدي إزاء عمليات شراء أسهم الشركات، مما يجعل الطرف الأقوى والمرشح لشراء حصة القطاع العام هو " القطاع الخاص الأجنبي " وهو ما أصبح واقعاً في الفترة السابقة وليس " القطاع الخاص المحلي " وخاصة إذا كانت أسعار البيع بخسة أو مغرية وبالتالي فإن خطر تسليم منشآت القطاع العام الكبرى إلى كارتل أجنبي " بالمشاركة مع كارتل محلي " هو خطر ماثل وقائم ومؤثر بشكل مباشر في الأمن القومي والإستراتيجي المصري.
و إعادة قراءة هذا المشهد تمكننا من استنتاج جذور مخطط التفتيت من مدخله الاقتصادى و انعكاسه في خلق طبقة إجتماعية موالية تماما، إقتصاديا و فكريا و إجتماعيا وسياسيا، للمشروع الغربي بقيادته المركزية الأمريكية و غير منظمة ذاتيا لتظل خيوط تحريكها في الخارج. ليسهل الاستعانة بها في أى تكتيكات تخدم على الأهداف الرئيسية.
4- ما بعد الذروة:
أن الإصطدام بما يمكن أن تصير عليه أمور الأمة من الإستمرار في سياسات الإندماج الكامل في نظام العولمة دونما أى ضوابط أو خطط، أو حتى حد أدنى من الرؤية الإستراتيجية التي تدور حول معانى الوحدة، و السيادة، والهوية، و العدل، و المساواة، وتكافؤ الفرص، و الأمن، والمواطنة، وحقوق الإنسان الإجتماعية والسياسية و الإقتصادية و الثقافية، و الديمقراطية، وغيرها من مجمل المعانى التي تشكل منظومة النسق القيمى للأمة، هذا الإصطدام، قد فاق كل خيال.
فنحن بين مطرقة العولمة المتوحشة - المتغطرسة، المتسلحة بشتى صنوف القوة، عسكرية كانت أو إقتصادية أو إعلامية أو سياسية أوثقافية، التواقة لفرض هيمنتها وبسط سيطرتها وتحكّم نظامها ليس على الكرة الارضية فحسب بل أيضا على الفضاء الخارجى - وسندان تخلفنا الناتج عن سياسات تكرّسه و تعمّقه بدلا من أن تخرجنا من براثنه ؛ والأخطر من ذلك ؛ أن تستسلم عن وعى وأن تسلّم عن إرادة مقاليد الأمور لنظام العولمة.
ان مخطط تفتيت الأمة بمشروع الشرق الأوسط الجديد، ليس إلا محاولة أخيرة لإنقاذ سادة العالم الجدد و قوى الشر العالمى و عملائهم من الأنظمة العربية العميلة، الخائنة، الغافلة من السقوط الذريع و انهيار المشروع الغربي و في القلب منه المشروع الامبراطورى الأمريكى كقيادة مركزية لنظام العولمة الرأسمالية المتوحشة.
وإذا كان هناك ثمة أمل في المستقبل ؛ فلا يمكن أن يولد إلا من رحم مشروع قومى عربي إسلامي جديد يستوعب المتغيرات التي أرساها و أسس لها نظام العولمة " كنظام عالمى جديد " يمثل في جوهره مرحلة من مراحل تطور النظام الرأ سمالى العالمى مع الوضع في الإعتبار إستعادته لأسلوبه القديم في الإحتلال العسكرى المباشر "نموذج أفغانستان" - للسيطرة على بترول بحر قزوين وقاعدة للمشروع الإمبراطورى الأمريكى في آسيا الوسطى كحد أقصى أو نقطة إرتكاز لنظام العولمة في هذه المنطقة تمثل مانع حصين لإستعادة النفوذ الروسى السابق أو بروز نفوذ صينى محتمل كحد أدنى، - و نموذج العراق للسيطرة على ثان أكبر إحتياطى نفطى عالمى وضمان أمن الكيان الصهيوني كقاعدة متقدمة لحماية المشروع الإمبراطورى الأمريكى و مصالح الغرب ممثلا في نظام العولمة،
هذا فضلا عن إستيعاب التغيرات الجيوسياسية المصاحبة لهذا النظام لتعظيم إمكانيات التحالفات و إدارة السياسات وبخاصة الإقتصادية منها في ظل تناقضات ثانوية تعبر عن مصالح تسعى لتعددية الأقطاب في عالم تصمم فيه الولايات المتحدة الأمريكية و بمشروع إمبراطورى على تفويت أى فرصة وإجهاض أى محاولة لبروز قوى دولية أخرى منافسة لمشروعها.
