الجزء الثاني ( – الجهاد الدفاعي – )
في الجزء الأول كنا قد قدمنا للقارئ العزيز المعنى اللساني والمعنى الإصطلاحي - للجهاد - وشرحنا الطريقة التي أعتمدها الفقهاء في تعميم وتغليب - الجهاد الأبتدائي - على سوآه من المعاني متكيئن على السيرة التاريخية للفقهاء الملوك وأعتبار ذلك هو شرع الله ، مما جر على الإسلام والمسلمين ويلات وطعون في فكره وعقيدته وشريعته ، ونحن اليوم سنقدم الجزء الثاني من الظلال وهو سيتناول – الجهاد الدفاعي –
حجيته ودلالته ونبدأ في النص 246 من سورة البقرة قال تعالى : [ إذ قالوا لنبي لهم أبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ] ، يتناول النص الجماعة التي قالت لنبيها إن جالوت قد أستبد بظلمه لنا ، ولابد من رفع ذلك الظلم وإن تطلب ذلك مقاتلته ، إذ قتالنا له حياة لنا ولغيرنا وهذا التوجيه يُمكن الإستفادة منه كقاعدة شرعية وعقلية مفادها : إن قتال الظالم المستبد واجب عقلي وشرعي .. لذلك جاء في بيان التعليل وصحة القتال هذا : [ قالوا ومالنا ألاّ نُقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا ] - البقرة 2 /246 - ، والتعليل كما ترى مرتبط بالفطرة أولاً ، وهو تكليف معلق مرتبط بالشرط الموضوعي ، ويعني إن الظلم متى وقع فيجب رفعه بكل السبل ومنها محاربته وقتاله ، فالظلم إذن هو قرينة على صحة ووجوب الدفاع باعتباره حقاً فطرياً وطبيعياً لكل الناس والبشر ..
لهذا قال الشيخ محمود شلتوت : ( إن سبب القتال ينحصر في رد العدوان ، وحماية الدعوة وحرية الدين ، وتطهير الأرض من الظلم والطغيان ) - تفسير القرآن الكريم ج1ص540 - .
يقول الركابي : إن الدفاع هو لون من ألوان البلاغ المبين مهمته الوقوف بوجه المستبد الطاغي وبوجه العدوان والقهر ، لذلك ربط المولى هذا الحق بالفطرة لأنه يرتبط بقضايا الحرية وقضايا الفكر والحياة ، ولهذا كان الشرط الموضوعي الثابت هو – لا إكراه في الدين - في معناه المطلق ..
والسياق التاريخي لحركة الأنبياء كان دفاعياً مهمته حماية الإنسان وحماية حريته واختياره ، ولهذا تحركت الدعوة المحمدية في هذا الإطار لم تخرج منه البتة بل وظفت الجدل بالحسنى كنهج للتقريب وردم الهوه مع من يختلف معه متبنياً التصور التالي : [ وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في ضلال مبين ] - سبأ34/124 - ، وهو منهج إن تأملناه يحقق لجميع الأطراف القدر اللازم من الشعور بالثقة والتساوي ، فليس في البدء من يمتلك الحقيقة المطلقة بل من خلال الحوار والإيمان به سيتمكن الجميع من الوصول إلى الحقيقة ، وإذا كان هذا خط سير محمد النبي - ص - في حركته من اجل الدعوة والإسلام ، فكيف إذن غلبت النزعة العدوانية على هذا ؟ وكيف غلب مفهوم – الجهاد الأبتدائي – على ماسوآه ؟ حتى قُرن الجهاد بالقتال مطلقاً !!
يربط الركابي : سيادة النزعة الهجومية في الفقة الديني ذلك بسبب هيمنة الفقه السياسي الذي كان يلبي حاجة الخلفاء الملوك في غزواتهم وحروبهم العدوانية ..
لذلك طغت هذه النزعة في الفقه الإسلامي يقول الشوكاني : ( وأما غزو الكفار ، ومناجزة أهل الكفر ، وحملهم على الإسلام ، أوتسليم الجزية ، أو القتل ، فهو معلوم من الضرورة الدينية ، وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها ، وماورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة ، فذلك منسوخ باتفاق المسلمين ، بما ورد من إيجاب المقاتلة لهم على كل حال ، مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم إلى ديارهم ) - السيل الجرار 4/518 و 519 - .
