تناولنا في الحلقة الأولى من المدخل تعريف الجهاد في اللغة وفي الإصطلاح ، وها نحن اليوم سنتعرف على مصادر التشريع كما قررها جمهور الفقهاء وهي على النحو التالي :
1 - الكتاب المجيد .
2 - الصحيح من السنة النبوية .
3 - العقل والقياس .
4 - الإجماع .
ويجب أن يعلم القارئ العزيز إننا نعتبر الكتاب المجيد هو المصدر الوحيد للتشريع ، وأما السنة النبوية فالصحيح منها عندنا للأستئناس ، والعقل هو الدليل الكاشف عن مضمون الحكم ومدى إنطباقه على موضوعه ، وأما الإجماع فليس عندنا بحجة سواء أكان إجماعاً منقولاً أو محصلاً ..
نعم الكتاب المجيد عرض مجموعة من النصوص التي تتناول - الجهاد - بالمعنى الدفاعي ، وهو المعنى الذي تقره جميع القوانين والأعراف الدولية والعقلية القانونية ، والجهاد الدفاعي قتال من أجل رد عدوان أو مناصرة مظلوم وهو من أكثر أنواع الحروب دلالة ومعنى ، قال تعالى : [ أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير ] - الحج 39 -
وقوله تعالى : [ الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلاًّ أن يقولوا ربنا الله .. ] - الحج 40 -
جاء في تفسير الطبري ج17ص123 ما نصه : [ عن قتاده في قوله (أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا ) قال : هي أول آية أَنزلت في القتال ، فأذن لهم أن يقاتلوا ، وقد كان بعضهم يزعم أن الله إنما قال ( أذن للذين يقاتلون ) بالقتال ، من أجل أن أصحاب رسول الله - ص - كانوا أستأذنوا رسول الله - ص - في قتال الكفار ، إذ آذوهم وأشتدوا عليهم بمكة قبل الهجرة ، غيلة وسراً ، فأنزل الله في ذلك : ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) - الحج 38 - فلما هاجر رسول الله وأصحابه إلى المدينة ، أطلق لهم قتلهم وقتالهم ، فقال : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ..] .
روى الترمذي والنسائي أن ابن عباس قال : ( لما خرج رسول الله من مكة ، قال أبو بكر : آذوا نبيهم حتى خرج ليهلكن !! فأنزل الله تعالى [ أذن للذين يقاتلون بانهم ظلموا ، وان الله على نصرهم لقدير ] قال القرطبي : فيه إضمار أي أذن للذين يصلحون للقتال في القتال فحذف لدلالة الكلام على المحذوف - تفسير القرطبي ج12ص67و68 - فقال ابوبكر : لقد علمت أنه سيكون قتال ... هذه رواية الترمذي ، وأما في رواية النسائي قال : لما خرج النبي من مكة قال ابوبكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون !! فنزلت : [ أذن للذين يقاتلون ] فعرفت أنه سيكون قتال .. قال ابن عباس : هي أول آية نزلت في القتال ) - جامع الأصول ج2ص244 ..
قال الطبرسي : الإذن متعلق بالجماعة التي وقع عليها الإعتداء ، أي الجماعة التي وقع عليها ظلم ، فالله أذن لها بالدفاع عن نفسها ، أو إن الإذن مشروط بوجود الإعتداء والظلم .
أي إن الإذن بالقتال جاء للذين أصبحوا مصداقاً للذين ظلموا ، فالإذن هنا هو إذن تشريع عام جاء للذين وقع عليهم ظلماً أو يقعون تحت الظلم ، وهذا القيد بوجود الظلم هو قيد حقيقي جعل من الإذن مشروعاً مطلقاً في حال وجوده هذا عند الطبرسي في تعليل الحكم ..
وأما في سبب نزول هذا النص فيقول الطبرسي : ( كان المشركون يؤذون المسلمين ولا يزال يجيء مشجوج مضروب إلى رسول الله فيشكون له ذلك فيقول لهم : اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال ، حتى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية ، وقد جاء الإذن إلى الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ..
