ما استطعت أن أنسى المناسبةَ التي علمت يها بإعدام سيد قطب ي آخر سبتمبر عام 1966 رغم مضيّ السنوت الكثيرة عليها. ولا يعود ذاك التذكّر الحارق لأنني كنت متعاطاً مع الإخوان المسلمين؛ بل لأنني ما صدّقت يوماً أنّ سيّد قطب كان زعيماً لتنظيم سري يريد إسقاط النظام المصري. ثم للحملة البوليسية الشديدة التي تجددت بمصر بعد إعدامه. كنت وقتَها طالباً بالأزهر، بكلية أصول الدين، ومقيماً بالمدينة الجامعية التابعة للأزهر، المسمّاة بمدينة البعوث، لأنّ كلَّ ساكنيها تقريباً كانوا وقتَها من الأجانب، من البلاد العربية، وشرق آسيا، وإريقيا. بل كان معنا أيضاً طلاب أميركيون من المسلمين السود، قيل لي يما بعد إنّ مالكولم إكس أحضرهم للأزهر لتصحيح إسلامهم بعد ان تصحَّح إسلام هو.
صلَّينا الظهر بمسجد المدينة، وعدت إلى غرتي سمعت من الإذاعة المصرية خبر تن يذ حكم الإعدام بسيّد قطب. ما جرئت على الخروج للتحدث مع الآخرين حول الحدث؛ لكنّ الأارقة والآسيويين الأكبر سناً والأقلّ خواً منا نحن العرب كانوا يسمّوننا الشوام لأنّ أكثرنا من لسطين والأردنّ وسورية ولبنان) نزلوا إلى شوارع المدينة الجامعية لا للتظاهر؛ بل للتشاور ي تجمعاتصغيرة هامسة وساخطة. وي تلك الليلة والأيام التالية انتشرت الشائعات عن مئات قبض عليهم ورحّلوا إلى بلدانهم، وألغيت منحهم الدراسية. أما نحن الشوام قد استدعونا للاتحاد الاشتراكي (قسم العلاقات العربية) وراحوا يحاضرون ينا عن شرور الإخوان المسلمين، ومؤامراتهم السوداء. وما كان الإقناع عسيراً أو قسْرياً. قد تربينا بالمعهد الديني ببيروت على كراهية الحزبية باسم الإسلام، وكانت صورة الرئيس جمال عبد الناصر تملأ علينا دنيانا، كما أنَّ الإخوان المسلمين ـ وغالبية قياداتهم ليست أزهرية ـ بَدَوا لنا غرَباء ي جوّ التربية السنية التقليدية والإصلاحية على حد سواء. هم تنظيمٌ سري، وهم يقولون بالعني مواجهة النظام، وهم يريدون تطبيق حكم الله ي الأرض لكي يستقرَّ إيمان الناس وإسلامهم كأنّما هم غير مسلمين إلاّ بالدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة على طريقتهم! وما كانت الأجيال الشابّة من طلبة مدينة البعوث تعرالكثير عن الإخوان، لأنّ كتاباتهم محظورة ـ ربما باستثناء اللبنانيين والأردنيين. ي لبنان كنا نعر كتابات الإخوان وشخصياتهم ي مصر وسورية جيداً، لأنّ كتب الإخوان؛وبخاصة كتابات سيّد قطب كانت تطبع ببيروت، كما أنّ عدداً من شخصياتهم كانوا يقيمون بلبنان أو يأتون إليه ي الصي للاجتماع والتشاور؛ وبخاصة بعد أن حظرَ التنظيم ولوحق بسورية أيضاً بعد انقلاب العام 1963. أمّا الأردنّ قد كان البلد العربي الوحيد تقريباً الذي للإخوان يه تنظيمٌ مشروعٌ وصديقٌ للنظام؛ ولذلك قد كانت كتبهم متداوَلة، كما أنّ إعدام سيّد قطب زاد من حملات الإخوان العَلَنية على النظام المصري، كما أخبرنا زملاؤنا الأردنيون العائدون إلى الأزهر بعد العطلة الصيية. وقد علمت يما بعد أيضاً من المتي الشيخ حسن خالد أنّ الرئيس عبد السلام عاروالملك يصل وبعض مسؤولي الدول الإسلامية، تدخلوا لدى الرئيس جمال عبد الناصر لإيقا إعدام سيد قطب وزملائه دون جدوى.