لا يستسيغ بعض العرب الحديث عن مشروع إيراني لمنطقة الشرق الأوسط. ولا يعني ذلك بالضرورة أنهم لا يرون التمدد الذي يحدث في نفوذ إيران الإقليمي،
وسعيها إلى تجميع أوراق عربية من العراق إلى لبنان وفلسطين. فطموح طهران لأن تعيد صوغ منطقة الشرق الأوسط على مقاسها ووفق مصالحها، لا يخفى على أي متابع لما جرى في هذه المنطقة خلال الفترة الماضية.
لكن العرب الذين لا "يهضمون" الحديث عن مشروع إيراني يعترضون على استخدام كلمة "المشروع" تحديداً، وليس على المضمون الذي تعبر عنه في إطار هذا الاستخدام، أو المعنى المقصود بها. ويرجع ذلك إلى اعتقادهم أن مصطلح "المشروع" يحمل معنى إيجابياً ويدل على تغيير إلى الأفضل. وقد يكون هذا هو المعنى الشائع للمشروع بشكل أو بآخر. لكن شيوعه لا يعني أنه صحيح بالضرورة. فالمشروع هو فعل معين يبغى هدفاً محدداً. ويبدأ المشروع عادة بتصورٍ ما، ثم يجري الإعداد لعمل من أجل تنفيذ هذا التصور. ولذلك فهو ينطوي على فكرة وخطة وممارسة.
والمشروع، في هذا كله، قد لا يكون إيجابياً ومفيداً إلا من زاوية أصحابه والقائمين عليه، خصوصاً في المجالات السياسية والاستراتيجية. لكن فائدته تكون أوسع في الميادين الاقتصادية والتجارية والمالية، كما على صعيد العلم والتكنولوجيا.
ليس مهماً بالنسبة للمشروع الإيراني أن ينتج برنامجه النووي سلاحاً فوق تقليدي... بل الأهم أن يدعم الاستراتيجية الإقليمية لطهران أولاً!
ولما كان المشروع الإيراني، سياسياً واستراتيجيا، يهدف إلى تغيير منطقة الشرق الأوسط بما يحقق مصالح طهران كما يراها حكامها الآن، فمن الطبيعي أن يكون إيجابياً بالنسبة إليهم، بينما تغلب سلبياته أيَّ إيجابياتٍ فيه بالنسبة لمعظم العرب. وأكثر العرب خسارة من هذا المشروع هم أولئك الذين يطمحون إلى دور أكبر في صوغ مستقبل هذه المنطقة، ويرون أن هذا المستقبل يصنعه العمل والبناء والإصلاح والمشاركة والعلم والمعرفة، وليس السلاح النووي ومعاداة الغرب.
فهناك، إذن، مشروع إيراني ظل محبطاً لفترة طويلة، بعد نجاح ثورة آيات الله عام 1979. لكنه بدأ يؤتي بعض ثماره بعد أن تخلى أصحابه عن عدوانيتهم الأولى التي رافقت سعيهم إلى تصدير ثورتهم عبر إثارة القلاقل والاضطرابات في كثير من البلاد العربية. وقدمت إدارة بوش، بأخطائها الفادحة في المنطقة، أجلّ الخدمات لهم عندما أدى إخفاقها في العراق إلى جعل جنوبه ووسطه منطقة نفوذ إيراني، ودفع جموحها أطرافاً عربية لأن تلوذ بطهران طلباً لمساندة أو عون.
وعندئذ، اشتد طموح إيران لأن تكون هي القوة الإقليمية العظمى الأولى في الشرق الأوسط، وأن يتعامل معها العالم على هذا الأساس. وهذا هو جوهر مشروعها بشأن مستقبل منطقة الشرق الأوسط.
ولأن معظم أهل المنطقة عرب، فمن الطبيعي والضروري أن يكون للمشروع الإيراني أبعاد عربية أساسية تتجلى في معظم الأدوات التي يعتمد عليها هذا المشروع. فالأداة الأولى لهذا المشروع هي الإمساك بأوراق عربية مهمة ومؤثرة في مستقبل المنطقة عامة. وبعد أن كان العراق، رغم كل أخطاء نظام صدام حسين، حاجزاً أمام إيران، صار هو الممر الذي تتمدد عبره بعد أن أصبح منطقة نفوذ لها على نحو لم يحلم به أبداً نظام آيات الله ولا النظام الشاهنشاهي.
وإلى جانب هذه الورقة، والورقة اللبنانية المهمة المتمثلة في "حزب الله" وحلفائه، أمسكت إيران أخيراً بالورقة الفلسطينية ليس فقط من خلال المزايدة على الدول العربية المعتدلة، ولكن أيضاً عبر تنمية علاقاتها مع حركة "حماس" التي استولت على قطاع غزة ليصبح امتداداً بدرجة ما لمناطق النفوذ الإيراني.
أما الأداة الثانية لمشروع إيران فهي الإصرار على تنمية البرنامج النووي. فتستغل إيران الشعور الطاغي لدى شعوب المنطقة بالغضب على أميركا وإسرائيل وافتتان هذه الشعوب بالسلاح. وهذا هو مغزى تحويل إيران برنامجها النووي إلى قضية كفاحية ورمز لمواجهة الهيمنة الأميركية من ناحية وإظهار تفوقها على دول المنطقة الأخرى من ناحية ثانية.