فلو تأملنا هذا الرأي من الشوكاني لنجده مصداق لمعنى الإرهاب ، لأنه دعوة صريحة لقتل الناس من دون سبب ، إلاّ لأنهم كفار مع إن الله قال للنبي ان يقول للكفار ان يذهبوا وليمارسوا حريتهم الدينية ذلك لأن لهم دين ولكم دين ، هذا في الكتاب المجيد .. أضف إلى ذلك طبيعة تركيب هذا الرأي وكيف إنه يخالف النص في التنزيل صراحة ، ثم يقول : إن الموادعة ، وترك القتال هو المنسوخ مدعياً بذلك إتفاق المسلمين ، والحال ان ليس في البين من إتفاق أولاً وليس من نسخ في الكتاب للصلح والسلام بل إن فكر النسخ مردود ولاوجود له في الكتاب المجيد مايدل عليه وهذا ثانياً ، ويمكننا رصد هشاشة رأي الشوكاني على النحو التالي :
1 - الجهاد هو ليس غزواً كما قدمنا سابقاً .
2 – حمل الناس على الإسلام هو إكراه في الدين وهذا مناقض لما يدعوا له الله في كتابه .
3 – الإحتجاج بالكتاب والسُنة ليس على ماينبغي إذ ليس في الكتاب ولا نص يشير ويلزم بقتال الناس من أجل إدخالهم في الإسلام .
4 - والقول بالنسخ باطل لامحل له في الكتاب المجيد إذ لا نسخ مطلقاً في الكتاب على أي نحو وما يقال في هذا الخصوص لا يدعمه العلم ولا يصمد أمام النقد .
5 - كما إن جهاد النبي في حروبه كان بأجمعه دفاعاً ..
قال أبن تيميه : [ كانت سيرته - ص - ان كل من هادنه من الكفار لم يقاتله ، وهذه كتب السيرة والحديث .. فهو لم يبدأ أحداً بقتال ] - رسالة القتال لأبن تيميه ص 125 - .
محمد النبي - ص - لم يحارب من أجل إدخال الناس في دينه ، ولم يحارب كي يحتل أرض الغير بالقوة ، لأنه ببساطة كان يتحرك من أجل خلق مناخ صحيح للعلاقة مع الغير ، تاركاً الناس وشأنهم فيما يعبدون وكان شعاره : ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) - الكهف 18 /29 - . وهذا التقرير الإلهي يتضمن شرط الحرية في العلاقة مع الله ومع الدين ، وهو كما ترى شرط مضطرد يتحرك في مطلق الزمان وفي مطلق المكان .. وكل رأي يخالف هذا التقرير فمنشأه سياسي وليس ديني !!
من هنا أعتبر الدكتور مصطفى السباعي – الجهاد في الإسلام - مشروع لغرضين :
أولاهما : رد العدوان من على الأوطان والأعراض والنفوس .
وثانيهما : نجدت المضطهدين وحمايتهم من بطش الظالمين . - أشتراكية الإسلام ص 245 - .
قال الشيخ الطوسي في كتابه النهاية ص 293 : ( ولابأس بقتال المشركين في أي وقت كان ، وفي أي شهر كان إلاّ الأشهر الحُرم ) .
يقول الركابي : لا ندري من أين جاء بهذا الشيخ الطوسي ؟؟!!
فهل عنده عدم مشروعية قتال المشركين متعلقة بالحرمة من حيث هي ؟! أم الحرمة عنده متعلقة باحترام هذه الأشهر ؟ !
أم إن ذلك منه متعلق بكليهما ؟ !
نعم لقد كان القتال ممنوعاً بل محرماً عند العرب في أشهر بعينها سموها الأشهر الحُرم هي _ رجب ، وذي القعدة ، وذي الحجة ، ومحرم - ، هذه الأشهر أعتبر الطوسي قتال المشركين فيها حرام ، وفيما عدآها فجائز ، والقتال هنا من أجل إدخالهم في الإسلام !!
والمتعلق هو من يبدأ القتال ، فالقائلين بحرمة القتال في الشهر الحُرم لا يجوز قتالهم هكذا يقرر الطوسي شيخ الطائفة ، وهذا منه إقرار بصحة - الجهاد الأبتدائي - وهو في ذلك يتحرك بنفس الإتجاه الذي تبناه فقهاء السُنة والشيعة وأجمعوا عليه كما هو عند الشافعي ، كما نقل صاحب الجوامع الفقهية ذلك عن ابن زهره في الغنية في الصفحة 900 ، [ والجوامع الفقهية موسوعة تضم أحد عشر كتاباً في الفقه منها الغنية والوسيلة لأبن حمزة ، وكتاب المُقنع للصدوق والإنتصار للمرتضى وغيرها ] .
