عدنان عويدكثيراً ما قامت الأحزاب الحاكمة، وبخاصة من منظومة الأحزاب (الديمقراطية الثورية) المتبنية لمشروع الاشتراكية العلمية في محاربة الفكر الليبرالي، شأنها شأن القوى الأصولية الدينية الرافضة للآخر، وفي مقدمة ما حاربوا من هذه القيم النبيلة، الديمقراطية الليبرالية في صيغتها التقدمية التي تبنتها الطبقة البرجوازية في بداية نشوئها ونضالها ضد قوى الاستبداد ممثلة بسلطات الملك والنبلاء والكنيسة، منطلقين من مقولة لماركس قد فهموها خارج سياقها التاريخي بالنسبة لتطور الطبقة البرجوازية بعد أن تحولت إلى طبقة احتكارية استعمارية، وهي: (إن الطبقة العاملة في الأنظمة الرأسمالية تختار من يقمعها في البرلمان كل أربع سنوات). لا شك أن هذه المقولة تنطبق تماماً على الطبقة الرأسمالية الأوربية بعد أن تحولت إلى طبقة احتكارية استعمارية، بعد استلامها الحكم، وتحكم شهوة السلطة السياسية، وسلطة الربح الفاحش بها من خلال استغلالها لشعوبها واستعمارها لشعوب العالم الثالث. وهذا ما جعلها تتخلى عن كل قيمها ومبادئها الليبرالية التي نادت بها في بداية انطلاقتها، وهي القيم المشبعة بالمفاهيم الإنسانية، كالحرية والعدالة والمساوة.
لقد أخذت هذه القيم الليبرالية تنهار في مجال الممارسة، وراحت الطبقة الرأسمالية صاحبة هذه القيم تتحول إلى طبقة استغلالية فاق استغلالها لشعوبها الأوربية آلاف المرات استغلال هذه الشعوب من قبل القوى التي كانت تسيطر عليها قبل وصولها إلى السلطة.
وبناءً على هذه التحولات العميقة التي انتابت الطبقة البرجوازية وقيمها، حوربت أيضاً القيم الليبرالية المشبعة بالروح الإنسانية في جوهرها من قبل الأحزاب المتبنية للاشتراكية أو الاشتراكية العلمية والقومية في دول العالم الثالث، طارحه البديل عن هذه القيم الليبرالية، وهي قيم الديمقراطية الشعبية، التي لا تختلف من حيث المضمون عن هذه القيم الليبرالية المشبعة بالروح الإنسانية. فمقولة لينين الذائعة الصيت: (مزيداً من الاشتراكية يعني مزيداً من الديمقراطية)، أي مزيداً من مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق عدالتها وحريتها ومساواتها وما يدخل في نسيج هذه الأهداف العريضة من قيم ومبادئ إنسانية تهم الفرد والمجتمع معاً. بيد أن مشروع العدالة الاشتراكية القائم على فكرة (الديمقراطية الشعبية) ممثلة في المنظمات الشعبية والنقابات المهنية التي تساهم في التشريع لمصالح الجماهير وتنميتها من خلال مشاركتها في إدارة أمور البلاد ومراقبة السلطة الحاكمة والدعوة لمحاسبتها، راحت هذه القيم الايجابية لمفهوم الديمقراطية الشعبية بدورها تتلاشى شيئاً فشيئاً مع وصول هذه الأحزاب إلى السلطة، وتحكم قادتها بها، وفرض سياسة الحزب الواحد، أو الحزب القائد لجبهة وطنية، كصيغةً أساسيةً في الدولة والمجتمع معاً، هذا عدا ممارسة هذه الأحزاب أيضاً لسياسة رأسمالية الدولة في صيغتها الجمودية كأنموذج اقتصادي، أخذ مع مرور الأيام يشكل من قادة وسياسيي هذه الأحزاب طبقة من البرجوازية الطفيلية اغتنت على حساب أموال الدولة، الأمر الذي حول المنظمات الشعبية والنقابات المهنية بناءً على هذه السياسة إلى حزام ناقل للسلطة، تعمل على نقل ما تقرره قيادة الحزب ومن يتحكم في قيادته الفعلية إلى مكوناتها التنظيمية وبالتالي إلى الشعب، دون أن يكون لها – أي المنظمات والنقابات - ذاك الدور الايجابي الذي رسمته لها نظريات هذه الأحزاب في المشاركة والمراقبة لسياسات الدولة ومحاسبة من يخل بهذه السياسة. أو بتعبير آخر فقدت مقومات الديمقراطية الشعبية وآلية عملها.
