ككل بداية سنة هجرية، ترتفع حناجر الأئمة على المنابر و في القنوات بالتذكير بالحدث الذي قامت عليه حركة تاريخنا و أثبتت مكانتنا بين الأمم. لقد خرج النبي (ص) مع صاحبه من قريته التي ضيقت عليه الدنيا، و في ذهنه مشروع يهدف إلى تغيير خريطة العالم تسقط فيها أكبر قوتين آنذاك، الفرس و الروم،
و تقوم دولته التي ستتربع على ثلاث قارات و لا تحدها إلا مياه المحيطات. لقد كانت الهجرة ملحمة إنسانية فريدة بكل المقاييس يعتبر منها المؤمن والملحد. فعند المتديّن تكون الهجرة رمزا للعناية الإلهية بإبلاغ الدين رغم كل الشروط المادية القاهرة و الظروف التعجيزية. و عند الملحد العاقل تعتبر الهجرة درسا في طموح الإنسان كيف يجسد مشروعه مهما كانت الظروف قاسية. فبقدر السعي يكون تحقيق الأمل و الأماني. فليس لطموح الإنسان حدود إلا خياله و همته، يقف حيث وقفت به.
الهجرة بقول آخر هي الوجه الثاني للحياة فوق وجه الأرض و عمارتها. إنها رمز الحركة و السعي في مقابل السكون في المكان و الركون للظروف. إنها حركة التغيير في مقابل الدعة و البناء و ألفة المكان. إنها معادلة الحل و الترحال في ملحمة الإنسان. و لا تستقيم حياة البشر إلا بتفاعل ذانك الوجهين. إنها أشبه باختلاف الضغط الجوي الذي يؤدي إلى تغير المناخ و سقوط الأمطار. فمتى كان الواقع مرَا و متردّيا تجسد في اختناق الحرية و غياب العدل و هيمنة الجور و انتشار الهوان و استحال كل ذلك عن التغيير كانت الهجرة هي الحل و المطلب.
ذكرى الأندلس في مفتاح
لعل أهم حدث في باب الهجرة في تاريخنا بعد الهجرة النبوية هو خروجنا من الأندلس. لقد أطلت علينا السنة الهجرية و هي غير بعيدة عن ذكرى سقوط غرناطة و تسليم مفاتيحها يوم 2 يناير 1492. و قد أخذ الكثير من المسلمين بعد ذلك و قبل ذلك بالخروج من ديارهم تحت ضغط محاكم التفتيش و التنصير القسري نحو دار الإسلام. و لكنه بقي هناك عدد كبير من المسلمين الذين تعلقوا بالمكان الذي ولدوا و كبروا فيه، و عزّ عليهم فراقه.
أما الذين هاجروا إلى بلاد إفريقية فقد بقيت أفئدتهم مرتبطة بموطنهم، حتى إن الكثير من العائلات الأندلسية في المغرب و الجزائر و تونس بقيت محافظة على مفاتيح بيوتها في المدن الأندلسية يسلمه كل جيل للجيل الذي بعده يدفعه إلى ذلك الأمل في العودة يوما ما. و إنه من حقنا أن نرث حلم هؤلاء و أن نحلم بالعودة من باب الهمة، تماما كما تحلم فرنسا في أن تسترجع الجزائر و تحلم أمريكا أن تسيطر على العالم، ليكون بذلك صراع الأحلام الذي يسبق صراع السواعد.
دار الكفر و دار الإسلام: تصدع المفاهيم التقليدية
لقد حدث تصدع كبير في مفهوم التقسيم الفقهي القديم للعالم وفق مفاهيم دار الإسلام و دار الكفر التي بنيت عليه أحكام الهجرة في الإسلام. و لعل رسالة أبي العباس أحمد الونشريسي (ت 914هـ): " في أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى و لم يهاجر و ما يترتب عليه من العقوبات والزواجر" هي إحدى صور ذلك الحكم التقليدي في التاريخ و الفقه الإسلامي.
