تشكل حركة أحمد بن حسن (اليماني) التي أعلنت عن نفسها صراحة بعد المواجهات المسلحة التي دارت في محافظتي البصرة والناصرية في 9 محرم الماضي، تحدياً واضحاً لأحزاب قائمة الائتلاف العراقي الموحد الحاكمة والتي تتخذ من الفكر الشيعي (الامامي) مرجعية فكرية وسياسية لها،
وذلك أن الحركة وإن تبنت الفكر الشيعي الامامي إلا أنها تختلف عنه في قضايا أساسية منها كما نقلت تقارير صحفية أن (التقليد) غير واجب، وان (الخمس) لا يدفع إلا للإمام المعصوم، وتحث الناس على التفقه بالدين لكي (لا يضلوا بالسير الأعمى خلف الآخرين). وهدف الحركة صرف الناس عن المراجع الدينية وعن الحوزة، واليماني قدّم نفسه على انه آخر سفراء الإمام المهدي الأحياء بعد أن توفي سفراؤه الأربعة منذ القرن العاشر الميلادي. ونسب البعض له قوله أنه ابن المهدي ويلتقي به وسيكون الإمام من بعده.
بصرف النظر عن تفاصيل الفكر الديني للحركة، ومدى السلامة والصواب فيه او الانحراف، فقد استطاعت حركة (أنصار الإمام المهدي) كما تسمي نفسها، أن تفرض وجودها على الساحة السياسية العراقية وتضع حكومة الاحتلال وحزبا عبد العزيز الحكيم والمالكي في حرج شديد وارتباك كبير، ذلك ان الحركة تشكلت مطلع 2004 وانتشرت وسط وجنوب العراق ولها مساجدها ومكاتبها المنتشرة في البصرة والناصرية والكوت والديوانية وبغداد والنجف. وفي النجف لديها مكتب مفتوح أمام الناس يديره حسن الحمامي ابن المرجع الديني محمد علي الحمامي. ونشطت الحركة في نشر كتبها ومجلاتها ونظمت مسيرات سلمية في البصرة والناصرية.
تعرضت الحركة إلى اعتقال عدد كبير من عناصرها في بداية يناير الماضي، أدت تداعياتها إلى اندلاع اشتباكات بينها وبين قوات حكومة الاحتلال وميلشياتها، وسيطرت على البصرة وعلى شركة نفط الجنوب أكثر المرافق حيوية وأكبرها في المدينة، وعلى معظم مدينة الناصرية، وتكبدت قوات الحكومة خسائر بشرية كبيرة بينها ثلاثة ضباط احدهم برتبة لواء واثنان برتبة عميد.
فوجئت حكومة المالكي والمراقبين بالحجم الكبير للحركة وامتدادها الجغرافي الواسع، وامتلاكها قدرة قتالية عالية ومهارة تخطيطية واضحة مكنتها من خوض اكثر من معركة في وقت واحد، واعتمادها تكتيكات الكمائن، واسلحة القنص، والاقتحامات المباغتة، وأظهرت مهارة فائقة في التظليل والمناورة أحرجت الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة والقوات البريطانية المرابطة في قاعدة المطار بالبصرة، والمخابرات الإيرانية المنتشرة في الجنوب العراقي وبالبصرة تحديدا بكثافة عالية. الحركة زلزلت حكومة الاحتلال وأحزابها (الدينية) وكسرت احتكار هذه الأخيرة للسيطرة على الجماهير في الجنوب، وتمكنت من تعبئة أنصار حولها خاضوا قتالا شرسا أمام حشود قوات الحكومة من جيش وشرطة وحرس وميليشيات بدر ومقتدي.. ولم تستسلم الحركة بل انسحب معظم مقاتليها إلى الأرياف واختفوا بين الناس. وهي تشير إلى إن الورقة الدينية بدأت أطراف أخرى تلعبها بوجه الأحزاب الطائفية الحاكمة، كما إن نجاح حركة اليماني في السيطرة على مدينتين كبيرتين يشير إلى هشاشة الوضع الأمني وعدم فاعلية مئات الآلاف من القوات التي تبنيها الحكومة، فضلا على فشل حكومة عبد العزيز الحكيم والمالكي المدعومة من الحوزة في النجف، ووقوفها على رمال متحركة وعدم ثقة أبناء الجنوب بهما..
ذكر احد الباحثين في حديث له مع وكالة ملف بريس إن الفقر وسوء الأوضاع المعيشية والبطالة من أسباب اتساع ظاهرة احمد الحسن (اليماني)، وأشار إلى وجود حركة أكثر خطورة منها وهي حركة (حبيب الله المختار) التي بدأ نشاطها يتنامى خلال الأشهر الأخيرة في بغداد ومدن الفرات الأوسط وزعيمها يقول انه (بعد فشل كل المذاهب والديانات قمنا بهذه الثورة التصحيحية للوصول إلى الله مباشرة).