وتأسيساً على ذلك وغيره الكثير من الممارسات السلبية التي مورست من قبل قيادات هذه الأحزاب، تحولت هذه الأحزاب ذاتها بالضرورة وفقاً لسياساتها هذه إلى أحزاب شمولية تمارس دكتاتوريتها على أعضائها أولاً، وعلى الشعوب التي تحكم بإسمها ثانيا، خاصة بعد أن سيطرت العشيرة والقبيلة والطائفة على الدولة، وحولت هذه السيطرة الأحزاب ومنظماتها ونقاباتها ذاتها إلى أداة بيد من هم في قمة السلطة أو المتحكمين بها فعلياً من أجل خدمة مصالحه.
أمام هذه المعطيات يحق لنا ان نتساءل هنا ماهي القيم الليبرالية في صيغتها الايجابية ؟، وهل تصلح قيمها كمشروع نهضوي لدول العالم الثالث؟.
ماهي القيم الليبرالية وتجلياتها:
الليبرالية منظومة أفكار وقيم ذات طابع إنساني تحققت تاريخياً حصيلة تطور طويل، تخلله الكثير من التناقضات والصراعات بين القوى المستغِلة والمستغَلة، وهي في المحصلة الوليد الشرعي للثورة التجارية والصناعية وحواملها الاجتماعية من الطبقة البرجوازية التجارية والصناعية ومن وقف معهم في بداية ظهورهم من أبناء الطبقة الرابعة الممثلة للقوى الاجتماعية المضطهدة تاريخياً، مثلما هي أيضاً التجلي النظري لعصر التنوير وما مثله هذا العصر من قيم إنسانية تدعو إلى الحرية والعدالة والمساواة والوقوف ضد القيم والأفكار والمبادئ الداعمة لاستغلال واستعباد القوى الممثلة لعصر الإقطاع والنبالة.
لا شك أن منظومة القيم الليبرالية، أو أيديولوجيتها وحملتها من كتاب ومفكرين وفلاسفة، قد ساهمت بشكل فاعل في تغيير قيم وسلوكيات حياة المجتمعات والدول الأوربية من خلال نقدها العقلاني لكل ما هو غيبي وامتثالي ومطلق على مستوى الفكر، الذي مثله رجال الفكر الميتافيزيقي واللاهوتي والسياسي القائم على التراتبية، ومن خلال نقدها ايضاً لك السلوكيات الاستبدادية التي عملت وتعمل على الحط من القيم الإنسانية النبيلة التي تدل على إنسانية الإنسان وكرامته وحريته وإرادته ورغباته في تحقيق مصيره والحفاظ على حقوقه الطبيعية والقانونية المشروعة.
لقد تجسدت مع قيام الثورة البرجوازية ووصول حواملها الاجتماعية إلى السلطة، قيم الليبرالية في المجتمع الأوربي وأصبحت منطقه الداخلي، وعلى أساسها نظم المجتمع وانتشرت فيه قيم المواطنة والتعليم والإدارة والمؤسسات السياسية ونظم العمل وكل ما يحقق للإنسان (الفرد والمجتمع). أي بتعبير آخر لقد أصبحت الليبرالية نموذج حياة للمجتمع الأوربي، وعلى أساسها تم تحديد الموقف من الماضي والحاضر والمستقبل بما يخدم الإنسان وجوهره الإنساني.
إن الليبرالية في المحصلة كانت عند انطلاقتها الأولى كما أشرنا أعلاه، ضد الفكر اللاهوتي الغيبي الأسطوري والميتافيزيقي المثالي الساعي دوما لعزل الفكر عن الواقع، والرافض لتطور الحياة، وفي مقدمة هذا التطور، تطور العلوم الطبيعية التي حطمت أسس المعارف التوراتية الأسطورية في تفسير حركة الكون وتشكل حياة الإنسان والحيوان والنبات، وموقع الأرض من الشمس، وطبيعة دوران الأرض، والرافض لجود قوانين موضوعية مستقلة تتحكم بسير أو حركة الظواهر الطبيعية والاجتماعية، وأخيراً وليس آخراً، امتلاك عقل الإنسان وإرادته القدرة على اكتشافها قوانين الطبيعة والمجتمع وتسخيرها لمصلحته.
إن هذا الفكر الرجعي المثالي الوثوقي الاستسلامي الرافض لحركة الواقع وتطوره وتبدله، كان يَحولُ بين الإنسان وقدرته على تحقيق مصيره الإنساني، والفسح بالمجال واسعاً أمام فكره العقلاني النقدي وحرية إرادته في تغير مصيره بيده، مثلما كان يعمل على إقصاء فكرة أن الإنسان ذاته ضرورة وحرية.
حقيقة لقد حاربت القيم الليبرالية التي حملتها الطبقة البرجوازية الوليدة، الاستبداد وقواه المستبدة، واعتبرت الديمقراطية والعلمانية وسيلتين من الوسائل التي تساهم في بناء المجتمع المدني والدولة المدنية، والفسح في المجال واسعاً للقوى المظلومة والمستلبة المشاركة في بناء هذه الدولة والمجتمع.