5- حتى لا نكون ردا للفعل: -
مشهد الأمة الأن ينبئنا بالغياب الكامل للمشروع السياسى العربي.. صحيح أن الأولوية الأن لمشروع المقاومة.. و هو بوتقة الإنصهار بين قوى الأمة الحية.. لكنه سيظل ردا للفعل، أى سيظل مشروع لمقاومة مخطط التفتيت و الهيمنة و التقسيم الطائفي..
و يبدو المشروع السياسى الإقليمى لإيران هو اللاعب الرئيسى في خارطة الأمة.. و المؤكد هو أن مواجهة ما قد بدأت بين عدة دول في المنطقة العربية وإيران، وأن تلك المواجهة تتخذ شكل الحرب الباردة التي ترتكز على العمل غير المباشر، الذي لا يقود إلى المواجهة المكشوفة، لكنه يهدف في النهاية إلى تحقيق نفس الغرض، وهو فرملة الامتداد الإيرانى في المنطقة العربية، ومن المؤكد أيضا أن إيران قد أدركت ذلك بوضوح شديد، وبالتالى أصبحت الخيارات المتاحة أمام الطرفين محددة تماما، فلا يوجد مجال لنكوص إيران عما كانت قد تخيلت بعض مراكز القوى داخلها أن الفرصة متاحة للقيام به، ولا يوجد مجال لقيام العواصم العربية المعنية بإخلاء الطرق لإيران لملء ما تعتقد أنه فراغ عربي. وبالتالى، تتمثل الاحتمالات المباشرة في المدى القصير في أن يتجه الطرفان إلى الصراع غير المباشر الذي تستخدم فيه الحملات الدعائية والارتباطات السياسية والدعم المالى والحروب بالوكالة والأنشطة السرية، وهو ما تقوم به إيران عمليا، ولدى الدول العربية أيضا قدرات من نوع ما في هذا المجال، أو أن يتجه الطرفان إلى نوع من الوفاق الذي يقود إلى تحديد قواعد الاشتباك أو فض الاشتباك بينهما على مسرح الإقليم.
عند هذا المشهد فإن رد الفعل للقوى العربية الثورية بالتحديد، هو التنادى لإعادة بناء الحركة العربية الواحدة.. و هذا في ذاته فريضة غائبة، بل هي الفريضة الوحيدة الغائبة الأن في مسرح الأحداث.. شريطة ألا تكون نوعا من الهروب النفسى من الغياب المؤثر، إلى الفكرة البراقة، و الإحتماء الذاتى بالنسق الفكرى، و ايهام النفس بالسير في الاتجاه الذي ينبغى..
هنا بالذات، لن يكتب لأى محاولة بعضا من النجاح في المستقبل القريب، مالم تستخرج من كل التجارب القومية، في الحكم أو في الشارع، نقاط الضعف الكامنة في أنوية قواها و أحزابها و حركاتها.. مالم تصل الجرأة في النقد و النقد الذاتى الى حد الجراحة الماهرة لإستئصال الأورام و النتوءات و الدمامل.. مالم نقسوا على الذات قسوة المحب لتطهيرها من أمراضها الذاتية و مواجهتها الصادقة الأمينة مع النفس..