والنص كما نرى عام شامل لكل من أخرج من دياره ووطنه من دون وجه حق ، والنص إيضاً جعل القتال باق في مثل هذه الحالة ، كما إن الإستثناء المنقطع الذي نقرئه بقوله ( ربنا الله ) ليس سبباً قانونياً أوجزائياً يلزم صاحبه العقاب ، لهذا قلنا إن الإستثناء في النص منقطع ..
أقول : والنص في إطلاقه شامل لعموم الشأن الإنساني ولا خصوص فيها يفيد تقييد ذلك الإطلاق ، أي إنها أذنت للناس جميعاً بالدفاع عن أنفسهم ووأطانهم واعراضهم وقيمهم إن تعرضوا لعدوان وظلم ، فالدفاع في هذه الحالة حق طبيعي وإنساني وفطري .
قال ابن العربي في أحكام القرآن ج3ص1284 : إن معنى أذن أي أبيح ، فإنه موضوع في اللغة لإباحة كل ممنوع ، وهو دليل على أن الإباحة من الشرع ، وأنه لا حكم قبل الشرع ، لا إباحة ولا حظراً إلاًّ ما حكم به الشرع وبيّنه ) .
وقال السيوطي في الحاوي للفتاوي ج1ص246 : ( هذه الآية مبيحة لا موجبة ، وقد نص الشافعي على أن القتال كان قبل الهجرة ممنوعاً ، ثم أبيح بعد الهجرة ، ثم وجب بآيات الأمر ، فلعل الإيجاب كان في آخر السنة الأولى أو السنة الثانية ) .
ويبدو مفهوم الجهاد الدفاعي واضحاً كما في قوله تعالى : [ إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله ] - سورة البقرة 246 - ، والكلام في هذا النص عن الجماعة التي قالت لنبيها إن جالوت قد ظلمنا ، ونحن بحاجة للدفاع عن أنفسنا ورفع الظلم الواقع علينا وان تطلب ذلك القتال لأنه في هذه الحالة يعني الحفاظ على الوجود وعلى الهوية ، فالقتال ضد المغتصب الطامع المحتل للأرض والعرض واجب شرعي وعقلي ، وهذا الوجوب نلحظه في البيان التالي : ( قالوا ومالنا ألاّ نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ) - البقرة 246 - ، والبيان هذا تعليل مرتبط بنظام الفطرة وهو تكليف معلق مؤسس على شرطه الموضوعي ، الدال على إن دفع الظلم ومحاربته واجب شرعي وعقلي وإخلاقي ، فالظلم هو الملاك الذي يحدد صيغة ومفهوم الدفاع ووجوبه وكونه حقاً طبيعياً لعامة الناس .
قال الشيخ محمود شلتوت رحمه الله : ( إن سبب القتال ينحصر في رد العدوان وحماية الدعوة وحرية الدين وتطهير الأرض من الظلم والطغيان ) - تفسير القرآن الكريم ج1 ص540 - .
والحق إن مفهوم الدفاع عن العقيدة مارسه الأنبياء جميعاً ولكن بصيغة الحوار والبلاغ المبين والجدل بالحسنى ، ولم يكن يوماً يعبر عندهم عن حرب إستباقية ، فالدفاع هو الحق الطبيعي والإلهي المرتبط بصيانة الحرية وبالحقوق وبالتعبير عن الأفكار والآراء دون إكراه ودون تعد أو إنتقام وغصب ..
والتطور الموضوعي والتاريخي لقصص الأنبياء يبين لنا ، بأن الدفاع عن الحق والعدل والحرية والسلام والمحبة قد مارسه الأنبياء كإبراهيم وموسى وسليمان .. في جولات فكرية وميدانية برهنت بما لا يقبل الشك على صحة وصوابية هذا الإتجاه أعني الجهاد الدفاعي .
يتبع