أمّا أنا ما كانت لي قصةٌ مع الإخوان سلباً أو إيجاباً لا قبل إعدام سيد قطب ولا بعده. بل كانت لي قصةٌ مع سيد قطب أو كتاباته بالذات. والواقع أنني ما كنت أعر من كتابات الإسلاميين الجدد وقتها غير بعض كتب محمد الغزالي وي ظلال القرآن» و«معالم ي الطريق» لسيّد قطب. قرأتي ظلال القرآن» بمجلداته الثمانية مرتين ي صي? القرية بجبل لبنان. وقد تنني يه ذلك البيان الرائع، كما تنني اعتبار القرآن كتاباً سياسياً إلى أبعد الحدود. وي خري العام 1965 ـ يما أظنّ ـ أعارني زميلٌ سوريٌّ كتيب «معالم ي الطريق» (وكان سيد قطب قد عاد إلى السجن) قرأتهي ليلة واحدة، ثم قرأته مرة ثانيةً ي اليوم التالي (ما زلت أذكر أنه كان يومَ أحد) وأعدْته لصاحبه يومَ الإثنين عندما نزلْت من جديد من الجبل إلى بيروت. كان صديقي متوتراً ويريد أن يعر رأيي مع أنه لم يَدْعني صراحةً للانضمام للإخوان (ما كنت أعر يومَها على أي حال أنّ إسلاميين لبنانيين أنشأوا تنظيماً إسلامياً إخوانياً عام 1962 أو 1963 ي انشقاق عن جماعة عباد الرحمن وسمَّوه يومَها أو يما بعد: الجماعة الإسلامية). وبدأت معه بدايةً أكاديمةً ضاق بها ذرعاً. قلت له إنني اكتشت أنّ أكثر صول الكتيّب (باستثناء المقدمة) منتزعة من كتاب ي ظلال القرآن». ثم بدأت أذكر أرقام الصحات ي الكتابين وكنت قد سجلتها على ورقة اخرجتها من جيبي. وان عل الصديق وقال إنّ ذلك غير صحيح، ثم غيَّر تكتيكَه قائلاً: ليس عن هذا أسألك، بل عن رأيك ي الكتاب! وقلت له: لقد أعجبتني مسألة الرؤية الشاملة أو أنّ الإسلام يملك رؤيةً شاملةً للوجود والعالم والإنسان والدولة، وقد سمّاها سيّد قطب: الحاكمية. بيد أنه يعتبر أنّ هذه الرؤية تستتبع وعياً أو حركةً يخرج بمقتضاها «التية الذين آمنوا بربّهم» من مجتمعات العامّة التي سقطت ي وهاد الجاهلية لإحساسهم بالغربة، يعدّون ويستعدّون ثم يعودون لاقتحام عالَم جاهلية هذا القرن وتحقيق الحاكمية أو تطبيق الشريعة. وسارع الصديق للقول: هذا صحيح، ما الذي يزعجك ي هذا التصور، هل هو التحزّب؟! كلّ كرة لا حزبَ لها تضيع. إنّ كلَّ كرةي هذا العالَم لا تكتسب جديةً إلاّ إذا كان لها حزبٌ يسعى لتطبيقها، من الرأسماليين وإلى الماركسيين والقوميين، ألا يستحقّ الإسلام أن يكونَ له حزب؟! وتحيرتي الإجابة؛ وبخاصة أنّ كتب الغزالي و«ي ظلال القرآن» كانت قد أقنعتني أنَّ الإسلام لا يملك رؤيةً قط؛ بل إنما يملك أيضاً مذهباً سياسياً أو مشروعاً سياسياً. ثم قلت متردداً: المشكلة أنّ الحزب عند سيد قطب هو انشقاقٌ عن العامة الضالة أو المستسلمة للجاهلية أو غير الواعية، أو بعبارة خرى إنه يضع الشريعة ي مواجهة الجماعة، وعند أهل السنة ونحن منهم: ينتهي الدين والعالَم وتقوم القيامة إذا انتهت الجماعة! ذلك أنّ الدين والقرآن والشريعة تقوم كلّها ي «جماعة المسلمين»، ولا أستطيع تصوّرَ القرآن أو الشريعة عائدةً الآن لإنقاذ الجماعة من الجاهلية، وإلاّ ما معنى هذه السيرورة