هل الشك جريمة؟!، يشغلنى هذا السؤال دوماً فى ظل مجتمع أدمن الإجابات الجاهزة، فى وطن تضخمت غدة يقينه حتى أفرزت كماً رهيباً من هرمونات المسلمات الممنوع مناقشتها والتى أصابت جسده المنهك بالتشبع إلى حد التسمم، فأصيب بمرض فرط الإذعان، الطفل الذى يسأل عندنا مشاغب، المراهق الذى يناقش قليل الأدب وعديم التربية، الشاب الذى يشك فيما يصل إليه من الكبار وعبر الأساتذة والشيوخ والكهنة والإعلاميين والجامعيين.. إلخ هو شاب مارق «شايف نفسه» وخارج عن الإجماع!
منذ أن سافر رائد التنوير المصرى طه حسين إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه وتعرف فى بلد النور على فيلسوف الشك ديكارت وعاد إلى مصر محملاً بإعجاب مدروس وانبهار منطقى بشاعر الشك والتمرد أبى العلاء المعرى، الشاعر الذى شارك «طه» العمى وشاركه البصيرة أيضاً، ولم يسمح إلا للعقل أن يكون إماماً فى كتيبة الحفظ والعنعنة الخرساء، درس «أبوالعلاء» وكأنه يدرسه لأول مرة حين نظر إليه من خلال منظار أصحاب علوم اللغة والنقد الحديث الأوروبيين، الذين لا مقدس عندهم إلا الحقيقة، عرف أن الحقيقة ليست بانتشارها وعدد معتنقيها، فمن الممكن أن تنتشر الأفكار الغبية على أنها حقائق، تعلم أن صدق الحقيقة لا تحدده مكانة ومرتبة قائلها مهما كان قدره، تأكد من أن قِدَم الفكرة وإتيانها من الماضى لا يعنى أنها صادقة ولا يمنحها قداسة ولا يسبغ عليها المعقولية ولا يلبسها ثوب الحقيقة، منذ أن عاد وحورب وحوكم طه حسين وذبح له رجال الدين وشباب الأزهر الذين خرجوا فى مظاهرات حاشدة ضده، القطة حينذاك لأنه تجرأ وطبق منهج الشك فى دراسته للأدب الجاهلى، لم يكن همهم هو الحفاظ على قدسية الشعر الجاهلى، ولكن همهم كان الحفاظ على قدسية منهج العنعنة، وأن ما قاله أصحاب تلك العنعنات لا يأتيه الباطل، رعبهم كان من أن يمتد منهج هذا الشاب المارق إلى ثوابتهم ويخترق حصونهم ويسقط قلاعهم ويخصم من رصيد مكاسبهم، منذ ذلك الوقت صار الشك كلمة سيئة السمعة مرادفاً للكفر ومساوياً للردة!
لذلك عندما وجدت كتاباً اسمه «لماذا يجب عليك التشكيك فى كل شىء؟!» للكاتب كى بى هاريسون، سرعان ما التهمته فى يوم واحد، جذبنى العنوان وأعجبتنى الفكرة ووجدت المضمون ثرياً ولابد من طرحه برغم صدمته للكثيرين الذين يركنون إلى اليقين المزمن وينامون غارقين فى كسلهم اللذيذ على وسادة الإجابات المخدرة والتمنيات الكاذبة وأحلام اليقظة الواهمة، الكاتب يحرض على الشك ويشرح لك كيف تكون متشككاً جيداً، وكيف ستكسب راحتك وصحتك وحياتك بهذا الشك، وكيف تدمر الخرافات المجتمعات، يفضح المؤلف كل الخرافات بداية من خرافة الطب البديل حتى الأطباق الطائرة، مروراً بالعلاجات الدينية والوسطاء الروحيين ونهاية العالم ومثلث برمودا.. إلخ، فلنبدأ رحلة الشك.