لن يكتب أى نجاح لحركة ذات تاريخ و تراث و تجارب في النضال و في الحكم، إلا بالمواجهة الحاسمة بين قواها و فصائلها و أحزابها..
لن يكتب لنا نحن الحالمين بحركة قومية عربية جديدة و متجاوزة أى نجاح مالم نقف على اسباب الفشل الذي نتجرع مرارته.. و الفشل في ذاته ليس عيبا.. إنما الجريمة هي عدم الوعى بالأسباب التي أدت إليه.. فيكتب علينا إعادة إنتاج نفس التجارب، مع بعض التغيير في الأشخاص و الأدوار و الأساليب.. لكن يظل الخلل في الأنوية كامن، مستتر.. الى أن يأتى حينا من الدهر فينخر في العظام.. و ينتشر كالخلايا السرطانية..
ليست هذه دعوة للتمهل، أو التوقف، بقدر ما هي دعوة للبداية الجديدة الصحيحة القوية المتجاوزة كل ما يستدعيه الماضى من خبرات، إيجابة كانت، أو سلبية.
6- عن الخطاب القومى الجامع و الكتلة تاريخية:
الدعوة إلى قيام «حركة قومية جديدة» تتفادى الأخطاء والرواسب التي علقت في أذهان الكثيرين، بحق أو بغير حق، حول الحركات القومية التي وصلت إلى السلطة في عدد من الأقطار العربية خلال العقود الخمسة السابقة لا بد أن تكون ديمقراطية في منطلقاتها الأيديولوجية وفي ممارساتها العملية قبل الوصول إلى السلطة، وبالقطع، أثناء توليها السلطة. كما لا بد لها من أن تجد صيغة أكثر ملاءمة وتعاطفاً ووضوحاً مع المحتوى الحضاري للدين، وبخاصة الإسلام، كقوة حضارية أصيلة متعمقة في الوجدان الشعبي العربي، وأن تتبنى «المشروع الحضاري القومي العربي» بمطالبه الستة المتمثلة في:
- الوحدة العربية، في مواجهة التجزئة بكل صورها القطرية والطائفية والقبلية.
- الديمقراطية، في مواجهة الاستبداد بكل صوره وأشكاله.
- التنمية المستقبلية، في مواجهة التخلف أو النمو المشوّه والتابع.
- العدالة الاجتماعية، في مواجهة الظلم والاستغلال بكل صوره ومستوياته.
- الاستقلال الوطني والقومي، في مواجهة الهيمنة الأجنبية الإقليمية والدولية.
- التجدد الحضاري، في مواجهة التجمد الذاتي من الداخل والمسخ الثقافي من الخارج.
ولا بد من أن يقوم برنامج عمل وتحالفات هذه الحركة القومية الجديدة على فهم لحقيقة قوى التغيير والتحول الحالية في الوطن العربي، من منطلق الإبداع في التعامل مع الحقيقة، وليس مجرد التسليم بالامتدادات الخطية لها. ومن هنا، تأتي ضرورة الحوار الجاد مع فصائل القوى التقدمية العربية الأخرى، وبخاصة مع التيار اليساري العروبي، والتي حصلت لديها، خلال الأربعين سنة الأخيرة، تحولات مهمة وأساسية في قناعاتها ومواقفها، وبدرجات مختلفة، من القومية العربية والوحدة العربية. ولم يعد هذا الموضوع مجرد شعار تكتيكي لدى الكثير منها، بقدر ما يمثل قناعات أملتها الخبرة التاريخية التي مرت بها. ومما يمكن أن يساعد في بدء نجاح هذا الحوار، هو أن يكون التركيز فيه على تطلعات وأهداف المستقبل، حيث يتوافر اتفاق كبير حولها، أكثر مما يدور حول تقويم وتفسير أحداث الماضي، حيث هناك اختلافات شديدة حولها. كما إن نجاح هذا الحوار منوط بمدى اقتناع فصائل الحركة التقدمية العربية الأخرى هذه بالديمقراطية ومتطلباتها؛ من تعددية سياسية، واحترام الرأي الآخر، وقبول التعايش والصراع السلمي الديمقراطي. ومن دون توافر جو حقيقي من هذه الثقة والاعتراف المتبادل بحقيقة الوجود وحق الاستمرار والتعبير عن الرأي، يصبح الحوار - حتى إذا حصل - مجرد هدف مرحلي لا يلبث أن تتخلى عنه الجماعات التي تتاح لها فرصة الوصول أو القرب من السلطة.
