أفاد أحد المتخصصين اللبنانيين في القانون الدولي خلال برنامج تلفزيوني (2/12/2008)، تم اعداده حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بأنه لا يمكن تنفيذ الحكم الذي قد يصدر عن المحكمة الجزائية الدولية الخاصة بلبنان أو عن اي محكمة جزائية دولية أخرى بحق رئيس دولة ما طالما ان الرئيس المحكوم عليه ما زال يمارس وظائفه الرئاسية وقت صدور هذا الحكم،
وذلك كونه يتمتع بالحصانة القضائية.
ان هذا الكلام، في حال ثبتت صحته، يعتبر مناقضا تماما لكل قواعد القانون الدولي الجزائي ولأنظمة المحاكم الجزائية الدولية. فعلى الرغم من الحصانة الديبلوماسية التي يتمتع بها الرئيس (بموجب اتفاق فيينا الدولي)، والحصانة الجزائية العادية التي تؤكّد على حقه في الانتفاع منها القرارات المتخذة من قبل المعهد الدولي لحقوق الانسان (التابع للأمم المتحدة) في مؤتمره المنعقد في همبورغ عام 1891، ومؤتمره المنعقد في اكس أون بروفانس لعام 1954، ومؤتمره المنعقد في بال عام 1991، لا يتمتع رئيس الدولة، وان كان يمارس مهماته الرئاسية، وقت حصول المحاكمة أو عند صدور الحكم الجزائي بحقه، بأي حصانة جزائية في وجه المحاكم الجزائية الدولية . فهو، وفقا لقرار مؤتمر المعهد الدولي لحقوق الانسان، المنعقد في العام 2001 في فانكوفير يتمتع بحصانة جزائية عادية فيما خص الجرائم المنسوبة اليه أو المحكوم عليه بها والتي لا توصف بالجرائم الدولية. في هذه الحال، لا يمكن توقيفه أو القاء القبض عليه أو ملاحقته جزائيا أو تنفيذ حكم جزائي كان قد صدر بحقه من قبل، وعلى الدولة التي يتواجد على اراضيها (اي دولة) أن تؤّمن حمايته وأن تدعه يتمتع بحصانته الجزائية هذه. وهذا يعني أن حصانة الرئيس تقوم أمام قضاء دولة أخرى، وليس أمام المحاكم الجزائية الدولية. فالمادة 11 من القرار الصادر عن هذا المؤتمر الأخير تفيد بأن هذه الحصانة لا يصلح الدفع بها، ولا يمكن تطبيقها ازاء:
1- الموجبات المستقاة من ميثاق الأمم المتحدة.
2- الموجبات المنصوص عليها في المحاكم الجزائية الدولية الخاصة والمحكمة الجزائية الدولية الدائمة.
وتضيف المادة ذاتها بأن حصانة الرئيس الجزائية لا تحميه من المحاكمة أمام المحاكم الجزائية الدولية ولا يمكن الدفع بها في وجه اختصاص هذه المحاكم على أنواعها. كما لا يمكن الدفع بها لمنع تطبيق القواعد والأصول المتعلقة بمحاكمة الجرائم الدولية اي الجرائم التي تحمل اعتداء على الأمن والسلم الدوليين (الجرائم ضد الانسانية، الابادة الجماعية، جرائم الحرب والجرائم الارهابية التي قرر مجلس الأمن أنها تحمل اعتداء على الأمن والسلم الدوليين كجريمة اغتيال الرئيس الحريري).
وفي السياق عينه، نصت معاهدة فرساي الموقعة في العام 1919 على أن حصانة رؤساء الدول ليست حصانة مطلقة، وهي تسقط اذا ما وجّهت الى الرئيس القائم بوظائفه تهما بارتكاب جرائم دولية. كذلك فان أنظمة المحاكم الجزائية الدولية الخاصة، لاسيما المحكمة الجزائية الدولية الخاصة برواندا (م6 (4))، والمحكمة الجزائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة (م. 7 (4)) تنص على أن صفة رئيس الدولة لا تشكل اي عائق في وجه ملاحقة ومحاكمة الشخص، صاحب هذه الصفة وقت الملاحقة او قبلها، بجرائم ضد الانسانية أو بجرائم حرب وابادة جماعية. وهذا ما نصت عليه ايضا المادة 27 من نظام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة المنشأة بموجب اتفاق روما الموقّع بتاريخ 17 تموز سنة 1998.