التاريخية كلَّها بل ما معنى الرسالة المحمدية إذا كانت الجاهلية قد غمرت بظلماتها من جديد ليس العالَم قط؛ بل ومجتمعات المسلمين أيضاً. وبدا الصديق يائساً من كسْبي، وما أعاد ذلك إلى قلة الهم أو سوئه؛ بل إلى الجبْن المتحكّم بحيث لا أتصور إمكان الخروج على المألو حتى لا يصيبني ما أصاب أبطالَ الإخوان المسلمين على أيدي النظام الملكي المصري والنظام الناصري والآن (عام 65/66) النظام البعثي السوري! وما عدت للحديث ي الأمر مع ذاك الصديق ولا مع الآخرين طوال مدة دراستي بمصر (حتى العام 1971)، ولا كرّت بعدها بالانضمام للإخوان أو لأي حزب آَخر. لكنني ظللت مقتنعاً أنّ سيد قطب ظلم، وما كان ينبغي أن يسجن أو يعدم. الرجل الذي يكتب ي ظلال القرآن»، مثقٌ كبيرٌ، وكاتبٌ كبيرٌ وملتزمٌ، وهذه هي رسالة المثق والداعية: التعبير بأقصى درجات الإقناع عن رأْيه. وما دام لم يحملْ سلاحاً ضد النظام، ليس من حقّ التصدي لحريته ي التقدير والتعبير.عر الإخوان المسلمون العرب علماءَ كثيرين وأساتذةً ودعاةً وخطباء عظاماً ي صوهم. لكنهم لم يعروا باستثناء سيّد قطب كاتباً كبيراً. وأطروحة الحاكمية ليست له بل هي لأبي الأعلى المودودي، زعيم «الجماعة الإسلامية» ي باكستان. لكنه أسَهَم ي الحركة الإسلامية الجديدة إسهاماً بارزاً بأطروحة: الرؤية الشاملة، التي كانت شرطاً ضرورياً لمقولة وعقيدة الدولة الإسلامية التي تجاوزت التشبّثَ بالنظرية التقليدية للخلاة الإسلامية التاريخية التي ما يزال «حزب التحرير» يصرّ عليها. ونعر من كتاب «عاة لا قَضاة» أنّ شيوخ الإخوان ترددوا ي قَبول الإحيائية القطبية، لاعتقادهم أنّ هذا الاندغام بين الدين والدولة لدى سيد قطب يضرّبالإسلام، ويؤدي إلى تشرذم المسلمين، والدخول ي معارك لا تنتهي مع كل الأنظمة السياسية. وهذا مهوم. الرؤيوية القطبية انقلابيةٌ بكلّ معنى الكلمة، لأنّ «التية الذين آمنوا بربّهم» (حسبما ورد بسورة الكه)، أي القلة الحزبية القائلة بالحاكمية، منوطٌ بها تحقيق التكلي الإلهي، بالانداع بعد الإعداد والاستعداد، لإسقاط حكم الجاهلية، وإقامة حكم الله ي الأرض. وهذا يترتب عليه أمرٌ ثالث بعد الرؤية والتكلي الانقلابي هو: استخدام العن(ضد النظام أو ضدّ الجاهلية كلها؟!). وهذا التصوّر النظريّ كلّه مؤسّسٌ عند سيد قطب على القرآن ولا شيء أو نصَّ غيره. وقد أَثَّر نصّه العني، كما أثّر إعدامه ي ئات واسعة من الشبان ذوي الثقاة الدينية الأولية، والذين سحرهم بيانه أيضاً. و لي صديقٌ مصريٌّ تأثير أسلوب سيد قطب عليه بأنه مثل قرع الطبول التي تستثير كل أجزاء الجسم، لا تستطيع بعدها الجلوس أو رمي الكتاب. ثم إنك تشعر أنه يخاطبك أنت بالذات، وأنّ عليك الاستجابة أو لا تكون ذا مهمة خاصةي هذا العالم. وقد انصبَّ تأثيره على كهول الإسلاميين خارجَ مصر. ولذلك قد استمرَّ مَضْغ كاره الأساسية من العرب وبعض المصريين حتى أواسط الثمانينات من القرن الماضي، ليتوارى ذلك التأثير العامّ تدريجياً دون أن يخلّ أثراً كانت ثورية سيد قطب ثوريةً تأصيليةً وإحيائية. ولها