يهان العقل عندما يراد له أن لا يكون نقدياً. يكون العقل نقدياً عندما يكون فردياً لا يستسلم للجماعة، عندما لا يكون مستكيناً، عندما لا يكون مستريحاً، عندما لا يكون ساخراً، عندما لا يضع الوقائع في سياقها، عندما لا يفكك كل رواية للأحداث، عندما يقبل بما يوحى إليه من وسائل الإعلام.
نحتاج للعقل النقدي أكثر من أية فترة أخرى. تمر أمتنا بمرحلة ثورية. الأحداث سريعة. تمطرنا وسائل الإعلام، وهي كثيرة، بالمعلومات. تصلنا المعلومات وكأنها حيادية، يقولون إنها تعكس الوقائع، وكأنها لا تعكس رواية المراسلين، كاشفي المعلومات عن مصائرنا، أو كأنها تعكس حقائق موضوعية لا وجهات نظر مسبقة. يُترك لنا أن نميز بين ما هو موضوعي وما هو مملى علينا، يترك لنا أن نتوهم بأن وسائل الإعلام تفسح لنا المجال كي نختار ونركب نحن روايتنا عن الأحداث، كي نقرر نحن ماهية سياق الأحداث.
ينعشنا هذا الوهم؛ يدفع بنا إلى المزيد في التتبع لنتوهم أننا أحرار. أمام الشاشات، مع مزيد من المتابعة، تزداد اللذة لدينا بأننا أحرار. لكن للتحرر شروطا. أولها التحرر من كل سلطة تملي سياقاً. كي نكتشف السياقات التي يراد إملاؤها علينا، يتوجب أن يكون عقلنا نقدياً.
العقل المستكين يخضع لأية سلطة، المهم أن تكون السلطة من خارجه. هو عقل يرفض الوثوق بنفسه. العقل المستريح يمتنع عن بذل الجهد من أجل اكتشاف «ما وراء الحدث»؛ هو عقل كسول يتلقى ما يصله، لا يسعى من أجل الفهم بوضع سياق للأحداث. العقل المستريح يرفض السعي وبذل الجهد. العقل الساخر يرى تشابهاً في الأحداث عندما تكون مختلفة، ويرى اختلافاً فيها عندما تكون متشابهة. العقل الساخر يشكك، لا يهتم باليقين، يكره اليقين، يرى في اليقين استسلاماً. ليس العقل الساخر كالعقل الهازل. لا يهتم العقل الهازل بتدمير المسلمات من أجل الفهم، بقدر ما يهتم بتدمير مسلمات الخصم من أجل إنقاذ ما يعتقده صحيحاً. العقل الهازل هو عقل مستريح مع ابتسامة، أو محاولة إيثار الضحك. العقل التفكيكي لا يقبل رواية أو حقيقة إلا ولديه عكسها، يدمر كل الحقائق من أجل أن يبقى لديه ما لديه. يبدو العقل التفكيكي تحليلياً، لكنه بعد التحليل (التفكيك) لا يبقى لديه شيء يتمسك به. العقل التفكيكي لا يحلل الأفكار (الوقائع) ويشلعها من أجل إعادة تركيبها. لا يهمه الجمع والتركيب؛ يترك الحقل مليئاً بالجثث، وهذا ما يستحث السرور لديه.
نحتاج إلى جميع هذه التنويعات. الخطورة هي عندما يتشكل العقل في واحدة منها دون الأخريات. وهذا ما تريده منا السلطة، سلطة الأمر الواقع أو سلطة المعرفة، السلطة التي تمتلك زمام الأمور. ليس عند العرب سلطة تمتلك زمام الأمور. السلطة تقبع في مكان آخر غير عربي. يجب أن نتذكر أننا ما نزال نعيش عصراً إمبريالياً. في منطقة ترزح أجزاء منها تحت الاحتلال المباشر، وتخضع أجزاء منها لاقتلاع شعب من أرضه، وتُمارس على بقيتها أشكال أخرى من السيطرة الأقل وحشية. لا يمكننا أن نفكر أننا ما نزال في عصر إمبريالي. بعضنا ينكر ذلك. كل من يمارسون النقد الحداثي للمجتمع، كل من يمارسون النقد الثقافي والاجتماعي ينكرون ذلك. الأنظمة ألغت السياسة، وهم ينكرون السياسة لصالح النقد الاجتماعي والثقافي. علينا التذكر أننا ما نزال نعيش عصر الامبريالية، وثورتنا هي الأقرب إلى ثورة تحرر وطنية ضد سيطرة أجنبية وأنظمة تابعة معها. لذلك فهي حرب قومية عربية وإن بدت أحياناً إسلامية.
قامت الثورات العربية. حدثت الثورة حتى في الأقطار العربية التي لم تسقط أنظمتها؛ حتى التي منها رشت شعوبها بأكثر من 130 مليار دولار ستسقط؛ والتي حققت إنجازات أمنية على شعوبها، ستجد أن الأمر قصير المدى؛ والتي دخلت جيوش أخرى لقمعها، ستجد أن للصبر حدودا. المهم أن الثورات العربية حدثت، وحدوثها يعلمنا أن عند الشعب العربي حسا نقديا، وأن هذا العقل النقدي أدى به إلى أن لا ينساق وراء الدعايات ومختلف وسائل الإعلام، وأن يمحص هذه المعلومات التي ترده. حافظ على قضيته أو قضاياه، وهو واجه النظام بقضاياه التي هي ليست شعارات صاغتها وسائل الإعلام.
تعمل بوجه الثورة العربية قوى الثورة المضادة والمؤامرات. الثورات المضادة تقودها أنظمة عربية وأنظمة محلية تعتقد أنها تستطيع أن تعتمد على مؤسسات العهد البائد، وتستخدم المال المتوفر لديها. والمؤامرات تعتبر أنها تستطيع استخدام قوى أمنية موازية لمواجهة الثورة. ستعرف شعوبنا كيف تتصدى لهؤلاء وكيف تنتصر عليهم. المهم هو أن تبقى الثورة سلمية، وأن تبقى مستمرة، وأن لا يتكرر ما حدث في ليبيا. كل تدخل خارجي مرفوض. وكل تدخل خارجي يدخل في إطار المؤامرة على الثورة. وإذا كانت أنظمة عربية لم تفهم بعد معنى الثورة ومآلاتها فإن عليها أن تلوم نفسها. هذه ثورة تعبر عن مزاج عربي لم يعد يحمل الأوضاع القائمة، ثورة ضد حالة بمجملها، ليست ضد نظام معين، أو طائفة أو إثنية أو قومية محلية. اختار العرب أن يعيشوا حياة أخرى، ولا أحد يمكن أن يلومهم على ذلك. لن نتوقع أن تنتهي الثورة في غضون أيام أو أسابيع أو شهور؛ ربما دامت سنوات. المهم أن يجري تدمير كل المؤسسات القائمة للنظام القديم وأن تنتقل الثورة حيث نجحت إلى مطالب العدالة الاجتماعية وإلى المطالب القومية التي تشمل، في مصر، إلغاء كامب دايفيد.
لم تتوقع النخب الثقافية، ولا السياسية، حدوث الثورة؛ كما حدثت وعندما حدثت. وهي لا يحق لها الحلول مكان جماهير الشعب في حركتها، وإن كان عليها واجب أن تلحق الجمهور وأن تصوغ وجدانه ومشاعره ومطالبه في برامج عملية. ستكون العملية، عملية ثورة طويلة، لكن لا بد من صنعها وإن طال السفر.