كلما تشتد الأزمات ويصعب حلها، وكلما تزداد الصعاب والعقبات ويعجز المجتمع عن مواجهتها تكثر المفاتيح السحرية كنوع من الهروب إلى الأمام والإيهام بالحل والقدرة على المواجهة. وتكثر الشعارات وتتوالى. فبعد هزيمة يونيو -حزيران 1967 رُفع شعار "العلم والتكنولوجيا" فقد كانت هزيمة العرب أمام إسرائيل في العلم والتكنولوجيا لعدم استطاعتهم اتقاء ضربة الطيران الأولى
وبعد انتصار أكتوبر 1973 رُفع شعار "العلم والإيمان" فقد تمكن العرب من السيطرة على العلم بفن العبور والمدافع المائية، والزوارق المطاطية وعبور الساتر الترابي، وضربة الطيران الأولى، والجندي في مواجهة الدبابة. بل و"حاربت الملائكة" مع العرب -كما قال البعض- وعبرت القناة معهم كما حدث في غزوة بدر. وبعد أن بدأ التفريط في النصر العسكري الذي تحول إلى هزيمة سياسية بالصلح والاعتراف بالعدو الصهيوني في معاهدة كامب ديفيد في 1978 ومعاهدة السلام في 1979، رُفعت شعارات "الإسلام هو الحل"، "الإسلام هو البديل"، "الحاكمية لله"، "تطبيق الشريعة الإسلامية". وتوالت الشعارات الأخرى من العلمانيين مثل "الليبرالية هي الحل" دفاعاً عن الحرية السياسية، "الديمقراطية هي الحل" دفاعاً عن تداول السلطة، "العلمانية هي الحل" في مواجهة الإسلاميين، "الخصخصة هي الحل" تخلصاً من عيوب القطاع العام، لا فرق بين الاقتصاد والتعليم. "العولمة هي الحل" فرأس المال لا وطن له.
وأخيراً رُفع شعار "مجتمع المعرفة" نظراً لثورة الاتصالات، وتراكم المعارف، وانتشار البرامج وأجهزة الاتصالات الحديثة، "الكومبيوتر" والمحمول والشرائح التي تجعل العالم كله بين يدي الإنسان وعلى أطراف أصابعه، وتحويل العالم الفعلي في الخارج إلى عالم ضمني متخيل من خلال الشاشات الضوئية. فالمعلومات قوة. وأصبح من بين إمكانيات الإنسان الحديث "اللاب توب" فكل شيء فيه. العلم فيه والعمل فيه مثل الكتب الدينية في المجتمعات التقليدية التي حوت كل العلوم والمعارف وكل الإرشادات والتوجيهات، وبها خلاص العالم. توهم الإنسان أن العالم بين يديه وقد تكون للعالم قوانينه الخاصة التي تتفاعل معها الإرادات البشرية وحريات الاختبار. فلم تستطع كل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية والأقمار الاصطناعية والتقاط الصور عن تحركات الجنود على ضفاف القناة ومحطات الإنذار المبكر أن تتنبأ باندلاع حرب السادس من أكتوبر، الساعة الثانية إلا خمس دقائق. واستطاع الفيتناميون بأدوات النضال التقليدية، الأنفاق تحت الأرض للجرذان البشرية والاختباء بغصون الأشجار والصواريخ القصيرة المدى مثل "سام 6"، إسقاط أكبر الطائرات العسكرية الأميركية "إف 16"، والانتصار على أعتى الجيوش عدة وعتاداً. واستطاعت المقاومة الجزائرية الانتصار على الجيش الفرنسي ومن ورائه حلف شمال الأطلسي. وتفعل الآن المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية نفس الشيء مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والأميركي في العراق.
لا يقوم مجتمع المعرفة إلا في مجتمع مستقر استطاع إشباع حاجاته الرئيسية، الطعام ضد الجوع، والمياه النظيفة للشرب وليس المياه الآسنة الملوثة من البرك والمستنقعات، والإسكان ضد العراء والمخيمات والكهوف، واللباس ضد العري، والصرف الصحي ضد المجاري الطافحة، ونزع المخلفات الآدمية بالعربات من الأحياء الفقيرة، والعمل ضد البطالة، والتعليم ضد الجهل، والصحة ضد المرض، ورفع مستوى المعيشة فوق حد الفقر. دون إشباع هذه الحاجات الأساسية للإنسان، لا يمكن أن يطالب بمجتمع المعرفة.
تقوم المعرفة على العلم. ويقوم العلم على إعمال العقل. وهذا يبدأ بنقد كل مظاهر الجهل والخرافة والسحر والتحرر من سلطة القدماء.