مصدران، الأول القراءة البيانية والأيديولوجية الجديدة للنصّ القرآني. والثاني كراهية الغرب والتغريب بدواع طهرانية عنية. ولذلك قد شكَّل نصّه قطيعةً مع التقليدية السنية المستسلمة أو الوادعة، كما شكلَّ قطيعةً مع الإصلاحية الإسلامية الجديدة. نوره من الإصلاحيين واضح الأسباب وهو تلوّثهم بثقاة الغرب المدنَّسة. أما التقليديةَعلّتها عنده جمودها وخضوعها للأعرا والعادات الخانعة وللسلطات. بيد أنّ هذا التأثير الثوريَّ الأوَّليَّ لم يتجذرْ ويستمرّ لثلاثة أسباب؛ الأول ويتعلَّق بشيوخ الإخوان الذين رأوا ي ثورية قطب تهديداً للعلاقات مع الجمهور، وصداماً مستمراً مع السلطات. وكان هؤلاء وبتأثير عبد القادر عودة وسيّد قطب وغيرهما، قد طوَّروا مشروعاً سياسياً ثورياً له جانبان: جدالي، ضد الغرب والإصلاحيين والسلطات القائمة. والجانب الآخَر بنائي، ويتعلق بالمشاركة ي الأنظمة السياسية القائمة وصولاً لإقامة الدولة الإسلامية. وقد استخدم هؤلاء سيد قطب قليلاً ي الجانب الأول، الذي عندهم يه أدبيات كثيرة تنتي الحاجة معها على أي حال لقراءة الانتقائية والقديمة. أمّا ي الجانب البنائي ما أمكن استخدام نصوص قطب لصياغة مشروع سياسي؛ إذ الواضح عنده ضرورة هدم البناء القائم، أمّا ماذا يعل هؤلاء التية الذين آمنوا بربهم» بعد سقوط النظام أو نصدّعه؛ إنّ سيداً ما كان يملك إجابةً؛ بل إنه كان يرضها ويقول لمن يسأله عن البرنامج: إين هي برامج الذين سيطروا؟! عندما يصل الإسلاميون إلى السلطة سو ترون العجب العجاب! والسبب الثاني لضع تأثير قطب بعد مضيّ عقد السبعينات من القرن الماضي إقدام السلطات العني على سحق كلّ حركة تنتسب لسيد قطب، خواً من تجدّد ذكراه، ومن شيوع أيديولوجيا تك ير الدولة والمجتمع. والسبب الثالث أنّ سيداً ما كان عالماً بالقه ولا بالحديث. وقد شاعت ضمن جماعات العن الإسلامي بمصر التدقيقات القهية السلية. إذ يما عدا صالح سرية (من حزب التحرير؟) كان الثائرين الآخرين ذوي ميول سلية. والواضح أنّ سيداً ما كّر كثيراً بالنتائج المترتبة على الجاهلية المدَّعاة، وهل يعني ذلك تكير المجتمع والدولة ي عالم الإسلام أم لا؟ أمّا السليون الذين دخلوا على الإخوان المسلمين من المدخل القهي منذ السبعينات قد لجأوا لابن تيمية وابن كثير ي مسألتي التكير وإحلال الدم، وسيد قطب لا ييد ي شيء لهذه الناحية شكّل «بيان» سيد قطب رقعةً عنيةً جلبت شباناً كثيرين من خارج مصر، يحيث يمكن القول إنّ كلَّ حركة إسلامية مرت بمرحلة قطبية. ثم انصر الجميع عن المنظّر الأول للحاكمية ي المجال العربي. الدولتيون بادروا لتطوير مشروعهم للدولة استعداداً للوصول للسلطة أو لمشاركة السلطات القائمة. والسليون الذي انضمَّ إليهم ثوار حركة الجهاد، انصروا لمصارعة الكر العالمي بالوسائل الأمنية />والعسكرية؛ ناسين سيّد قطب أيضاً. ويراهن آخرون من غير الإسلاميين على بقاء نقده الأدبي السابق على إحيائية؛ ي حين يذهب برنارد لويس إلى أنّ سيداً سيبقى ي تاريخ الأصولية باعتباره المنظّر الأبلغ للعن باسم الإسلام .