وإلى ذلك ذهب صاحب الجواهر في قوله : (( ومما لا ريب فيه أن الأصلي منه قتال الكفار ابتداءً على الإسلام ، وهو الذي نزلت فيه الآية 216 من سورة البقرة : < كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شرُ لكم .. > )) - جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 21/4 كتاب الجهاد - .
يقول الركابي : لقد ذهب صاحب الجواهر في معنى الكراهية مذهب مخالف لسياق النص ذلك لأن النص إنما يتحدث عن الطبع الأولي للإنسان الذي يرغب بالعيش السعيد في السلام والأمن ويكره الحرب والقتال ، هذا هو الفطري والطبيعي ، ولأن القتال هو ألم ودموع وموت لذلك فإنه مكروه وغير مرغوب للنفس البشرية ، هذا هو سياق النص وحركيته ، ولكن الخير في القتال مرتبط بحماية الإنسان من الظلم والتعدي وإغتصاب الحقوق ومصادرة الحريات وبالتالي فالخيرية مرتبطة بالهدف لا بأصل القتال ..
يتبين مما مضى ان منهج الفقهاء في الموقف من الجهاد يميل لمصلحة - الجهاد الأبتدائي - أو مقاتلة الناس حتى يصيروا مسلمين مؤمنين بمحمد نبياً ورسولاً - ص - ، وهذه إشكالية معرفية لا يُمكن الخلاص منها من دون معرفة ما إذا كان محمد النبي – ص - قد مارس هذا النوع من القتال أو الجهاد ؟؟
هذا أولاً ، وثانياً : هل قتال الناس أبتداءً قد شرع في الإسلام ، وبمعنى أدق هل الجهاد بالمعنى الفقهي قد شرعه الله أم لا ؟؟ !! ..
قبل الإجابه يلزمنا البحث في جدلية الثبوت والإثبات في المنطق الأرسطي وفي الفقه الإسلامي ، ونقول في المنطق لا مانع من حيث المبدأ الجهاد أبتداءً !! ولكن عدم المانع هذا لا بد له ان يقع في دائرة الهدف والغاية من الجهاد ، وهنا يجب ان يكون عدم المانع واقعاً في دائرة الثبوت ومقامه ، ففي مقام الثبوت يلاحظ في الأساس : هل هناك مانع عقلي يمنع من ذلك أم لا ؟؟
ففي مقام الثبوت يمكنك أن تقول : إني أملك مليون دولار مثلاً .. فهذا القول من حيث المبدأ لا مانع منه ، لأنه ممكن ومقام الثبوت هو مقام الإمكان فلا يلزمه الدليل ، أي أن مقام الثبوت هو ظاهرة طبيعية لا إشكال فيها !!
ولكن في مقام الإثبات نحتاج دائماً إلى الدليل والبرهان ففي مثلنا السابق نحن ملزمين ببيان الدليل على صحة دعوانا .. ولذلك حين نقول ان محمد ابن عبدالله – ص – قد مارس الجهاد الأبتدائي في حياته ، فأنت في مقام الإثبات ملزم ببيان الدليل على ذلك وأثبات ذلك بالبرهان العلمي وليس مجرد الكلام ، والدليل في المسائل هذه محله التاريخ الصحيح من خلال حروب النبي ومعاركه التي خاضها وأثبات ذلك موضوعياً وعلمياً من خلال القواعد والأصول المعمولة في مثل هكذا قضايا ، ولا يصح إرسال القول في ذلك أبداً ..
ففي مقام الإثبات لا بد من البرهنة على أن الإسلام قد شرع الجهاد الأبتدائي من أجل الدعوة إلى الإسلام أو ( على الإسلام ) كما يقول صاحب الجواهر ..
يقول الشيخ البلاغي : إن الجهاد الأبتدائي في مقام الثبوت قد شرع في الإسلام ، ولكن الرسول - ص - لم يمارسه عملياً ، أي إننا في مقام الإثبات لا نستطيع الإدعاء أن رسول الله قد مارس الجهاد الأبتدائي ، بل يمكننا إثبات العكس ، أي إثبات أن كل ما قام به النبي في حروبه كان جهاداً دفاعياً ..
