لقد وصل الصمت العربي إلى حد التواطؤ على كل ما يقع في واقع العرب من مآسٍ وكوارث وأحزان. وما يحدث في غزة من حصار وتجويع وإظلام واغتيال للمقاومة وموت للشعب أطفالاً ونساء وشيوخاً، ربما ليس هو آخرها
لا يوجد إلا الصراخ المبحوح والانفجار الداخلي وتوجيه الطاقة النفسية إلى الداخل بدلاً من انفجارها في الخارج. هو الغيظ المكتوم، والألم والأنين. ومهما حدث من إذلال وإهانة وطعن في الكرامة فلا شيء يحدث إلا الصمت، صمت الأموات في القبور. بل إن زمان الإدانة والشجب والاستنكار الذي كنا ندينه لأنه عجز عن الفعل قد ولَّى. ولم نعد نستطيعه أو نقوم به. فهو كثير على الأمة. كان إثباتاً لحضور، والأمة اليوم غائبة. كان تسجيلاً للموقف، والأمة اليوم بلا موقف. كان شهادة على العصر، والأمة اليوم لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم. انتهى أيضاً زمن الاستغاثة والاستنجاد بالأمم المتحدة والمنظمات الدولية الإنسانية. فقد ضربت الشرعية الدولية. وألغيت قرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين وخطوط الهدنة وحدود الدول المعترف بها لصالح القوة، والأمر الواقع، والاستسلام. ولم تعد المنظمات الدولية تكترث بالضعفاء ومَن لا يسترد حقه بيده.
فما السبب في هذا الصمت المطبق في الوطن العربي، نظماً سياسية، وشعوباً، باستثناء مظاهرات محدودة هنا وهناك، بالآلاف في المغرب والبحرين، وبالمئات في مصر؟ تتعدد الأسباب وعلى مستويات عدة. ولا يوجد سبب واحد، بل تتكاتف الأسباب كلها.
قد يكون السبب هو كراهية النفس لعجزها عن مواجهة الواقع. فقد تبلد الحس من كثرة ما وقع في حياة العرب والمسلمين من كوارث ابتلعوها واعتادوا عليها باستثناء المقاومة في فلسطين والعراق. انتابت العرب حالة من اليأس والإحباط والسكون لانسداد الطريق، وغياب الأفق، وضياع الخيال السياسي. خاف العرب من الحركة، وأخذ زمام المبادرة، والتحرك المحسوب خشية من المخاطرة. أصيبوا بعقد الهزائم في 1948 التي ضاع فيها نصف فلسطين، وفي 1967 التي ضاع فيها النصف الآخر. ونسوا فشل العدوان الثلاثي في 1956 وتأميم القناة. نسوا حرب أكتوبر 1973. وتغافلوا عن انتصار لبنان في يوليو- تموز 2006، شعب في مواجهة جيش. وضخموا صورة العدو والجيش الذي لا يقهر. وقيدوا أنفسهم باتفاقات سياسية تعكس موازين القوى وقتها.
زمان الإدانة والشجب والاستنكار الذي كنا ندينه لأنه عجز عن الفعل قد ولَّى. ولم نعد نستطيعه أو نقوم به. فهو كثيرٌ على الأمة!
وفي رأي بعض الفلاسفة انتاب العرب نوع من "الجبن" الأخلاقي الذي يقعد عن العمل، ويخيف بالوهم. وفي رأي بعض المحللين السياسيين السبب هو حرص بعض النظم على كراسي الحكم، والتمسك بالسلطة والثروة مهما وقع على الشعب من قهر وفقر. ونظراً لأن هذا البعض باقٍ في الحكم على غير إرادة الناس، فإنه يبحث عن سند خارجي يحميه. ويجد ذلك في الولايات المتحدة الأميركية بالرغم مما تتشدق به من دعوة إلى شرق أوسط كبير أو جديد يقوم على الديمقراطية، وهي تؤيد بعض أكثر النظم السياسية قهراً لشعوبها، ما دامت تحقق مصالحها حتى تصبح عبئاً عليها فتتخلص منها وتبحث عن بديل آخر أقل سواداً وأكثر بياضاً، أقل ديكتاتورية وأكثر قبولاً شعبياً، أقل تسلطية وأكثر اعتماداً على بعض القواعد الشعبية والتيارات السياسية. وقد بدأت بدعة الصلح مع إسرائيل لتدعيم بعض النظم السياسية في الخارج بعد أن تهاوت شرعيتها في الداخل. فبعد الهبَّة الشعبية في مصر في يناير 1977 رافعة صورة عبدالناصر من الإسكندرية إلى أسوان، تمت زيارة القدس في نوفمبر من نفس العام لتجد حليفاً جديداً للنظام. وقد يكون السبب في الصمت العربي القُطرية الحادة مما يعني فك الارتباط بين الدولة القُطرية والأمة العربية مهما حدث لفلسطين من عدوان إسرائيلي، والعراق من عدوان أميركي، والصومال من عدوان حبشي. فقد تركت الدولة القُطرية قضية العرب الأولى إيثاراً للمصلحة الشخصية مثل تراكم الثروات وضمان استثمارها. فرأس المال ليس له وطن. والربح دون الخسارة من قوانين السوق. فتجد القُطرية دعامتها في العولمة بالذوبان فيها.