ففي الوقت الذي أصبحت فيه معظم البلدان العربية والمسلمة تتنصل من الأحكام الشرعية و من الشريعة كمصدر للتشريع و استبدالها بالقوانين الوضعية العلمانية بحجة التقدم، و في الوقت الذي تشهد فيها مجتمعاتها قمعا للحريات و تغييبا للعدالة الاجتماعية، أصبحت فيه بلدان الغرب التي هي دار الكفر، تشهد تزايد في عدد الجاليات المسلمة و أماكن العبادة و منحا لحريات التدين تكون في الكثير من الحالات أحسن من بلدان أصل تلك الجاليات. و كما يقول الفقهاء فإنه قد تدوم دولة الكفر إذا قامت على العدل و لا تدوم دولة الإسلام إذا قامت على الظلم و الاستبداد.
هناك شواهد تاريخية تزيد في تصدع هذا المفهوم التقليدي رغم شهرته. فلنا أن نتساءل مثلا عن حركة الاستعمار الحديث، و لنأخذ الجزائر هنا مثلا، حيث أحكمت فرنسا عليها قبضتها عسكريا و سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا، فلم يبق من دار الإسلام شيء، هل لو عمل ابن باديس بهذه الفتوى أو أقتنع بها أفراد المجتمع الجزائري ستعود الجزائر يوما إلى حظيرة الإسلام، أم ستكون الهجرة المقلوبة إلى مكة هي الفريضة وفق هذا المنظور الفقهي؟
كما يفيد تاريخ دخول الإسلام في ماليزيا و أندونيسيا أنه لولا التجار المسلمين الذين أقاموا هناك و أقنعوا بسلوكهم العادل و النبيل أفراد المجتمع، لما وصل الإسلام إلى تلك الديار. فلو امتنع أولئك التجار عن الإقامة في تلك المناطق الغارقة في الأديان الوثنية لما دخلت تلك الشعوب الإسلام.
و ماذا سيكون على أهل فلسطين حاليا بعد أن أحكم اليهود قبضتهم عليها؟ هل يحق لهم أن يهاجروا إلى بلاد الله الواسعة- كما يرى ذلك الشيخ الألباني-؟ أم أن ذلك ستكون كارثة أخرى في تاريخ العالم الإسلامي؟
الحراقة أو الهجرة في الاتجاه المعاكس!
أصبح إحياء الهجرة يترافق كرها في أيامنا بالهجرة في الاتجاه المعاكس لحركة التاريخ الإسلامي و لحكمه التقليدي السابق. لقد أصبحنا نعيش هجرة أوطان الإسلام التي ضاقت فيها الحريات و جفت فيها سبل العيش إلى أوطان الصلبان بل و الإيمان بموت الإله، و حيث يوجد العدل والرخاء!
عندما نجح أحد الشباب في الوصول إلى ألمانيا و الحصول على إقامة دائمة فيها، أرسل إلى أحد زملاء دراسته بالجزائر، يقول فيها: أنه وجد في ذلك البلد ملك لا يظلم عنده أحد، و هو بذلك يردد كلمات قالها المهاجرون الأوائل إلى الحبشة عندما دخلوا في كنف الملك أبره الحبشي.
فمن يربط الهجرة بأوضاعنا اليومية سيجد أن ظلالا كثيرة ستتشعب منها و ستشوش بكل تأكيد على صورة الهجرة النبوية التي يدركها الكل و يحفظ حكايتها عن ظهر قلب. كيف انتهى الأمر بالكثير من شرائح المجتمع، شبابا و كهولا، مثقفين و أميين، شبانا و شابات، بالسعي للهجرة خارج بلاده إلى أين يأمل أنه سيجد حياة أفضل و عيشة أرغد، و كرامة أصون. من يمشي في شوارع مدننا خاصة البحرية منها يجد على الحوائط كتابات تدعو إلى الهجرة و "الهربة"، و "تذكرة بدون عودة"، و "أستراليا" كأبعد نقطة. و لا يختلف شباب الجزائر عن شباب الكثير من البلدان العربية في مصر و سوريا و لبنان و الأردن و السودان و غيرها الذين لا يجدون حيلة و لا يهتدون سبيلا للهرب من بلدانهم.
