لا نود ان نكتب تفسيراً للنزعة على ضوء الحوادث التاريخية ، ولكننا مضطرون إلى تقييم هذه النزعة في سلوك بعض السياسات تقييماً علمياً ، وبمستوى طبيعة الأحداث السياسية التي أثرت كثيراً في نمو الإستبداد السياسي والعنف والإكراه والإرهاب .
إن الذين تمسكوا بالنزعة الميكافيلية عندنا إعتبروها هي الحل لمجموعة الأزمات التي تعصف بالوطن والأمة ، وهذا الإعتبار خطأُ في التفكير وفي التقدير وإسآئة متعمدة لمنظومة القيم الإنسانية في العدل والحرية والسلام ، تلك المنظومة التي ترتبط بقضايا الإستقلال وبناء الدولة وتنظيم حياة المجتمع ، وإذا كانت الميكافيلية تعني سيادة مطلقة للأمير أو القائد السياسي أو المرجع الديني - ولي الفقية - فإنها ترسم أسلوب التعامل الذي يتخذه رجل الدين والزعيم تجاه الشعب والأمة .
إن ميكافيلي قدم لنا فلسفة التبرير الفني للسياسة ، وبعبارة أخرى فإنه وضع نظاماً للشكل الذي يغلب على سلوك الأفراد في الواقع وذلك بإخضاع هذا السلوك لشكل فني وقواعد فنية بحتة ، وهكذا أصبحت السياسة في تعريفه : سياسة لا تقوم على مبدأ القيم والأخلاق ولكنها تحقق نجاحاً لأنها فن إحراز السلطة والمحافظة عليها ، مهما تكن الوسيلة شريطة ان تحقق النجاح في مجال كسب السلطة .. ولهذا اعتبرت الميكافيلية إستخدام العدالة في المجال السياسي سيولد تراجعات وهزائم ، لأن الناس لا تفهم إلاّ القوة وذلك هو طبعهم ، وهذا مايرآه - هوبز - في تعريفه للإنسان بأنه شرير بطبعه .
لهذا قالت الميكافيلية : إن الدول التي لاتستخدم العنف ستقع حتماً أسيرة لغيرها من الدول ، وإن شيئاً اسمه العدالة في تطبيق القانون هو ضعف حقيقي يستهوي آخرين للعمل ما بوسعهم لتحطيمه وإنهائه ّ!!!
ولقد حاول - جان مريتيان - تحليل هذا المنطق بقوله : إن بإمكان الفرد أن يرعى العدالة وأن يكون له في الوقت نفسه عقله وتفكيره ، وان يعمل على إكتساب القوة فالميكافيليون الذين يقولون بان العدالة وإحترام القيم الأخلاقية تعني الضعف والإنهيار يقولون إن القوة لا تصبح صلبة إلاّ إذا رفعناها إلى المستوى الأعلى في الوجود السياسي ، وهذا كذب محض فإن الشر كما هو واضح ليس عاجزاً عن النجاح في المدى البعيد وحسب ، وان القوة تضعف في المدى البعيد إذا كانت مجردة عن العدالة ، وإنما تستطيع القوة بين حين وحين أن تعيش مع العدالة جنباً إلى جنب ، وإن قوة الأمم التي تكافح في سبيل الحرية قد تكون أعظم من قوة الأمم التي تكافح في سبيل السيطرة ..
نعم إن الميكافيلية في الحقيقة لا تنجح لأن قوة الشر في الحقيقة هي قوة فساد وتبديد لجوهر الوجود والخير وما فيهما من طاقة ، وإن قوة كهذه ستدمر نفسها بتدميرها لذلك الخير ، ولذلك فالمنطق الذي يقوم عليه نجاح الشر يحكم على ذلك النجاح بقصر العمر .
إن مريتيان وجه نقداً عنيفاً للميكافيلية ولدعاتها ولكنه نقد خضع بالضرورة إلى منطق الأشياء التي يرتبها الإستنتاج العقلي ، وأوحى في نقده إلى إن النزعة الميكافيلية لا تواجه إلاّ بطريقة ديمقراطية ترتكز على فهم الإنسان والمجتمع ، ونابعة من ضمير الإنسان وحاجة المجتمع : - إن نفي العدل وإبداله بالجبروت شيء ليس بفلسفة للوجود وتثبيت لمركز السلطة إنما هو تبرير لحالة إستخدام القوة في الردع داخل الكيان السياسي وضمن شعب العمل الحكومي .
إن منطق القوة بحد ذاته سلاح العاجز إذا كان الأمر يُراد به إستراتيجية في العمل والتعامل ولكنه شيء له قدسية إذا أريد منه تحكيم مبدأ إنساني كرفع الظلم وبسط السلام والأمن .
إن مريتيان يرى في الديمقراطية هي الفلسفة العقلية لفهم الحياة ، في نظام الحريات العام والأمور المتعلقة بين الفرد والدولة ، على ان تكون الديمقراطية هي نتاج طبيعي لقيم الحرية وهي التي تصنع الحكومة ، وهنا يلزمنا القول :
1 - بان الديمقراطية هي لييست الحل للتناقض الطبقي والتسامح ، حين تكون الديمقراطية حاجة تابعة للحاكم يهبها لمن يشاطره الرأي ويمنعها عن المعارضين له وهذه حال جميع الدول العربية والإسلامية .
2 - ثم إن الديمقراطية هي شكل من الأشكال الحكومية التي يتعذر بلوغها بلوغاً كاملاً ، ولذلك فهي أصعب من أن توهب للآخرين ، من دون حيازة مقدماتها وعناصرها الأساسية ، وهنا تحتاج الديمقراطية للإنقلاب على الطبيعة الإجتماعية السائدة ، وهذا يعني تفكيك البناء القومي والعصبوي الذي يؤوسس كيان المجتمع ..
يتضح لنا بان الديمقراطية يجب ان تكون علاقة من صميم الضمير يسعى لها البشر لتحقيق التوازن وتصحيح الخلل في الموازين الإجتماعية ، ثم إن الإتجاه المعاصر نحو الديمقراطية هو إتجاه في الضرورة الإجتماعية إلى الحرية وكسر الجمود الفكري تجاه مجمل قضايا المجتمع السياسية والإقتصادية والثقافية ، ولا يمكن ربط الديمقراطية بالمسألة القومية ولا بمشاعرها في الإنفصال ذلك لأن القومية نزعة خاصة ترسخ في الذهن الإنتماء القبلي المحدود في حين الديمقراطية نزعة لتعميم الجانب الفطري الذي يحمي الإنسان جنس الإنسان من دون ولاآءت مسبقه أو إنتماءات معينة ، ولهذا لايمكن للديمقراطية ان تنجح في المناطق ذات النزعات القومية والدينية والمذهبية ، بل إن الذي يتطور في المجال السياسي للبلدان ذات النزعات تلك هيمنة مجموعة من البشر على كل مجالات السياسة والإقتصاد والمال بل وتدفع لشياع ثقافة محددة كما يحصل في مناطق العراق الجديد ..