مشكلة التخلف التي يعاني منها العالم الإسلامي هي أكبر مشكلة تعرقل سيره إلى الأمام وتضعه في خانة الدول المتخلفة التي لا تتحكم في زمام أمورها الاقتصادية لأنها لا تنتج شيئا، أو بحسب تعبير كارل ماركس "لا تنتج قيمة إضافية".
ولو وضع مشكلة التخلف ضمن نظرة شاملة متكاملة لحقق اقتصادا يمكنه من مواجهة الضرورات الداخلية والخارجية التي تحيط به. من هذا المنطلق عالج الباحث قادة بحيري في مؤلفه "محطات اقتصادية من فكر مالك بن نبي" نظرة المفكر الجزائري الراحل إلى الاقتصاد وما أضافه إليه من أفكار لها علاقة بعلم الاجتماع وسلوكات الأفراد وتصرفاتهم. -الكتاب: محطات اقتصادية من فكر مالك بن نبي -المؤلف: قادة بحيري -الصفحات: 187 -الناشر: دار الغرب للنشر والتوزيع، الجزائر الطبعة: الأولى/2006 واقع العالم الإسلامي بداية وعن الواقع الاقتصادي للدولة الإسلامية، يشير المؤلف إلى أن بن نبي يرى أن الدولة الإسلامية وجدت نفسها بعد نيلها الاستقلال السياسي بين خيارين اثنين: إما خيار الإباحية الرأسمالية أو خيار الاشتراكية، ظنا منها أنه لا يوجد خيار ثالث. وهذان الخياران لم يأتيا صدفة، بل صدرا عن قابليتها للاستعمار. لقد حصرت الدول العربية فكرها في هذين البديلين الاقتصاديين، ولو أنها فكرت قليلا بعيدا عن المصالح الشخصية التي تحكمت في قراراتها السياسية لوجدت الخيار الاقتصادي في حل ثالث. ولربما كان هذا الحل أفضل من مبادئ آدم سميث و أحكام كارل ماكس. وغداة الاستقلال مباشرة، وجد العالم الإسلامي اقتصاده مقتصرا على الاستهلاك بدل الإنتاج. لقد صنع الاستعمار من الرجل العربي المسلم -يؤكد المؤلف- رجلا لا يفكر إلا في بطنه، همه الوحيد كيف يلبي رغباته المادية، ولا يفكر أبدا في الوسائل التي تمكنه من الخروج من ورطته، مقلدا حاجات غيره طبقا لقانون ابن خلدون "المغلوب مولع باتباع الغالب"، وبذلك اتجه نحو تكديس الأشياء بدل البناء. وظاهرة التكديس في نظر مالك بن نبي أدت إلى التمدن لا إلى الحضارة، وهذا التمدن يمكن صناعته في لحظة معينة من الزمن، إذ يكفي أن نرتدي ملابس غربية ونظارات غالية وهاتفا نقالا من نوع رفيع ونتحدث بلغة غيرنا ونحطم الرقم القياسي في التمدن، لكن رغم كل ذلك سنظل نحمل في ذواتنا أفكارا لا تحرك المجتمع، وعقلا ضيقا لا يتعدى الأفق، ولا نبني الحضارة التي تصنع منتجاتها. وهنا يذكر المؤلف أنه لو حاولنا عكس المعادلة وحاولنا صنع حضارة من منتجاتها، فسيكون هذا بكل بساطة من قبيل وضع المحراث أمام الثور، وعليه فالمجتمع الذي لا يصنع أفكاره -يؤكد بن نبي- لا يمكنه على أية حال أن يصنع المنتوجات الضرورية لاستهلاكه ولا المنتوجات الضرورية لتصنيعه، ولا يمكنه في عهد التشييد أن يشيد بالأفكار المستوردة أو المسلطة عليه من الخارج. ومن ثم تصبح التبعية الاقتصادية من أكبر المشاكل التي تعاني منها الدول النامية، ويصبح الركود والجمود ليسا من عوامل التقهقر والتخلف فحسب بل ومن عوامل الفناء والخروج من التاريخ كما حدث لدول اندثرت ومحيت من الخريطة السياسية. بين الإنتاج والاستهلاك بعدما تطرق بحيري لنظرة مالك بن نبي إلى الواقع الاقتصادي للدولة العربية والنامية، يعرج في نقطة تالية إلى سبيل الخروج من هذا الواقع، وينطلق بداية من التأكيد على أن العالم الإسلامي قد تعثر في طريق النهضة والتنمية، فكل المجهودات التي قام بها في هذا المضمار باءت بالفشل، في حين انطلقت دول أخرى في نفس الاتجاه وحققت نتائج ملموسة وأرقاما تضعها في مصاف