و لعل ظاهرة قوارب الموت التي تعرف في الجزائر بالـ"حراقة" و التي انتشرت في شمال إفريقيا و غربها تمثل الصورة المجسدة للكفر بالدولة الحديثة المستقلة و مشاريع التنمية التي تعيش على أوهامها المجتمعات. فماذا يدفع أولئك الشباب ليغامروا، و قد علموا من أخبار من قبلهم أنهم ماتوا في البحر، فلفظتهم الأمواج إلى السواحل التي كانوا يتمنون أن يصلوا إليها أحياء، أو أصبحوا لقمة لذيذة لحوت البحر. و الطريف في ذلك أن ربانهم يفضلون المجازفة عندما تشتد الأمواج و يهيج البحر، لأن ذلك يعني غياب مراقبة الشواطئ و خفر السواحل، و هو في نفس الوقت لحظة الهلاك المحتوم. فما حكم هجرة هؤلاء الشباب الذين تساوت في أعينهم فرص الموت والحياة؟
ردة أم انتكاس مشروع الدولة؟
و قد تكون الطامة أكبر إذا كانت الردة على مستوى المجتمع. فعندما زار الرئيس الفرنسي الجزائر منذ سنتين خرجت الجموع بكل فئاتها رافعة علمي الجزائر و فرنسا جنبا إلى جنب، تحيي رئيس البلد المستعمر جاك شيراك الذي كان خلف موت مليون و نصف المليون من أبناء بلدهم، حتى أنه لم يتوقع مثل ذلك التعلق الكبير به الذي بدا فيه رئيس بلادنا في حرج! و رغم صمت التحاليل عن تلك الظاهرة المخيفة فإن أقل ما يقال عنها هو ترجي تلك الجموع رئيس فرنسا بفتح باب الهجرة أكثر و رفع عدد التأشيرات الممنوحة و السماح لعدد أكبر من الشباب بالهجرة إلى بلاده.
و يؤكد ذلك كله تلك الطوابير الطويلة التي تقوم يوميا عند كل سفارة من بلدان الدول الغربية. ففي الساعة الثالثة صباحا و أحيانا قبلها تتجه الجموع نحو تلك السفارات فيصطفوا استعدادا لتقديم الملفات التي تبدأ على الساعة الثامنة، و قد يقضى بعضهم ليلته عند الحائط ليفوز بالمراتب المتقدمة أو ليبيع مكانه لآخر يحتاجه لأمه أو أبيه المعوزين الذين اضطرتهم الأقدار إلى العلاج في الخارج أو زيارة ذويهم وراء البحر. إنه من الأولى إذا كان كل المجتمع يرغب في الهجرة أن تهاجر فرنسا إلينا، مما يعني الكفر بالاستقلال أو بالدولة المستقلة!
ثمرات الهجرة و ضرائبها
الهجرة تعني عند الكثير فرصة أفضل لإثبات النفس و رد الاعتبار لها في مقابل الهوان الذي يلاقيه أحدهم في وطنه الأم. الهجرة تكون أحيانا من أجل إيجاد مساحة للموهبة و الإبداع و التوق إلى الشهرة و هو ما يشهد له خروج العلماء و الرياضيين والفنانين. و قد قيل قديما ما خرج نبي في قومه إلا أهانوه. لقد استرعى انتباهي في محاضرة العالم المصري "أحمد زويلة" على قناة "دريم" الفضائية، تأكيده على فضل أمريكا عليه في الحصول على جائزة نوبل و تحقيق طموحه. و رحت أتساءل مكانه لو بقي في مصر هل كان سيسمع به أحد و هل سيصل إلى ذلك النجاح، و لعل وراء كل عربي و مسلم ناجح في الغرب قصة تشبه تلك التي لأحمد زويلة، ألا يدفعنا هذا إلى مراجعة نظرية هجرة الأوطان؟
في الغالب تبدأ الهجرة بالحلم. فبالنسبة للكثير من الشباب "الحراقة" يتمثل الحلم في وظيفة محترمة و سيارة جميلة و بنت حلال ذات شعر أصفر و حياة ناعمة. لكن ذلك في الكثير من الأحيان لا يعدو أن يكون حلما خرافيا صنعته أغاني الفيديو كليب و الأفلام الرومانسية. فليسـت كل هجرة تنتهي بحياة كريمة و رغيدة، فكم من مهاجر عاش حياة أرذل مما كان عليه في بلاده، حيث ينتهي به المطاف إلى النوم على الأرصفة أو في المخازن و تنظيف المجاري و كنس الشوارع أو العمل في المزارع أو في أحسن الأحوال تغيير حفاظات المسنين و غسل مؤخراتهم بعد أن تخلى عنهم ذووهم.
