ربنا سألناك، مُرْ جنون العاصفة أن يهدأ، والوحش في صدر الانسان أن يموت (...) ورد الى اللبنانيين اصالتهم وايمانهم بوحدتهم وبوطنهم، ليكونوا واحدا فيه كما هو واحد فيهم. والى تراب لبنان الذي شبع من الدماء، والى سمائنا التي شبعت من الدخان والمتفجرات والقنابل، أعطِ الخصب والعطاء والسلام والمحبة والوئام".
لويس أبو شرف
(في "لبنانيات" الصادرة حديثا عن "دار النهار")
"(...) ويتلهى المسؤولون كل يوم بالجدل بين موالاة ومعارضة لمعرفة من هو على حق ومن هو على باطل، ويختلفون على كل شيء (...).
ونرى أن التفكك قد أصاب جميع مرافق الدولة وبخاصة المؤسسة الدستورية منها (...) وأننا أمام دولة تشبه عربة تشد بها أحصنة من أمامهــــا وأحصنـــة من ورائهـــا، فتبقى مكانهـــا بانتظـــار ان تذهب مكوناتها هباء منثـــورا. وكل ما يعــود اليها مجمّــد لا حركـــة فيه ولا حيـــاة، والناس يشكــون ويئنّــون ولا مـن يسمــع ولا مـن ينظــر، ولا مـن يبـــادر الى إنقاذ (...).
إن هذه اللوحة التي رسمناها عن وضعنا قاتمة، ولكننا لن نفقد الأمل بتحسينها اذا عرفنا كيف نرص الصفوف، ونسعى جاهدين بتجرد واخلاص في سبيل ما يعود علينا جميعا بالخير والازدهار. وعلينا قبل كل شيء أن نضافر الجهود للنهوض ببلدنا، وسننهض اذا عرفنا ان نشبك الأيدي، ونوحّد العمل في هذا السبيل (...)".
عند هذا المفترق تركنا البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ننتظر منذ 5 نيسان الماضي عندما وجّه رسالته الفصحية الى اللبنانيين، ولا نزال ننتظر: رص الصفوف وتضافر الجهود وشبك الأيدي وتوحيد العمل في سبيل الانقاذ. كذلك الناس لا يزالون حيث تركهم سيد بكركي: يشكون، ويئنون "ولا من يسمع، ولا من ينظر، ولا من يبادر الى الانقاذ"!
فما العمل؟
وهل تفكك الكيان، وتبعثرت الصيغة الى حد "الاندثار"، كما تخوفت رسالة الصوم الماضي، ونحن في صوم جديد، وأوحت لنا رجاء بـ"قيامة ما" لم تتحقق، لأننا اصطففنا وراء الأحصنة فساهمنا في تجمّد العربة، مما زاد في شكوى الناس وأنينها؟
لقد كان واضحا لذوي العقول الراجحة أن الوضع اللبناني يعاني أزمة صيغة وتفكك داخلي، وأن الازمة السياسية من استقالة وزراء "حزب الله" وحلفائه حتى فراغ سدة الرئاسة في بعبدا بعد مغادرة الرئيس اميل لحود للقصر عشية الرابع والعشرين من تشرين الثاني، لا يحلها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولا حكومة وحدة وطنية تُعطى فيها المعارضة الثلث الضامن أو المعطّل.
فلبنان، شأنه شأن كل المجتمعات التعددية، يواجه تغيّرات حصلت داخل الجماعات المكونة له. إذ لم تسلم فئة طائفية فيه من هزات كيانية، بدءاً بالطائفة الشيعية و"حزب الله" وقد بلغ التأزم داخلها أشده اثر صدور القرار 1559 ومعاملة "حزب الله" والمقاومة على أنهما ميليشيا مسلحة يجب حلها، ثم جاءت حرب تموز وما خلفته من دمار وضحايا في "الكيان الشيعي".
كذلك الطائفة السنّية، ومعها الطائفة الدرزية، اللتان فجعتا باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقررتا مواجهة النظام السوري الذي اتهمتاه بالجريمة، وكذلك بالجرائم التي أعقبت "ثورة الارز" في 14 آذار 2005.
وكانت الطائفة المسيحية شكت منذ حرب الجبل والتهجير الذي رافقها من أن الكيان الذي قام على أكتافها وبتضحيات شهدائها قد تعرض للتدمير، ثم جاء اتفاق الطائف فانتزع منها موقع رئاسة الجمهورية الذي كان يمثل السلطة الاجرائية، وحوّل سلطات رئيس الجمهورية الذي كان كالملك يعيّن الوزراء ويقيلهم ويسمي من بينهم رئيسا، الى مجلس الوزراء جاعلا من رئيس الجمهورية "حارسا" للدستور و"رمزا" لوحدة الوطن الخ... من عبارات انشائية لا تعني شيئا.
وإذ رضي المسيحيون، ومرجعيتهم الاساسية بكركي، بالطائف حلاً مقبولا لوقف القتل والتدمير وانهاء عقد ونصف عقد من الحرب الداخلية، فقد أملوا في أن يؤدي قانون الانتخاب الذي نص عليه الطائف الى انصافهم واعادة التوازن السياسي داخل السلطة، مما يؤمّن لهم مشاركة عادلة في القرار السياسي يساعد في اعادة المهجرين الى الجبل، مهد الكيان. إلا أن ذلك لم يحصل. فلا قانون الانتخاب المنشود وُضع، ولا الانتخابات المصححة للتمثيل جرت، ولا المشاركة في القرار السياسي المعوضة لـ"الامتيازات" التي سُحبت من رئاسة الجمهورية أخذت طريقها الى التنفيذ... فساد الاحباط وانفتح باب الهجرة على مصراعيه، فضلا عن مقاطعة فريق كبير من المسيحيين الانتخابات توطئة للخروج من الدولة...