وإذا لبت بعض المجتمعات النامية بعض هذه المطالب ولكنها تعيش في مجتمع القهر والفقر في الداخل، والتبعية للخارج، يكون مطلب الحرية والاستقلال والعدالة سابقاً على مطلب مجتمع المعرفة. فالحرية مطلب أول للإنسان. الحرية تعبير عن الوجود في حين أن المعرفة مطلب ذهني، والذهن أحد جوانب الوجود. حرية التعبير عن الرأي، واحترام الرأي الآخر، والتعددية السياسية والكرامة الوطنية والاستقلال الوطني والإحساس بالرضا والشعور بالولاء للأوطان، وبتعبير النظام السياسي عن اختيار المواطنين الحُر، كل ذلك سابق على مجتمع المعرفة.
وتقوم المعرفة على العلم. ويقوم العلم على إعمال العقل. ويبدأ إعمال العقل بنقد كل مظاهر الجهل والخرافة والسحر والتحرر من سلطة القدماء قبل أن يبدأ بتأسيس العلم. فالعقل النقدي سابق على العقل العلمي. وفي المجتمعات التقليدية مازالت السلطة هي التي تسود، سلطة النقل، وسلطة القدماء، وسلطة التقاليد، وسلطة رجال الدين والسياسة. فكيف يتأسس مجتمع المعرفة في مجتمع العقل فيه ليس سلطة، ولا يقوم بوظيفة النقد؟ الدعوة إلى إقامة مجتمع للمعرفة في المجتمعات التقليدية هي استبدال سلطة بسلطة، سلطة الجديد بسلطة القديم، سلطة المحدَثين بسلطة القدماء، تقليد بتقليد، وإيمان بإيمان.
لا ينشأ مجتمع المعرفة إلا بعد استنفاد كل إمكانيات العلم التقليدي عن طريق التدوين والكتب والمعارف المتاحة بأشكالها التقليدية. فالأمي الذي أصبح متعلماً يقرأ قبل أن يضغط على الأزرار. ويفك الخط قبل أن يفك الشفرة. وفي الجامعات الحديثة في المجتمعات التقليدية ربما يحتاج الطلاب إلى المكتبة المفتوحة التي يأخذ الطالب الكتاب منها بيده من على الرف ويطلع عليه قصداً أو عن غير قصد. فإذا ما تراكمت المعلومات ووصلت إلى حد يصعب السيطرة عليها هنا تبدأ الحاجة إلى تنظيمها وفهرستها وتحويلها إلى ذاكرة يسهل استدعاؤها، والتحول من العبارة إلى الكلمة، ومن الكلمة إلى الحرف، ومن الحرف إلى الرمز، ومن الرمز إلى الرقم.
وقد انعكس ذلك كله على مناهج التعليم العامي والبحث العلمي في الجامعات. فإدخال أجهزة المعلومات في المدارس العامة لا يعني أن التعليم قد تم تغييره. إذ يحل الجهاز محل الأستاذ، نقلاً بنقل، وسلطة بسلطة. ويلحق الطلاب ببحوثهم قوائم المراجع والمصادر من أجهزة المعلومات لم يقرأها الطالب، أو يطلع عليها بل قرأ ملخصاتها.
إن تحديث المجتمعات لا يأتي عن طريق مظاهر الحداثة، خارج الزمان والمكان، زرع آلات حاسبة وشبكات معلومات متاحة للجميع، استبدال سحر بسحر، ومعجزة بمعجزة، وحديث بقديم. فالعقل لم يتغير، والموقف من مصادر المعلومات لم يتبدل، وهو التلقي والتعليم والتحصيل مع أن العلم هو استنباط المجهول من المعلوم، وقراءة ما بين السطور.
المعرفة جزء من نهضة المجتمع الشاملة وليست عنصراً منفرداً ومعزولاً عنه. هي جزء من كل وليست كلاً من أجزاء. المعرفة لها شروط. ما لم تتوافر تكون زرعاً بغير نبت، ونبتاً في غير أرض، بالونة ملونة في الهواء سرعان ما تنفجر. لا يعني مجتمع المعرفة رفاهية النخبة، وديكور الحداثة، ومظهراً من مظاهر الدولة العصرية، والحياة مازالت ريفية، والرؤية تقليدية. إن تطور المجتمعات، وانتقال المجتمع التقليدي من القديم إلى الجديد، ومن السلطة إلى التحرر، ومن التقليد إلى الاجتهاد، هو الطريق الطويل الطبيعي في مسار تاريخي ربما يكون مجتمع المعرفة إحدى مراحله، وليس بالضرورة آخرها.