إن قيم الليبرالية التي أكدت على حرية الفرد وإرادته ودوره في التاريخ، لم تكن يوماً ذات نظرة أحادية، كأن تُختزل في الاقتصاد فحسب، بل هي ذات طابع شمولي تتغلغل في كافة مجالات حياة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهي في بداية صعودها أو مرحلتها الأولى، عبرت عن قيم تقدمية مشبعة بالروح الإنسانية المتعلقة بالعلم والمواطنة والمرأة والتربية والثقافة والفن والأدب كما أشرنا في موقع سابق.
إن مشكلة القيم الليبرالية تقع حقيقة في جانبها الاقتصادي (اقتصاد السوق الحرة) الذي انبعث من صلبها وعمل على تحرير وإطلاق العنان لتطور قوى وعلاقات الإنتاج، وفرض هيمنة اقتصاد السوق وسيطرة روح الربح بإسم الحرية. إن هذا الانبعاث الاقتصادي ممثلاً باقتصاد السوق الحرة، ساهم بالضرورة في نمو العلاقات غير العقلانية بين المالك والمنتج، وبالتالي خلق حالة واسعة من التفاوت الطبقي والاستغلال وما نتج عن هذه الحالة من غربة واستلاب وتشيئ وضياع لقوى اجتماعية واسعة من أبناء المجتمع، وهي القوى المنتجة، وما يتعلق بحياة هذه القوى من فن وأدب وفلسفة وفكر. حيث راحت هذه القيم الإنسانية التي بشرت بها الطبقة الرأسمالية وثوراتها ضد الماضي وقيمه التقليدية السلبية، تفقد بالضرورة سماتها وخصائصها الايجابية لتتكيف مع روح العصر الجديد الممثل لروح وجوهر الطبقة الرأسمالية في صيغتها الاحتكارية المشبعة بالروح الأنانية القائمة على المنافسة غير الشريفة والاحتكار.
إذاً إن قيم الليبرالية المشبعة بالقيم الايجابية في مراحلها الأولى ممثلة بالحرية والعدالة والمساوة والمشاركة الجماهيرية في السلطة وغير ذلك من قيم، هي قيم صالحة لكل شعب ولكل أمة في أي مرحلة تاريخية تسودها قيم الظلام والاستبداد والجهل والتخلف. ولطالما أن امتنا العربية تعيش هذه الحالات المزرية من التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي تحت مظلة حكومات شعبوية، فقيم الليبرالية في مرحلتها الأولى التي كانت وراء كل الثورات التقدمية في أوربا بكل تجلياتها التي قمنا بعرضها أعلاه هي قيم صالحة لشعوبنا ومجتمعاتنا، وهي التي تشكل الرافعة الحقيقة لتجاوز واقع تخلفنا الذي فرض علينا لمئات السنين ولم تستطع القوى الحاكمة بكل مسمياتها أن تخلصنا منه، بل هي ساهمت كثيراً بسبب شهوة السلطة لديها، أن تزيد من عوامل هذا التخلف وتعمق مسارته.
نعم... لكي نستطيع تجاوز هذا التخلف وتحقيق نهضتنا وتقدمنا والوصول إلى إنسانيتنا، لا بد لشعوبنا من تبني هذه القيم ومحاولة جعلها أحد العتلات الرئيسة التي ستدفع بالمجتمع والدولة معاً بعيداً عن روح الدولة الشمولية واستبدادها، وما فرضته على شعبها من ذل وخنوع وتخلف خدمة لمصالح قوى سياسية اتخذت من الدولة وسيلة لتحقيق مصالح أنانية خاصة تهيمن عليها روح القبيلة والعشيرة والطائفة.
ملاحظة: بالرغم مما تخلفه ثورات الشعوب المضطهدة تاريخياً من دمار للدولة والمجتمع، بسبب ما مورس عليها من تجهيل وقمع للحريات وإقصاء سياسي واقتصادي، إلا أن هذه الثورات تشير بهذا الشكل أو ذاك إلى أن الشعوب المتخلفة والمجهلة تاريخياً، قادرة أن تتعلم من تجاربها كيف تستطيع أن تتخلص من سيطرة الدولة الشمولية، وتعيد ترتيب حياة الفرد والمجتمع في دولها ومجتمعاتها على قيم الليبرالية أو الديمقراطية الشعبية لا فرق بينهما.. ليس عيباً أن تضحي الشعوب من أجل حريتها وعدالتها وكرامتها، والوصول إلى تحقيق طموحاتها. هذه هي مسيرة الشعوب الحرة.
د.عدنان عويّد
كاتب وباحث من سورية