الاعتراف الدولي يعني اعتراف الدول الأخرى بغيرها كطرف في العلاقات الدولية، وقد ظل الاعتراف وارداً بالنسبة لكل التطورات والأوضاع، ولكنه وارد بشكل محدد بالنسبة لنشأة الدول الجديدة سواء كانت الجديدة استقلت عن الاستعمار،
أو انفصلت عن الدولة الأصلية وانشقت عنها بدءاً بالاعتراف بالثوار ثم المحاربين، أو أن اتحاد دولتين أو أكثر انحل كما رأينا في حالة الوحدة المصرية السورية، وتفكك الاتحاد السوفياتي، والاتحاد اليوغوسلافي، وحيث إن هذه الاتحادات تطلبت هي الأخرى الاعتراف بها باعتبارها أطرافاً في البيئة الدولية. وقد اتجه العمل الدولي الرسمي طوال العقود الثلاثة الأخيرة بشكل واضح إلى قصر الاعتراف على الدول بحيث لا يتطلب تشكيل الحكومات اعتراف الدول الأخرى بهذه الحكومات. وكان الاستثناء الوحيد هو ضرورة الاعتراف في حال قيام حكومة ثورية أو انقلابية أو حكومة ملتبسة بالدولة. مثل الأولى ما حدث بالنسبة لحكومة كابيلا في كنشاسا العام 1996، ومثل الحالة الثانية استيلاء الجبهة الوطنية الرواندية خلال الحرب الاهلية العام 1994 على السلطة في رواندا، ما أدى إلى تحول دولة الهوتو بالكامل إلى لاجئين في زائير في ذلك الوقت. ولكن تكاثر الحالات الأخيرة في العالم العربي الذي تتنازع فيه أطراف داخلية على الشرعية ظهر فيها الاعتراف الدولي حاسما في تقديم أساس الشرعية لهذه الحكومات. ففي العراق، فرضت سلطات الاحتلال الأميركي عدداًَ من الحكومات الموقتة على المسرح العربي، فاضطرت الدول العربية أن تعترف بهذه الحكومات، واعترفت بها الجامعة العربية ممثلاً للعراق فيها. ومن الواضح أن هذا الاعتراف أضفى شرعية على هذه الحكومات، رغم أن العالم العربي يعلم أنها حكومات شكلها الاحتلال لتنفيذ سياساته، ولكن العالم العربي لم يعلن يوماً إدانته للاحتلال الأميركي، ومن ثم لم يعترف بـ»مقاومة عراقية» لهذا الاحتلال، فلم يثر لديه الشعور بالتنازع بين حكومات الاحتلال، وبين المقاومة التي لم تقدم نفسها حتى الآن بديلاً لهذه الحكومات. ويجوز الافتراض مع هذا المنطق العربي أن الاعتراف العربي لم يخلع وحده الشرعية على هذه الحكومات العراقية، وإنما توازى هذا الاعتراف مع شعور زرعته واشنطن حتى بين الفقهاء العرب بأن مجلس الأمن بقراره 1483 في أيلول (سبتمبر) 2003 قد أسبغ الشرعية على الاحتلال للمرة الأولى في تاريخ القانون الدولي، ولا تزال الحكومة الأميركية تتبنى رسمياً هذا الرأي، مما دفع العالم العربي إلى الكف عن مجادلة المنطق القانوني الأميركي بعد أن سكت على الأقل على منطقه السياسي والعسكري.