الدول المتطورة. " المجتمع لا يأخذ توازنه إلا إذا تساوى فيه حجم الإنتاج وحجم الاستهلاك، ولن يتأتى هذا إلا بعملية تخطيط دقيقة ومنهجية، ذلك أنه كلما ارتفع حجم الاستهلاك إلى مستوى لا يمكن التحكم فيه اتجه المجتمع نحو التبذير والفساد " فها هي اليابان والصين ودول أخرى أصبحت اليوم تنافس جيرانها في أوروبا، ويكفي أن نلقي نظرة على أهم المنتوجات التي تدخل بلادنا حتى نعرف هذه الحقيقة الاقتصادية. وها هي الهند وباكستان ودول أخرى آسيوية تخرج من ظلام التخلف وتجد لنفسها مكانا في الخريطة الاقتصادية يحسب له ألف حساب. أما الدول العربية -يشير المؤلف- فإن اقتصادها لا يزال مقصورا على الواردات رغم تمتعها بالمساحات الشاسعة واليد العاملة العاطلة. لقد أهملت معادلة اقتصادية لا تقل أهمية عن التخطيط الاقتصادي الدقيق المنسي أو المجهول في حياتها اليومية.. هذه المعادلة تكمن في أداء الواجب وطلب الحق. فعندما عرف الغرب حقيقة هذه المعادلة خطا خطوات ملحوظة في عملية التنمية، فأصبح الاقتصاد ركيزة أساسية ويومية في حياته. والحق كما يذكر بن نبي أن الاقتصاد في الغرب صار منذ قرون ركيزة أساسية للحياة الاجتماعية وقانونا جوهريا لتنظيمها. إن العلاقة بين الحق والواجب هي التي ترسي القواعد الأساسية لجميع ميادين التطور في المجتمع. ومن المعروف أن الفرد في الدول العربية والإسلامية يطالب بحقوقه ويؤدي بعد ذلك واجباته، في حين أن الأفراد في العالم المتطور يؤدون واجباتهم ثم يطالبون بحقوقهم طبقا لمنوال خاص يطبع ثقافتهم وتصرفاتهم. إن العلاقة "واجب-حق" تضعنا أمام علاقة اقتصادية "إنتاج-استهلاك"، فكلما أدى المجتمع واجباته زاد الإنتاج وكلما زاد الإنتاج تمتع الاقتصاد بالوفرة والرفاهية واستفاد جميع أفراد المجتمع بهذا الخير. والعكس صحيح أيضا فكلما طالب أفراد المجتمع بالحقوق اتجه نحو التكديس والفساد والرشوة، فالسياسة التي تنهض أساسا بالمطالبة بالحقوق وتهمل جانب الواجبات لا تعدو أن تكون قد اتجهت هذا الاتجاه على أساس اختيار ضمني أو صريح بين مفهومين أخلاقيين: الواجب والحق. مالك بن نبي يؤكد -حسب رأي المؤلف- أن المجتمع لا يأخذ توازنه إلا إذا تساوى فيه حجم الإنتاج وحجم الاستهلاك، ولن يتأتى هذا إلا بعملية تخطيط دقيقة ومنهجية تحترم فيها مقاييس الاقتصاد الكلي، ذلك أنه كلما ارتفع حجم الاستهلاك إلى مستوى لا يمكن التحكم فيه اتجه المجتمع نحو التبذير والفساد. أما حين يتجه منحنى الطلب نحو الأسفل أي عندما يزيد عدد المستهلكين على عدد المنتجين فإن المجتمع يتجه نحو التأزم والقلة، ونتيجة لذلك تظهر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وينحل المجتمع ويصبح أفراده يفسدون أكثر مما يصلحون، وتضمحل المؤسسات السياسية والاقتصادية التي تسهر على احترام النظام، وهكذا يتجه المجتمع نحو الركود والتقهقر. الاستثمار المالي والاجتماعي " على العالم المتخلف أن يغير من مفهومه ليحوله من "العمل نتاج الاستثمار" إلى "الاستثمار نتاج عمل"، ذلك أن المعادلة الأولى ذات طابع مالي في حين أن المعادلة الثانية أساسا ذات طابع اجتماعي " تبعا لما سبق ذكره من أسباب التخلف في العالم العربي، ركز المؤلف على مدلول الاستثمار عند مالك بن نبي الذي يرى أن التنمية الاقتصادية التي لا تأخذ الإنسان بعين الاعتبار تبوء حتما بالفشل، فالنهضة يجب أن تتضمن الجانب التربوي الذي يجعل من الإنسان القيمة الاقتصادية الأولى التي تتحقق بها خطة التنمية. ولهذا فعلى العالم