إن الهجرة تعني كذلك الاقتلاع من الجذور، و السقوط في هاوية الغربة. هناك إشكالية حب الوطن التي تزداد كلما ابتعدنا أكثر، و التي تتلاشى كلما عدنا و عاودتنا مرارة الإهانة و اللامبالاة. الغربة تعطينا الفرصة لنبدع و نحقق ذاتنا، لكنها تمنعنا من دفء الأحباب و العائلة و الاستئناس بالمكان الذي عشنا فيه، فيحيا الإنسان ممزقا بين جاذبية المكان الرغيد و حنين الوطن العميق.
كما تضاعف الغربة أحيانا مرارتنا عندما نرى بلدانا أخرى و نقيس الفرق الحضاري بين مكان الغربة و وطننا. فلا تقع أعيننا على شيء إلا و استحضرنا مثيله المعوج في بلادنا، فينشأ فينا مرض المقارنة، و تتكون لدينا عقدة التساؤل الاستنكاري لماذا لا تكون الأمور هكذا و ليس كذلك.
و عند إطالة الغربة و دخول العمر مرحلة الكهولة التي تعقبها الشيخوخة و فراق الأولاد يزداد ضغط الغربة أكثر. ففي مكان لا يعير قيمة للإنسان إلا بكفاءته و مردوده المادي، يحس أنه متى توقفت آلة فكره عن الإنتاج و البحث يكون زمنه قد انتهى و ساعته قد اقتربت. و لذلك فكثير من المغتربين يعودون في خريف العمر إلى مكانهم الذي تربوا فيه. و من المحزن أن يجد أن الحِمام قد أتى على كل من كان يعرفه في ذلك المكان، فيعيش غربة جديدة في نفس المكان الذي ينتمي إليه. و إذا لم يستطع العودة إلى مكانه الذي ترعرع فيه فإنه سيعيش بقية حياته في مشاهدة الصورة القديمة و أغاني زمان. و لعل أغنية دحمان الحراشي في الغربة استمدت شهرتها من لهيب ذلك الحنين.
حب الأوطان من الإيمان
عندما خرج النبي من مكة استدار إليها و قال حزينا "لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت". فالأصل عند جميع المخلوقات بما فيها البهائم هو حب الأوطان. و لذلك قد يكون للهجرة أجر و ثواب أقل من الثبات في المكان و بذل الجهد للإصلاح. بل قد لا تجوز الهجرة إلا إذا ضاقت السبل و انغلقت الأبواب و عميت الحيل. و بذلك فإن الهجرة تنزل منزلة الرخصة في مقابل عزيمة التوطن و الإصلاح.
و بقليل من الوطنية ندرك أن المكان الذي نراه حسنا و نأمل أن نهاجر إليه لم يُبنَ من فراغ بل إنه بني بسواعد أهله الذين ضحوا كثيرا ليوفروا لأنفسهم و لأعقابهم الحياة الرغيدة. ففرنسا و بريطانيا و أمريكا و ألمانيا و اليابان لم يأتها رغد العيش من السماء لو لم تضحّ أجيال منها بالوقت و الجهد و تقدم على روح المغامرة في سبيل النجاح و التفوق. فكم من ناس ماتوا في المحيط الأطلسي ضياعا و كم من عمال خرّت عليهم الكهوف و مناجم الفحم، و كم من علماء أفنوا أعمارهم و أبصارهم في المختبرات في سباق الاختراع، فكانت الرفعة لهم و لأوطانهم، فعاشوا البقية القليلة من أعمارهم متنعمين بذلك الإحساس الغامر من الفخر و النهاية السعيدة بالأعمال الخالدة للعمر الفانية.