وعندما انتقلت واشنطن إلى الفصل التالي من المسرحية وذلك بالتبشير بتسليم السلطة للعراقيين وإنهاء صفة الاحتلال وتحويل قوات الاحتلال - على الورق - إلى وصف القوات المتعددة الجنسيات، في إطار قرار مجلس الأمن 1546، وما سمي بالعملية السياسية، اعترف العالم العربي بما أسماه الشرعية الدولية في العراق رغم أنه يدرك أن تحت عنوان الشرعية الدولية والعملية السياسية يجري تفتيت العراق وإجراء الانتخابات الطائفية، التي أنتجت حكومة طائفية، واعتراف العالم العربي بكل هذه الأساطير. ورغم أنه من الطبيعي أن اعتراف العالم العربي كان يخفي وراءه الأمل في أن يقوم أي نظام سياسي يؤمن للعراقيين سبل عيشهم ويعيد إليهم ولو بالتدريج الأمن المفقود تمهيداً لمصالحة وطنية نهائية، إلا أن هذا الموقف شجع إيران على الاعتراف بهذه المسرحية وتوظيف هذه الحكومات «المنتخبة» والتي تفتقر إلى أي شرعية وطنية، ولكنها تتمتع بشرعية طائفية واردة أميركية وشرعية دولية بقرار دولي واعتراف عربي، في التنكيل بالسنة وإضعاف مقاومتها، ثم اكتشفت إيران أن هذه المقاومة هي الورقة الوحيدة الرابحة لدفع واشنطن إلى الحوار معها حول ما تعتبره واشنطن «ورطتها القدرية» في العراق، بينما أطلق العنان للاكراد للسير بخطى حثيثة نحو تقرير المصير المستقل. والطريف أن حكومة المالكي تخطي بدعم إيراني وأميركي وعربي ولكنها لا تحظى بدعم وتوافق داخل العراق، ولذلك فإن شرعيتها تقوم في العالم العربي علي الاعتراف العربي، وفي العالم الخارجي على اعتراف الجميع بها والتعامل معها، ولكن هذه الشرعية في الحقيقة مصدرها رغبة واشنطن على الأقل في هذه المرحلة في كبش فداء لفشلها في العراق بالمعايير الأميركية. والطريف أيضاً أن المالكي رد على انتقاد بوش رد رؤساء حكومات الدول المستقلة، أي باستخدام مفردات قاموس المسرحية نفسها كما كتبها المؤلف وأعدها السيناريست للإخراج، ولذلك فإن هذه الازدواجيات هي السبب الحقيقي في محنة العراق.
أما في لبنان، وفقاً للدستور اللبناني، فإن تخلف مشاركة طائفة كبيرة كالشيعة في الحكومة يبطل عمل الحكومة كما يبطل وجودها نفسه، لأن النظام الدستوري اللبناني يقوم بصراحة على التوازن والتوافق الطائفي بين المسلمين السنة والشيعة والمسيحيين. ومع ذلك فإن اعتراف العالم العربي والعالم الخارجي هو أن حكومة السنيورة هي الحكومة الشرعية وأن انسحاب وزراء الشيعة إرهاب لهذه الحكومة الشرعية الساعية إلى تأكيد سيادة الدولة على كل المواطنين والأقاليم. وبهذه الصفة فقد قبلت الأمم المتحدة أن ترتبط هذه الحكومة نيابة عن لبنان بمعاهدات دولية، كان أبرزها المعاهدة اللبنانية الأممية حول إنشاء محكمة الحريري. بل إن إغفال وتجاهل العالم كله لرئيس الجمهورية اللبنانية باعتباره جزءاً من المعارضة السياسية والذي يعد انتهاكاً للدستور اللبناني من جانب الأطراف اللبنانية كما يعد تدخلا ًفي شؤون لبنان الداخلية، أصبح أمراً مقبولاً وكأن الاعتراف الدولي بهذا السلوك طمس هذه المبادئ الدستورية والعرف الدولي في التعامل مع رؤساء الدول والحساسية الدولية تجاه المخالفات لدستور الدول المعنية. وأخيراً، أصبح الاعتراف الدولي بحكومة سلام فياض، وهي حكومة طوارئ رغم مخالفة أبو مازن للقانون الأساسي الفلسطيني وتجاهله المجلس التشريعي، وسعيه إلى تغيير المعادلة السياسية في الداخل من خلال انتخابات مبكرة، هو الأساس القانوني لوجود الحكومة الفلسطينية عوضاً عن افتقارها إلى السند الدستوري في فلسطين. على الجانب الآخر، سحب العالم اعترافه من حكومة هنية التي تشكلت وفقاً لاتفاق مكة ووفق القواعد الدستورية الفلسطينية.
معنى ما تقدم أن العالم العربي يغض الطرف عن مخالفة القانون الدولي في العراق، والدستور الوطني في كل من لبنان وفلسطين وجعل اعترافه بديلاً عن هذه النصوص الدستورية، بما يتماشى مع المواقف السياسية العالمية التي لا تزال تتحدث عن سيادة القانون والديموقراطية، وحقوق الإنسان وغيرها من المفردات «المثالية». بعبارة أخرى، ان الاعتراف الدولي الذي كان متطلباً فقط في الحكومات الانقلابية أو الثورية أصبح أساساً لشرعية بعض الحكومات العربية في عصر التبس فيه الحق بالباطل.
كاتب مصري.