تأليف كتاب عن ضرورة الشك هو خوض فى حقل ألغام، فالإنسان دائماً يركن إلى اليقين اللذيذ المريح المدغدغ للحواس، الشك عمل مزعج وفعل مقلق، من هنا كانت صعوبة أن يكتب «هاريسون» كتابه، والصعوبة الأكبر أن يقتنع القارئ الكسول المرتاح المترهل من كثرة الاستسلام للبديهيات، الإنسان صاحب الفكر «الكنباوى» الذى لا يتحرك من كنبته إلا لينتقل إلى كنبة أخرى، ربما نكون قد غادرنا العصر الحجرى جسداً لكننا لم نغادره روحاً وفكراً، تفكير ما قبل التاريخ ما زال بصحة جيدة، وما زالت لياقته بخير، فنحن ما زلنا نصدق فى السحر والأعمال السفلية والرقية الشرعية والأشباح والعفاريت.. إلخ، ومع كل هذا التقدم العلمى وبرغم كل أفضال ونعم العلم التى نعيش فيها والتى تسهم فى رفاهيتنا، ما زلنا لم نسأل أنفسنا سؤالاً سهلاً جداً بل ساذجاً جداً والمصيبة أننا نتهرب من إجابته، السؤال هو: ماذا أفاد الدنيا والعالم الطب البديل وعلاجات الطاقة والأشكال الهندسية والرقية الشرعية والطب الدينى وحبة البركة والبردقوش وبول الإبل والمياه المقدسة.. إلخ؟، هل تلك الممارسات هى التى أفادت وأنقذت البشرية أم الطب القائم على الدليل؟، هل الطب البديل هو الذى أنقذ شرايين قلبك بالقسطرة؟، هل الرقية الشرعية وبول الإبل والطاقة هى التى اخترعت السوفالدى ولقاحات شلل الأطفال وحقن الأنسولين وقضت على الجدرى والطاعون واخترعت البنسلين والفياجرا؟!
الكارثة أن تكون تلك البصمات العلمية الواضحة مطبوعة على كل خلية فيك وأنت ما زلت تحتمى بالسحر والخرافة، ولا تشك مجرد شك فى جدوى ونفع تلك الأشياء، بل المصيبة أنك تهرول إليها، يصف «هاريسون» الشك بأنه غذاء الدماغ المثالى، يزيل كوليسترول الخرافة، الشك يحررنا بحيث نكرس أنفسنا لأشياء حقيقية وأناس حقيقيين، لكنه ينصحنا بالرفق مع الجهلة المؤمنين بتلك الخرافات والمقاومين للشك، لا تغضب من مريض السرطان بل اغضب من السرطان نفسه، من الفكرة ذاتها لا ممن يؤمن بها، نصيحتى إذا كنت مراهقاً لا تقبل أن تكون روبوتاً مبرمجاً من قبل الكبار، فى حيازتك دماغ قوى ومن الممكن والعادى جداً أن يكون هؤلاء الكبار على خطأ، وإذا كنت قد تجاوزت تلك المرحلة، فلا تعتقد أنه قد فات أوان التشكك وتغيير طريقة تفكيرك المستسلمة الخانعة الخاضعة، فالأكثر أهمية من احترام الكبير والأستاذ هو احترام الذات، الاحترام الأول مطلوب لكن الاحترام الثانى مطلوب أكثر، فهو فرض عين، جرب الشك ولو فى السر، ولو بينك وبين نفسك، فهذا أفضل من أن تعيش عمرك بلا لحظة شك أو دون عرض ما يطلق عليه ثوابت وبديهيات على طاولة التشريح والبحث والسؤال، حاول بقصارى جهدك ألا تضيع دقيقة واحدة من عمرك على أكاذيب وخرافات لا عقلانية، بلغة العامية المصرية «ماتهزأش عقلك»، لم يعد هناك وقت ولم نعد نتحمل رفاهية الانتظار على شاطئ الخرافة، بالتأكيد فى رحلة شكك ستتعثر وتؤمن بقليل من الأشياء الغبية على طول الطريق، هذا أمر لا مفر منه، ونحن جميعاً نقع فيه، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، ليست هناك مشكلة فى أن توجد أوهام وليس معنى أن تكون متشككاً أن تصبح خصماً للخيال، بالطبع لا، إنما هناك مشكلة أن أروِّج وأعمل دعاية للمزور والزائف على أنه حقيقى، المهم أن تكون لدى الرؤية والبصيرة أن أحدد الخط الفاصل أين يبدأ هذا وأين ينتهى ذاك؟
لا بد أن تواجه نفسك بجدية إلى من سأنتمى؟، إلى معسكر العلم أم الخرافة؟، إلى علم الفلك أم التنجيم؟، إلى الطب القائم على الدليل أم الطب البديل؟، إجابتك ستحدد مستقبلك.