ويقول : وأما حروبه التي تشير إليها في كلامك فإن أساس التاريخ الذي يذكرها يقرنها بذكر أسبابها التي يعلم منها ، أنه لم يكن حرب من حروبه أبتدائياً لمحض دعوة للإسلام .. وإن جاز ذلك للإصلاح الديني والمدني ، - راجع كتاب الرحلة الدرسية 2/6 - .
والإصلاح الديني عند الركابي مفهوم لمعنى واحد هو إصلاح الفكر وإصلاح الرؤية فيما يخص قضايا العقيدة والشريعة والفصل بين القيم الروحية والتحليل العلمي في فهم النبوة والوحي والرسالة والله ، والإعتماد في ذلك على العقل كأداة في الكشف والتحليل والتقريب والنظر والإستقراء والبرهان ، يتناول ذلك الموقف من قضايا التاريخ الديني والموقف من نتاجهم الذي وصلنا وهو موقف نقدي في كثير من الأحيان ، والموقف من التاريخ يلزمه موقف من رجال التاريخ الديني ..
والإصلاح المدني عند الركابي هو سلوك في التعاطي مع الحياة بوسائل حضارية نتمكن من خلالها إيجاد الأرضية المناسبة لصيرورة مجتمع مدني قائم على أساس الحرية والعدل والسلام والقانون الذي هو للجميع لحمايتهم والدفاع عنهم ، وتحرير الإنسان من القيم البالية والطبقية وتوفير العناصر الواقعية لخلق مجتمع الرفاهية والتقدم والأمن والنظام ، هكذا بأختصار يعرف الركابي مفهوم الإصلاح ببعديه الديني والمدني ..
إذن فحركة النبي محمد تبنت مشروع الإصلاح للواقع الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والسياسي ، وهو في هذا تجنب - الجهاد الأبتدائي - بل إلتزم الحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالحسنى ، وهذا المنهج السلوكي هو ما عليه السيرة الصحيحة ، فكانت حروبه بأجمعها دون إستثناء دفعاً لعدوان الظالمين ، وهو في دفاعه كان يقدم الموعظة ويدعوا للسلم : (( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله )) - الأنفال 8/61 - ، وهذا النص يؤكد على سلمية حركة النبي فالسلام عنده هو القاعدة الأولية ، وهذا الكلام مع المعتدين فمابالك مع الموادعين والمسالمين ، كيف يمكن ان نتصور ان محمداً يبتدئهم بقتال ؟؟ لا لشيء إلاّ لأنهم على غير دينه ومذهبه !! هذا غير ممكن وغير متصور كما نرى ذلك هنا ..
يقول محمد رشيد رضا : (( إن حروب الرسول - ص - للكفار كانت كلها دفاعاً ليس فيها شيءٌ من العدوان .. ويضيف قائلاً : إن قتال مشركي العرب ونبذ عهودهم بعد فتح مكة كان جارياً على هذه القاعدة )) - الوحي المحمدي ص 236و 237 - .
هذا يعني ان حياة النبي - ص - لم يكن فيها بالواقع ما يسمى - بالجهاد الأبتدائي - إذ لم يتبين لنا في مقام الإثبات ذلك ، ثم إن نصوص القتال في الكتاب المجيد إنما جاءت في لحظة تاريخية رافقت التمدد الفكري للإسلام وزيادة معانات المسلمين وإضطهادهم من قبل أعدائهم ، وبذلك تصح مقالة علماء أصول الفقه في هذا الشأن والقائلة : إن أحكام الجهاد في القرآن ليست أجنبية عن الواقع الموضوعي ( أعني الجو القتالي السائد آنئذاك ) .
وفقهاء المسلمين سواء منهم الشيعة والسُنة إنما أنطلقوا من الواقع الذي عاشوه ، ولم ينطلقوا من النص القرآني في الحكم ، فالجو الذي كان محكوماً بالقتال والمعارك هو الذي صاغ لنا مشروع ومفهوم - الجهاد الأبتدائي أو جهاد الطلب - وهو الذي جعل مفهوم الجهاد في الذهن العام دال على معنى القتال الأبتدائي ، وهذا منا يحتاج إلى متابعة في النصوص لأن الأصل عندنا الكتاب وليس كلام الفقهاء !!
يتبع
راغب الركابي
05 – 12 – 2007