كما لا بد للحركة القومية الجديدة من أن تتفاعل وتتحاور مع القوى الثورية الإسلامية، كقوى اجتماعية، وكحقيقة موجودة، شرط أن يكون إطارها المرجعي عربياً، وأن تكون ديمقراطية، بما تتضمنه من إقرار للتعددية السياسية والاجتماعية، واحترام هذه التعددية، والتهيؤ للتعايش معها، حتى يمكنها أن تؤدّي دوراً إيجابياً في هذا المشهد، أي أن تتوجه بصوتها، أصلاً، إلى كل الوطن العربي، حتى إذا كان في مخططها البعيد أن تتجاوز هذا الإطار إلى ما هو أوسع. ذلك أن حركة إسلامية ثورية معادية للعروبة، أو ذات توجهات خارج هذا الإطار، من شأنها أن تثير من الفرقة والانقسام الديني والطائفي والعرقي الشيء الكثير، حتى داخل مجتمع الدولة القطرية نفسه، ناهيك بالمخاوف والهواجس التي يمكن أن تنشأ في الأقطار المجاورة. وهذا يستبعد من الحوار، بالضرورة، الحركات الإسلامية المذهبية، وكذلك الحركات الدينية السرية التي تلجأ إلى العنف الإرهابي كوسيلة للوصول إلى السلطة، والحركات الدينية الفاشية في تنظيمها الداخلي، أو في منطلقاتها في التعامل مع المجتمع ومع القوى السياسية الأخرى.
إن قيام «الكتلة التاريخية» بين التيارات الرئيسة في الأمة: التيار القومي العربي، والتيار الإسلامي العروبي، والتيار اليساري العروبي، والتيار الليبرالي الوطني العروبي، والتي توصّل لم يعد في اللحظة الراهنة أحد الخيارات المتاحة أمام الأمة فقط، بل بات خيارها الوحيد لمواجهة الهجمة التي تستهدف وجودها وهويتها واستقلالها ومواردها في آن معاً.
إن مسيرة التلاقي بين هذه التيارات ينبغي أن تستمر في كل اتجاه، وفي كل ساحة، وعلى كل مستوى، وفي كل إطار عمل، وفي كل انتخابات نيابية أو بلدية أو نقابية، لا كمجرد تعبير عن الإحساس المشترك بالمخاطر التي تواجه الأمة، بل، أيضاً، كتعبير عن مستوى النضج الذي وصلت إليه قيادات الأمة، ومفكروها، ومناضلوها، بعد مسلسل التجارب المريرة التي مرت بالأمة، والتي كان الانقسام والتناحر بين قوى الأمة وتياراتها، بل داخل هذه القوى والتيارات نفسها، هما العنوانان البارزان والسببان المباشران لتلك النكسات.
واليوم، وأكثر من أي وقت مضى، فإننا نقترب من تحقيق مهمات التحرير والتغيير والتطوير في الأمة بقدر ما نتقدم على طريق توحيد تيارات الأمة وطاقاتها.
cdabcd
المصادر:
1- د. عبد الحليم قنديل "عن الناصرية والاسلام"
2- د. خير الدين حسيب: "حول الحاجة الى كتلة تاريخية تجمع التيارات الرئيسية للأمة"
3- عبد المجيد راشد: الكارثة و الوهم - مستقبل سياسة الاصلاح الاقتصادى بمصر في ظل نظام العولمة، مكتبة مدبولى