«انس عينيك.. دماغك هى التى ترى»، جملة مهمة لا بد أن تتذكرها إذا كنت تريد أن تكون متشككاً جيداً، يقول «هاريسون»، مؤلف كتاب «لماذا يجب عليك التشكيك؟»، إن فى داخلنا يعيش شخص غريب الأطوار اسمه الدماغ، ولا يجب أن نثق بأنه يفعل الأشياء الجيدة فقط، من ضمن الأشياء التى لا يجب أن تراهن عليها الذاكرة، تذكر أنك لا بد ألا تثق بذاكرتك!، الذاكرة من صنع هذا الشخص غريب الأطوار، الدماغ، فذكرياتك هى عبارة عن دفعات من المعلومات، التى جمعها الدماغ لكى تكون فى خدمتك، الذاكرة لها قيمة وظيفية ليست على رأس أولوياتها الدقة المتناهية، فالدماغ عندما يتذكر لا يعمل مثل كاميرا الفيديو التوثيقية، ولا يوجد مثل هذا القرص الصلب الذى يسجل بالهمسة واللمسة واللفتة، ولكن الدماغ يتصرف مثل عالم الآثار الذى ينقب عن الحفريات تحت طبقات الرمل، جزء من هنا على جزء من هناك، يكمل هو الفراغات والتجويفات التى سقطت، إنه البازل غير المكتمل، دماغك وذاكرتك لا يصنعان فيلم فيديو خام دون تدخل، دماغك يصنع فيلماً تسجيلياً تدخل فيه الدراما، دماغك يقتبس الواقع كما يكتسب الكتاب الفلانى أو الرواية العلانية بتصرف!، دماغنا يميل للعثور على الأنماط والنقاط المفقودة فى الصورة ويكملها هو، لذلك أنت تكمل صورة الشبح غير الموجود إلا فى خيالك تصوره إنساناً أو طبقاً طائراً أو أرنباً.. إلخ طبقاً لنظرية ربط النقاط تلك، باختصار أنت لا ترى إنما أنت تتصور، ولا يستطيع إنسان أن يلم بكل تفاصيل الصورة فى الوقت نفسه، يحدث لك عمى مؤقت عن بعض الأشياء فى الصورة، وهذا مفيد، وقد قام العلماء بتجربة سؤال بعض المشاهدين الذين طلب منهم التركيز فى عد التمريرات أثناء مباراة كرة سلة، بعدها سألوهم ما الشىء الغريب فى الصورة؟، لم يستطع أحد الإجابة برغم أنه كانت هناك غوريلا جالسة فى المدرجات!!
للأسف دماغك يتحيز للأدلة التى تدعم ما هو مخزن داخله من معتقدات، والتى من الممكن أن تكون معتقدات كارثية فى تخلفها وتخريفها، نحن نعشق الحجج التى تتوافق مع أفكارنا وتحميها حماية لنا من الشك الذى نرتعب منه، الدماغ المؤمن بفكرة ثابتة سيضرب الحصار على نفسه كقلعة قديمة محصنة وسيرفع الجسر المتحرك حتى لا تتسلل الأسئلة، وسيملأ المحيط الذى حول القلعة بالتماسيح، إنه سيدافع عن جدران فكرته حتى آخر نفس، هناك عشرات التحيزات التى تعطل دماغك عن الشك الإيجابى، وتجعلك تقع بسهولة فى فخاخ أفكار الخرافة، تحيز الفكرة الواحدة وإدمان إسقاط مرساة قاربنا فى وحل الماضى، تحيز الاحتكام للسلطة، تحيز الاحتكام للجهل، لأنه ما دام سائداً فلا بد أنه صحيح، تحيز التكرار والإلحاح الذى يزيف الحقائق ويخدر المتلقى، التحيز العاطفى.. إلخ، مجموعة تحيزات تجعلك مرتعشاً من فكرة أن تكون شكاكاً محترفاً، لذلك معركة تكوين المواطن الشكاك، وهو بالطبع مواطن غير صالح من وجهة نظر الكبير والسلطوى، ورجل الدين وأستاذ المادة وواضع المنهج ومدرس الفصل، هذه المعركة أصعب معاركنا الثقافية والسياسية والاجتماعية.