يشار ايضا الى أن المشترع الفرنسي عدّل أحكام الدستور الفرنسي الذي يمنح الرئيس الفرنسي حصانة جزائية مطلقة اثناء قيامة بوظائفه، بشكل لا يمكن معه تطبيق هذه الحصانة في حال اسندت الى الرئيس جرائم تدخل في حقل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية الدائمة (م 53-2 من الدستور الفرنسي). ولم تتمكّن الحكومة الفرنسية من المصادقة على اتفاقية روما الا بعد أن تم وضع حد لحصانة الرئيس بموجب المادة 53-2 الجديدة من الدستور الفرنسي، وذلك على أثر قرار المجلس الدستوري الفرنسي الصادر بتاريخ 22 كانون الثاني سنة 1999 والذي قضى بضرورة تعديل الدستور لامكان المصادقة على اتفاق روما الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.
وتؤكّد المادة الثالثة ( الفقرة الثانية) من نظام المحكمة الجزائية الدولية الخاصة بلبنان على عدم الأخذ بالحصانات الرئاسية أمامها بنصها أنه " في ما يتعلق بعلاقة الرئيس بالمرؤوس، يتحمّل الرئيس المسؤولية الجنائية عن اي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة 2 من هذا النظام الأساسي والتي يرتكبها العاملون تحت سلطته وسيطرته الفعليتين، كنتيجة فشله في السيطرة على هؤلاء الأشخاص حيث:
أ- الرئيس، اما عرف، أو تجاهل معرفة معلومات اشارت بوضوح الى أن العاملين تحت سلطته كانوا يرتكبون أو كانوا على وشك ارتكاب مثل هذه الجرائم.
ب- الجرائم متعلقة بنشاطات كانت تحت مسؤولية الرئيس الفعلية ورقابته ولم يتخذ (الرئيس) كل الاجراءات الضرورية والمعقولة التي تدخل ضمن اطار سلطته لمنع أو تفادي ارتكابهم الجريمة أو لرفع القضية للسلطات المعنية بهدف اجراء التحقيقات ومحاكمة المجرمين...".
وينتج من هذه الأحكام ان النظام الأساسي للمحكمة الجزائية الدولية الخاصة بلبنان لا يقيم اي اعتبار لحصانة الرؤساء، ليس فقط في حال تبيّن ضلوعهم مباشرة بارتكاب الجريمة الداخلة في اختصاص هذه المحكمة (جريمة اغتيال الرئيس الحريري) أو الجرائم الأخرى المرتبطة بها عن طريق التخطيط لها أو اعطاء الأوامر بارتكابها، وانما ايضا في حال تبيّن أنهم ارتكبوا عملا تقصيريا يكمن في عدم التدخل لمنع ارتكاب الجريمة أو الجرائم المذكورة اذا كانوا (أو كان) على علم بالتحضير لهذه الجرائم، أو اذا كانت الجرائم المرتكبة تتعلق بنشاطات الرئيس الفعلية وتقع تحت رقابته الفعلية، أو ايضا اذا لم يتخذ الرئيس أو (الرؤساء) كل الاجراءات اللازمة أو الضرورية والمعقولة التي تدخل ضمن سلطاتهم لمنع أو تفادي ارتكاب الجريمة أو لرفع القضية لسلطات التحقيق المختصة.