وقد يكون سبب الصمت العربي من الناس السعي وراء لقمة العيش والبحث عن الرزق والرغبة في الهجرة إلى الخارج عن الوطن الذي لم يوفر له أدنى مستوى من إشباع حاجاته الأساسية في السكن والغذاء والكساء والعمل والتعليم والصحة؟ فإذا كان القهر السياسي أحد أسباب الصمت فإن الفقر الاقتصادي سبب آخر. ويقوي ذلك قبول البلوى كأحد مظاهر الرضا بالقضاء. فالرزق مقدر من قبل "يا متعوس، يا متعوس غير رزقك ما تحوش"، "المتعوس متعوس ولو علَّقوا على راسه فانوس" إلى آخر ما هو مدوَّن على عربات النقل وسيارات الأجرة من "هتاف الصامتين". فالصمت أبلغ من الكلام. والبراءة أكثر إقناعاً من الاتهام. الصمت تجاه ما لا يفهم من الكلام، ولمزيد من التأمل والتنكُّر والتعمُّق.
أما الصمت العربي تجاه ما يحدث في فلسطين دائماً وغزة مؤخراً فهو صمت غير طبيعي. يخرج عن حدود المألوف. ولا يلحق بصمت بعض المتدينين عن اللغو والثرثرة والكلام. فالعرب معروفون بالكلام والصراخ إلى حد قول البعض إن العرب ظاهرة صوتية. الشعر تعبير، والله متكلم، والقرآن قول. ومهما عجز العربي فإن لديه وسائل التعبير بالإشارة والإيماءة وحركة الجسد والنكتة والسخرية والأمثال العامية. وتسمى دروس الإنشاء في المدارس دروس "التعبير". والموسيقى العربية، والغناء العربي، والخطابة العربية جزء من تاريخ العرب الثقافي.
والتراث العربي مملوء بالمأثورات ضد الصمت، ضد الحكمة الصينية القديمة "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم". فمهما اجتمع الناس على قول باطل يستطيع مؤمن واحد أن يجهر بالحق، (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ). ومهما أرهب الناس فإن الوعي الفردي يظل يقظاً، صحوة الضمير، والوحي إعلان وبلاغ وبيان للناس، وفي الحديث "الساكت عن الحق شيطان أخرس".
إن هذا الصمت المطبق على ما يحدث في غزة من حصار مليون ونصف مليون من الفلسطينيين، ثلث الشعب الفلسطيني على الأرض بالإضافة إلى فلسطينيي الشتات له نهاية. وتتعدد النهايات. وتتنوع أشكال التعبير التي تتجاوز الكلام بعد طول صمت. وتندرج من السلم إلى العنف. قد تستطيع بعض أحزاب المعارضة التي مازالت بها بقايا حياة أن تكوّن جبهة وطنية أو ائتلافاً وطنياً قادراً على رفع الصوت وجمع الناس، وأن يكون كالشرارة في الهشيم. وقد تستطيع جمعيات المجتمع المدني خاصة حقوق الإنسان، والحركات الشعبية والاتحادات والنقابات تكوين عصب شعبي لتحريك الجماهير ورفع الصوت. وقد تقوم هبَّات شعبية بحمية تلقائية والتي بلغت مليوني مواطن في الرباط أثناء العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين. قد تتحرك الجماهير عفوياً كما تحركت في مظاهرات مارس 1968 ضد أحكام الطيران وهزيمة يونيو 1967، وكما تحركت في جنازة عبدالناصر وهي تودع زعيمها الخالد ممثلاً لمقاومتها وإعادة بناء جيشها. فمازالت الروح الوطنية لم تنطفئ بعد، تولد أجيالاً وطنية جديدة، تتقدم للتضامن مع الشعب الفلسطيني.