وليس مهماً بالنسبة للمشروع الإيراني أن يصل البرنامج النووي إلي إنتاج سلاح فوق تقليدي. فالأهم هو الإصرار على هذا البرنامج الذي يرجح والحال هكذا أن يبقى لفترة طويلة في حالة غموض مقصود، لأنه يؤدي دوراً سياسياً واستراتيجياً في دعم مشروع إيران الإقليمي في المقام الأول.
وتتمثل الأداة الثالثة لهذا المشروع في رفع شعار الممانعة ومقاومة النفوذ الأميركي الإسرائيلي، باعتباره شعارا براقاً يدغدغ مشاعر شعوب المنطقة، بما في ذلك القطاعات الأوسع من الشعوب العربية، ويجعل إيران في موقع القائد الفعلي لكل من يرفض السياسة الأميركية ويسعى إلى مواجهة إسرائيل.
ونأتي إلى الأداة الرابعة التي توفرت لإيران من دون أدنى جهد، وهي استغلال الأخطاء الأميركية والإسرائيلية للحصول على مكاسب تدعم دورها وتدفع مشروعها إلى الأمام. فقد تكفلت الولايات المتحدة بإزاحة عدو إيران الأول في المنطقة، وهو نظام صدام حسين، بعد أن خلصتها من عدوها الأهم بالقرب من هذه المنطقة في أفغانستان. وأدى فشل إسرائيل في حرب لم تكن لها ضرورة على لبنان صيف 2006، إلى دعم نفوذ "حزب الله" وحلفائه، وبالتالي تقوية المشروع الإيراني. كما قاد التصعيد الإسرائيلي غير المحسوب في قطاع غزة بهدف إحكام الحصار على حركة "حماس" إلى تمكينها من كسر هذا الحصار عبر اقتحام الحدود مع مصر ومحاولة تصدير المشكلة إليها. ومما له مغزى في هذا الصدد موقف رئيس مجلس الشورى الإيراني الذي كان في القاهرة لحضور اجتماع برلمانات الدول الإسلامية في ذروة أزمة معبر رفح. فقد وقف مقيماً القرار المصري بفتح المعبر في البداية، ومثنياً عليه، وكأنه القيّم على قضية فلسطين وصاحب الحق في الحكم على أداء الدول العربية تجاهها!
هكذا يبدو المشروع الإيراني في حالة تقدم. لكن هذا لا ينفي عنه طابعه المغامر، لأنه كان يمكن أن يتحول إلى كارثة على إيران لو أن الولايات المتحدة نجحت في العراق. غير أن فشلها هناك أضعف مشروعها في المنطقة (مشروع الشرق الأوسط الكبير) وفتح أبواباً للمشروع الإيراني لكي يتمدد ويكتسب أرضاً جديدة ويتطلع إلى إعادة صوغ المنطقة. ولا يعنى ذلك أنه في طريقه إلى النجاح حتما. فمازال احتمال تحوله إلى كارثة على إيران والمنطقة قائما.
ولذلك لا ينبغي أن يكون المشروع العربي الذي نتطلع إليه من نوع هذا المشروع، وإنما يفترض أن يقوم على أسس مغايرة تماماً وأن يسعى إلى بناء قدرة عربية حقيقية، انطلاقاً من أن الدول تتبوأ مكانتها في هذا العصر اعتماداً على الديمقراطية وسيادة القانون والاقتصاد القوي المزدهر والتقدم العلمي والإنجاز التكنولوجي.
ولكي يقدم هذا المشروع بديلاً مقنعاً لما تسعى إليه إيران، لابد أن يكون من أهدافه مواجهة الهيمنة الأميركية والأخطار الإسرائيلية، ولكن عبر البناء والإعمار والتنمية، وليس من خلال مواجهات مفتوحة ضد الغرب، ومن خلال الاندماج في العالم من موقع الندية والتكافؤ وليس فك الارتباط معه والدخول في حروب ضده.
والمنطق الذي يقوم عليه مثل هذا المشروع هو أن العلاقة وثيقة لا تنفصم بين حياة أفضل للشعوب والقدرة على حماية حقوقها ومواجهة الأطماع الأجنبية. فالحفاظ على كرامة الأمة وعزتها يتحقق من خلال سياسات ترمي إلى حياة أفضل للشعوب، وليس عبر سياسات الانتحار وتمجيد الموت والاحتفاء بالجثث.
ومشروع هذا طابعه يتطلب، والحال هكذا، دعامتين:
الأولى إصلاحات سياسية جادة توفر قدراً معقولاً من الحريات العامة والفردية، وتتيح تنافساً سياسياً مفتوحاً، وتحقق مشاركة شعبية واسعة، وتمكن المرأة من القيام بدورها في بناء المستقبل.
فهذه الإصلاحات هي الجديرة بأن تأخذ الشعوب العربية من حالة الإحباط والغضب والتطرف إلى الأمل والعمل والبناء.
والثانية إصلاحات اقتصادية واجتماعية تفتح الباب أمام مبادرات الأفراد الخلاقة وتطلق طاقات الشعوب المعطلة سعياً إلى رفع حقيقي لمعدلات النمو، على أن يقترن ذلك بسياسات توزيعية تحقق قدراً معقولاً من العدالة. وبديهي أن هذا يتطلب إصلاحاً تعليمياً واهتماماً بالبحث العلمي ورؤية مستقبلية للتطوير التكنولوجي