المتخلف أن يغير وجهة الاستثمار حتى يتخلص من رواسب التخلف التي لحقت به في السنين الأخيرة، وأن يغير من مفهومه ليحوله من "العمل نتاج الاستثمار" إلى "الاستثمار نتاج عمل"، ذلك أن المعادلة الأولى ذات طابع مالي في حين أن المعادلة الثانية أساسا ذات طابع اجتماعي. المعادلة الأولى تتطلب استثمار رؤوس أموال أجنبية كما يحدث حاليا في البلاد العربية، حيث نرى أن دفع عجلة التنمية يرتكز على مؤسسات أجنبية ذات جنسيات مختلفة. في حين تترجم المعادلة الثانية مبدأ الاتكال على الذات ومبدأ الاستثمار الاجتماعي الذي يجب أن لا يُنظر إليه من منطلق السهولة التي لا تعطي للأشياء قيمتها الحقيقية، ولا من منطلق الاستحالة الذي يجعل من عملية التفاعل الاقتصادي عملية صعبة ومشبكة. وعليه فالمسلم اليوم مطالب بأن ينظر إلى الأمور نظرة إيجابية تأخذ بعين الاعتبار مسلمتين اقتصاديتين: 1- لقمة العيش حق لكل فم. 2- العمل واجب على كل ساعد. ولأن المطلوب ليس الدفاع عن الإسلام وأصالته، يقرر الباحث قادة أن فعالية الفرد المسلم هي المطلوب إحياؤها وإنماؤها، فهي حسب رأي بن نبي تنمو تدريجيا مع تعقد المصلحة، ومن ثم فإن الدول الإسلامية لو طبقت في برامجها الاقتصادية المسلمتين المذكورتين لحلت أكبر مشاكلها ألا وهي البطالة التي رمت بثقلها على اقتصادات هذه الدول. وعليه فإنه متى تكونت لدى العالم الإسلامي الإرادة الواضحة للتخلص من التخلف فإنه سيجد أولا في المجال النظري أن اختياره ليس محدودا بالرأسمالية ولا بالماركسية، وأنه بالتالي يستطيع تعويض الاستثمار المالي المفقود لديه بالاستثمار الاجتماعي الموجود على أساس المسلمتين المعروضتين، سواء كان ذلك في نطاق مخطط مرحلي خاص بظروف ما يسمى بالإقلاع، أم كان المخطط يعني أيضا الاستمرار إذا ما رأى المجتمع مصلحته في ذلك. " لعل أفضل عمل تبدأ به أي دولة من أجل انطلاقة اقتصادية قوية هو تركيب عناصر الحضارة كما يسميها مالك بن نبي وهي "الإنسان والتراب والوقت" داخل شبكة اجتماعية قوية يكون عنصر الدين فيها ذا مكانة عالية " إن المتأمل في راهن العالم العربي والإسلامي يخلص -في رأي المؤلف- إلى أنه بدأ يرفض التخلف بكل أنواعه وأشكاله من أمية ومجاعة، وهو الآن يحاول دخول عالم الكبار بعدما ذاق مرارة الفقر والتخلف. ولعل المحادثات الاقتصادية بين الجزائر ومنظمة التجارة الدولية والاتحاد الأوروبي لأصدق مثال على النية الطيبة التي تسعى من أجلها بلادنا للخروج من ورطة التخلف. ولكن قبل البدء في دخول عالم الكبار لابد من شروط ضرورية، وإلا فإن كل محاولة في هذا الشأن يكون مآلها الفشل وخيبة الأمل، ولعل أفضل عمل تبدأ به أي دولة من أجل انطلاقة اقتصادية قوية هو تركيب عناصر الحضارة كما يسميها مالك بن نبي وهي "الإنسان والتراب والوقت"، داخل شبكة اجتماعية قوية يكون عنصر الدين فيها ذا مكانة عالية، لأن هذا العنصر هو الذي يعطي هذا التركيب قيمته الأخلاقية. أما الإنسان فيه فهو الفرد المكيف والقادر على أن يؤثر في المجتمع بثلاثة مؤثرات رئيسية هي الفكر والعمل والمال، وحينها يكون التوجيه المنهجي للعمل شرطا عاما أولا، ثم وسيلة لكسب العيش بعد ذلك. ويختم المؤلف كتابه بأن هذا التوجيه لن يكون فعالا إلا إذا أخذ شكلا رسميا تسهر عليه مؤسسات مختصة في توجيه العمل، خاصة تلك المهتمة بتوجيه اليد العاملة العاطلة وتوجيه رؤوس الأموال المحلية والأجنبية توجيها صادقا يحقق التنمية الشاملة التي تراعي الفرد وتعطيه فرصة في الحياة.