Saturday, January 26. 2008
مع مطاردة علماء الكلام والفلاسفة سادت الظلمة أرجاء العقل العربي والإسلامي وتوقف الاجتهاد, وتحول الحوار والجدل بالتي هي أحسن إلي اتهامات بالكفر,
إلي الحد الذي دفع الامام الشوكاني إلي القول فإذا تكلم أحد علماء الاجتهاد بشيء يخالف ما يعتقده المقلدون قاموا عليه قومة الجاهلية.. ووافقهم علي ذلك أهل الدنيا وأرباب السلطان وهذا عين الجهل والضلال.
ولم يبق أمام الفقه من منفذ سوي الأخذ بالقياس والاستحسان, والاجماع والمصالح المرسلة, لكن اعداء العقل واعوان السلاطين اغلقوا هذه المنافذ واحدا بعد الآخر, فالاجماع شككوا فيه وواجهوه بأقوال مرسلة تقول ان هذا الرأي في المسألة المحددة غير مجمع عليه, خاصة انه من الصعب اثبات الاجماع, فالسؤال الصعب هو: اجماع من؟ واجماعهم في أي زمان؟ وماذا عن رأي فيه اغلبية مع, واقلية ضد؟ والاستحسان والمصالح المرسلة مسائل نسبية, اما القياس وهو يعتمد علي إعمال العقل فمرفوض, لأن العقل ذاته مرفوض فالخليفة المتوكل استند في معركته ضد المعتزلة علي الحنابلة وأمر الناس بالتسليم والتقليد معلنا اياكم والقياس قدم الإسلام لاتثبت إلا علي قنطرة التسليم, اياكم والتعمق فان من كان قبلكم هلك به, فالمتوكل ورجاله كانوا يعتقدون ان ما يبدعه العقل من آراء هو ابتداع, والابتداع بدعة, والبدعة ضلالة والضلالة في النار ووصل الأمر في عصرنا الحديث إلي ان قرار احد المتأسلمين المعاصرين شكري مصطفي ـ جماعة التكفير والهجرة في مخطوطه المسمي التوسمات لا اجماع ولاقياس ولامصالح مرسلة فكل ذلك كفر.
وبهذا اغلقوا باب التجديد واعمال العقل ولم يبق امام الفقهاء المجددين والمستنيرين إلا اللجوء للتأويل. والتأويل لغة هو النظر إلي النص علي غير معناه اللفظي وصولا إلي تطابق الشرع مع ما يفرضه الزمان والمكان بشرط ألا نحمل النص ما لايحتمل, والحقيقة ان اللغة العربية قد استوعبت الكثير من ادوات البلاغة التي اتخذت من استخدامات اللفظ بمعان مختلفة نوعا من التميز اللغوي الذي يصبح في النص القرآني نوعا من الاعجاز, فكلمة الناس استخدمت في القرآن الكريم علي أكثر من معني, فقد تعني كل البشر ملك الناس إله الناس وقد تعني بعض البشر الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ومن اعجاز القرآن الكريم استخدام الاستعارة مثل يد الله فوق ايديهم فلا يجد المفسرون بدا من تأويل النص إلي قدرة الله فوق قدرتهم أو ارادته فوق ارادتهم أو ما يماثل ذلك من تأويلات, وفي الحديث الشريف اطولكم يدا اسرعكم لحاقا بي والتأويل هنا واجب, فطول اليد يعني هنا الكرم, اما السرعة فتعني اللحاق بالثواب.
وفي تاريخنا الحديث المعاصر استخدم التأويل أكثر فأكثر كبديل عن الفلسفة وعلم الكلام وتلافيا للطعن فيهما وسبيلا للتجديد ومواكبة النص لمكتشفات العلم وروح العصر.
وأتي زمن كان فيه المتدينون من مسلمين ومسيحيين يعانون معاناة شديدة من تناقض حاد بين الفكر الديني السائد, وبين حقائق العصر ومكتشفات العلم, وكانت واحدة من أكثر المسائل التي أثارت ضجيجا ومشاحنات واتهامات, مسألة دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس.
ففي عام1876 تجاسر يعقوب صروف وأثار هذه المسألة وكتب في المقتطف ان موضوع دوران الأرض صار اشهر من نار علي علم وأوضح من الصبح لذي عينين, وتحققت صحته لكل ذي عقل سليم, وقامت الدنيا ولم تقعد, وثار شيوخ مسلمون يلعنونه ورجال دين مسيحيون يكفرونه, وكتب الأب جبريل جبارة ارشميندريت الكرسي الانطاكي ببيروت مقالا صاعقا استخدم فيه النصوص الدينية لاثبات ان الأرض ثابتة, الأمر الذي دفع آخرين مثل مصطفي باشا رياض وعبدالله باشا فكري إلي كتابة مقالات مدافعين عن صروف وعن العلم الحديث, وكتب عبدالله أبوالسعود مقالات عديدة دفاعا عن العلم والعقل في مجلة وادي النيل ومجلة روضة المدارس, والتقت هذه الاطراف كلها علي احكام المناورة لتأييد قضية الموافقة بين العلم والدين حتي لايتعطل بفعل حركة المحافظين سير العلم وتقدمه في بلادنا التي كانت في اشد الحاجة إليه محمد عبدالغني حسن في كتابه عبدالله فكري ـ ص199 واذا كنا نلاحظ ان اغلب هذه الاسماء من تلاميذ رفاعة الطهطاوي فإن ذلك يستدعي بالضرورة دور رفاعة في دفع المفكرين العصريين ورجال الدين علي السواء إلي الأخذ بالتأويل لحل عقدة العلاقة بين الدين والعلم الحديث.
فإذ يراجع الباحث كوسان دي برسيفال مسودات كتاب تخليص الابريز في تلخيص باريز لرفاعة يجد العبارة التالية ان القول بدوران الارض واستدارتها لايخالف ما وردت به الكتب السماوية, ذلك لان الكتب السماوية قد ذكرت هذه الاشياء في معرض وعظ ونحوه جريا علي ما يظهر للعامة لاتدقيقا فلسفيا, ويلاحظ دي برسيفال ان رفاعة قد شطب هذه العبارة قبل ان يدفع بالكتاب إلي المطبعة, لقد خشي رفاعة حتي من التأويل الذي اصبح مرفوضا هو ايضا في هذه الازمنة المظلمة, لكن المجددين اذا ما شعروا بواجبهم في الموافقة بين الدين والعلم لايعدمون سبيلا, ولهذا نجد في ذات الكتاب اسلوبا آخر لتناول ذات الموضوع ونقرأ ووقعت محاورة بين العلامة الشيخ محمد المناعي التونسي المالكي المدرس بجامعة الزيتونة وبين مفتي الحنفية الشيخ محمد البيرم المؤلف لعدة كتب في المنقول والمعقول وله ايضا كتاب تاريخ دولة بني عثمان حول كروية الأرض وبسطها, البسط للمناعي والكروية لخصمه.
استطاع رفاعة ان يثير القضية وان يدفع الناس إلي البحث فيها والجدل حولها ثم هو ايضا يبدي انحيازه غير المباشر لفكرة كروية الأرض التي لايضير اعتقاد تحركها أو سكونها. وهكذا كان التأويل مخرجا لتوافق الدين مع العلم, واذا كان الأمر قد تطلب شجاعة وبحثا مضنيا ومعرفة بالعلم والمنطق في الزمن الماضي فإن الكثيرين في ايامنا يفتقدون كل هذه الخصال ويتجنبون حتي التأويل. طاقة الضوء الوحيدة الباقية, فمتي؟ وإلي متي؟.
|