وكان مقدراً لاتفاق الطائف ان يكون بداية الخروج من المستنقع الذي غرق فيه اللبنانيون منذ بداية الاحداث عام 1975 وأتاح لسوريا التدخل في الشأن اللبناني مستغلة التجاذبات والنزاعات الطائفية التي حالت دون قيام مجتمع لبناني متجانس يستحق أن يفاخر ذات يوم بالقول "لبنان لنا"، دون ان يعني ذلك تناتشاً لهذا اللبنان بين طوائف وقبائل متحاربة في استمرار.
واذا كانت للطائف من سيئات، وخصوصا على صعيد "الحقوق المسيحية"، فان له حسنة وحيدة ربما هي أنه رسم الطريق الى متحد اجتماعي يندمج فيه اللبنانيون جميعا، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية التي هي واحدة لأنهم جميعهم توحيديون ويؤمنون بإله واحد، ونعني بذلك الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية.
ولعل من أغرب المفارقات ان المسيحيين كانوا أكثر اللبنانيين توجساً من هذه الهيئة – بالطبع عندما يكونون أكثرية ويراهنون على العدد في مواجهة بقية الطوائف - مع ان الخروج من الكهف الطائفي من شأنه ان يعطي الدور المسيحي حضورا قد لا يتوافر لبقية الطوائف.
إذ لو ساند المسيحيون فكرة الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية لما كانوا استغربوا انعقاد "القمة الروحية" الاسلامية امس والتي بدت من خلال المهمة التي تولتها، كأنها "سلطة" حلت مكان السلطات التي تعطّلت آخذة على عاتقها رعاية الشارع المذهبي السني – الشيعي في بيروت.
هل ترى الطائفة المسيحية في "السلطة الدينية" خطرا على الدولة وبقية السلطات، وترفض الانخراط فيها؟
اذا كان الامر كذلك فما عليها سوى ان تطلب من حامل "سلة" المطالب المسيحية منتظرا عودة الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، أن يزيد على شروط المعارضة للمشاركة في حكومة الوحدة الوطنية والتي ستمهد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، شرطين اضافيين هما التزام الحكومة تأليف الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية وانشاء مجلس للشيوخ يكون مرجعية وطنية أساسية. وربما تكون هذه هي اللحظة التاريخية المنتظرة لانقاذ لبنان من الانقسام ولاستحقاق دماء الشهداء، كل الشهداء، ومن كل الطوائف والمذاهب، الذين بذلوا دماءهم فوق أرض لبنان الواحدة من أجل ان توحّد هذه الدماء الشعب، وألا يبقى قَسَم جبران تويني الذي دوّى في 14 آذار وما لبث أن خطّه بدمه، صرخة في واد: "نقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين أن نبقى موحدين الى أبد الآبدين دفاعا عن لبنان العظيم".
لقد آن الأوان لأن يتعظ اللبنانيون ويدركوا أن الوحدة لها ثمن، ويجب أن تكون لديهم الشجاعة لأن يدفعوه اذا كانوا حقا يريدون ان يكون لهم وطن مستقل، حرّ، وسيد، لشعب واحد لا لمجموعة شعوب وقبائل لكل منها دولتها ونظامها الشرعي وحتى المدني. وهذا يحتاج الى "رص الصفوف، وتضافر الجهود، وشبك الايدي، وتوحيد العمل"، على ما قال البطريرك في الفصح الماضي.
علما أن الغاء الطائفية وفصل الدين عن الدولة لا يلغيان الدين بل يعززانه، ويجعلانه يُغني الدولة المدنية بفضائله وخصائص جماعاته التي تحترمها قوانين الدولة، وتأخذ بالمفيد منها، وأبلغ دليل حضاري على ذلك اقتراح أسقف كانتربري الدكتور روان وليامس التطبيق المحدود للشريعة الاسلامية في بريطانيا في النزاعات بين المسلمين الانكليز والمتعلقة بالزواج والارث والامور المالية، مما يساعد، كما قال في "تحسين الانصهار الاجتماعي".
وبذلك يتحقق قول ميشال شيحا عام 1942 "ان شعب لبنان لا يمكن ان يكون إلا لبنانياً، إذ لم يعد فينيقياً، ولا مصرياًـ، ولا يونانياً، ولا أشورياً، ولا متوسطياً، ولا رومياً، ولا بيزنطياً، ولا عربياً بالدم، ولا أوروبياً بالعلاقات، ولا تركياً (...) فقد أصبحنا موزاييك دينياً لا مثيل له في هذا الشرق الدائم التخمر، ارضا موعودة للأقليات القلقة، المكان العالي حيث تتصاعد بحرية نحو السماء الفائقة الصفاء والاكثر ازدحاما بالنجوم، كل الصلوات لإله واحد".
هذا هو التحدي الذي ينتظرنا إذا أردنا حقا اعادة ترتيب الصيغة وانقاذ "لبنان اللبناني"، لا السنّي ولا الشيعي ولا المسيحي.