جاء رد فعل حكومة الاحتلال على حركة اليماني متناسبا مع حجم الخطر الذي يمثله، واتسم بانفعالية وارتباك وتضارب معلومات وتصريحات المسئولين فيها حول الحركة.. المراجع الدينية والحوزة في النجف شعرت بنفس الخطورة والقلق وطلبت من الحكومة الإسراع بالقضاء على الفتنة والانحراف قبل استفحالها.
أكثر ما أحرج الحكومة إنها مارست التدليس على الناس في الوسط والجنوب باسم الدين واستثمرت عواطفهم الدينية الصادقة لتبرير عمالتها للمحتل ومنع الجهاد ضده فإذا بها هذه المرة تكون هي هدفا لحركة سياسية تستخدم الدين ضدها ويدعي زعيمها انه يلتقي المهدي ويطالب خامنئي في إيران بأن يسلمه المرجعية.. انقلب السحر على الساحر.. والحكومة في حيرة من أمرها، وهذا ما دفعها إلى اتهام اليماني بتلقي الدعم من دول خليجية ومن السعودية تحديدا.. لم تعلن الحكومة اتهامها للسعودية رسميا أو على لسان مسئول معروف، وإنما عمدت إلى تسريبات صحفية منسوبة إلى مسئولين دون ذكر أسمائهم، جرى على لسانهم اتهام السعودية ودول الخليج بدعم حركة اليماني وان هذه الدول تريد شق وحدة الصف الشيعي وإبعاد الشيعة عن السلطة..
هذه أساليب لم تعد تنطلي على أبناء العراق في الوسط والجنوب وأصبحت الغالبية الساحقة تعرف إن هذه النغمة للتحريض الطائفي هدفها إبقاء الحكيم والمالكي والمتاجرين بالدين ممسكين بالسلطة ومهيمنين على ثروة البلد، وأبناء الشعب يعانون الأمرين من الفقر والبطالة والعوز. فقدت هذه الأحزاب أي مصداقية لها وتحاول مرة أخرى التلاعب بعواطف الناس الدينية والتدليس عليهم والتلاعب بالحقائق ونشر الافتراءات لمواجهة التحدي الذي يمثله احمد الحسن (اليماني) ففي أجواء مشحونة بالعواطف الدينية والنزعات الطائفية، تكون عملية تسييس الدين اقصر الطرق وأقربها للوصول إلى عواطف الناس.. وهذا ما يحصل في العراق اليوم، فالأحزاب التي جاءت على دبابات المحتل ليس لها رصيد عند الناس سوى استثارة مخاوفهم وقلقهم الديني مشحون بالعداء الطائفي ضد الآخر. وينطبق هذا الوصف على الأحزاب الطائفية التي تنتمي للوسط الشيعي وعلى تلك التي تنتمي للوسط السني، فهي جميعا فرطت بالإسلام وبدين أهل البيت عليهم السلام، وحين ارتضت أن تساعد المحتل على غزو الوطن وان تمارس السلطة نيابة عنه ولحسابه.. وإذا كانت حركة احمد الحسن (اليماني) قد هزت الحكومة والأحزاب الطائفية، ولم تكن الأخيرة كما لم تكن الأولى، فإن الاحتلال سيظل بيئة مواتية لهذا النوع من الحركات والأفكار بصرف النظر عن صدقها من عدمه، وستؤدي إلى مزيد من التفتت في نسيج المجتمع، وتشوش صورة المعركة الحقيقية القائمة في العراق الآن.. تشوشها وتبعدها عن مسارها الطبيعي وهو تعبئة كل العراقيين لمقاومة المحتل وطرده مع عملائهم، في حين تلبد الأجواء السياسية العراقية بحركات متطرفة تنتمي إلى كل المذاهب، يصب في مصلحة المحتل، وينشغل الناس بالجدل والصراعات الطائفية والمذهبية، ويتمتع المحتل بالهدوء.
ومع ذلك.. لم تترك المقاومة الوطنية الباسلة أي سبيل لنجاح هذا النوع من خلط الأوراق، وتشويش الرؤية لدى أبناء العراق من خلال تركيز جهدها على ضرب قوات الاحتلال وإلحاق الخسائر اليومية بها لتظل المعركة معركة شعب العراق وطليعته المقاومة العراقية الباسلة من جهة والمحتل وعملاؤه والأحزاب التي تحكم نيابة عنه وبحمايته من جهة ثانية، الخناق يضيق على رقاب حكومات الدمى.. والتحرير قادم بأذن الله.