وللتأكيد على ان رؤساء الدول الذين توجّه اليهم تهم ارتكاب جرائم دولية لا يتمتعون ولا ينتفعون من اي حصانة قضائية جزائية أمام المحاكم الجزائية الدولية، يذكر أن كبير المدعين العامين في المحكمة الجنائية الدولية، لويس مورينو أوكامبو، كان قد طلب بتاريخ 14 يوليو/ تموز 2008 من غرفة ما قبل المحاكمة التابعة للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي تنظر في جرائم الحرب والجنايات ضد الانسانية والابادة الجماعية المرتكبة في دارفور أن تصدر مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر البشير تتضمن عشر تهم تتعلق بالإبادة الجماعية وبجرائم ضد الإنسانية وبجرائم حرب. وقالت منظمة العفو الدولية إن الإعلان شكَّل "خطوة مهمة نحو ضمان المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان في السودان". وسيقوم قضاة غرفة ما قبل المحاكمة بتفحص طلب المدعي العام للمحكمة. وسيقررون ما إذا كانت هناك "مسوغات معقولة للاعتقاد" بأن الرئيس السوداني يمكن أن يكون قد ارتكب جرائم تتصل بالإبادة الجماعية أو جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. وإذا ما كان توقيفه ضرورياً لضمان ظهوره في المحاكمة، أو لوقفه عن تعريض التحقيقات للخطر، أو لمنعه من ارتكاب المزيد من الجرائم، فمن الجائز اذا أن تصدر المحكمة مذكرة توقيف بحقه.
وبالتأسيس على كل ما ورد اعلاه تجوز الملاحقة الجزائية ضد رئيس اي دولة أمام قضاء جزائي دولي خاص أو امام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة (اذا ما توفّرت شروط الملاحقة القانونية)، بجرائم دولية، وحتى اصدار مذكرة توقيف بحقه من دون ان تشكّل حصانة رؤساء الدول التي يتمتّع بها وفقا للقانون الدولي العام اي عائق في وجه الملاحقة أو التوقيف. ولهذا فاذا كان يجوز تنفيذ هذه الاجراءات الجزائية ضد رؤساء الدول أثناء قيامهم بوظائفهم الرئاسية، يكون من الممكن ايضا منطقيا وقانونيا ( ووفقا لأحكام القانون الدولي الانساني) تنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم حتى في الوقت الذي يقومون فيه بمهماتهم أو بوظائفهم الرئاسية.
هذا من الناحية القانونية البحتة. أما من الناحية العملية، واذا لم تتمكن آليات المحكمة الجزائية الدولية (الأنتربول الدولي على سبيل المثال، أو التعاون الدولي الذي يقع على عاتق كل دولة عملا بالمادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة) من تنفيذ الأحكام الصادرة عنها بحق الرئيس أو الرؤساء المعنيين المحكوم عليهم، فتحال القضية الى مجلس الأمن في الأمم المتحدة كون المحكمة الجزائية الدولية مؤسسة من مؤسسات الأمم المتحدة، منشأة بموجب الفصل السابع من ميثاق هذه المرجعية الدولية الأولى، ويقع تاليا على عاتق مجلس الأمن اتخاذ القرار المناسب في شأن تنفيذ الحكم الصادر عن المحكمة الدولية المختصة . وتكون من صلاحيات مجلس الأمن تطبيق عقوبات اقتصادية ومالية وسياسية (قطع العلاقات الديبلوماسية، وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها...، (م41) بحق الدولة المتخلفة عن تنفيذ الحكم المذكور عملا بالفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. كما يجوز لمجلس الأمن اللجوء الى استعمال القوة (م42) من أجل تنفيذ الحكم المشار اليه بحق الرئيس المتخلّف عن الامتثال لحيثياته الحكمية، اذا ما رأى أن التدابير المنصوص عليها في المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة لا تفي بالغرض أو ثبت له أنها غير فعّالة أو كافية. وفي هذه الحال بالذات يمكن أن تلعب السياسة دورا بارزا، ويخضع تاليا موضوع تنفيذ الحكم بحق الرئيس المحكوم عليه للتجاذبات والمساومات السياسية، وذلك بسبب الآلية المعتمدة لاتخاذ قرارات مجلس الأمن واستعمال حق النقض الفيتو، اذ ان اتخاذ القرار بتنفيذ الحكم يتطلب امتناع كل الدول الدائمي العضوية عن استعمال حق النقض الفيتو والحصول على غالبية تسعة اصوات من أعضائه.
نكتفي حاليا بهذا القدر من التوضيح العلمي، بانتظار انتهاء الدراسة المفصّلة التي نحن بصدد اعدادها حول حصانة الرؤساء في القانون الجزائي الدولي.
() استاذ محاضر في القانون الجزائي الدولي في جامعة روبير شومان فرنسا ومدير ابحاث في القانون الجزائي في الجامعات الفرنسية