من الصعب الوصول إلى استنتاجات كبيرة تجاه الوضع السياسي الحكومي في إيران، نظراً إلى عدم المعرفة بعلاقة النخب الدينية والسياسية والعسكرية الهائلة الحاكمة بالشعب،
ومدى التباين بين النخب الإصلاحية والنخب الشمولية. فلو تذكرنا صخب الرئيس (الإصلاحي) السابق محمد خاتمي، وكيف لم تسفر عاصفته السياسية عن أي تغيير جدي، ثم جاء رئيس مناقض فيما يبدو كلياً للرئيس السابق، لو وضعنا كل هذه الجوانب المتضادة الغريبة في مسار سياسي متعقل لها، لسوف نجد تخبطاً غريباً في الطقم القيادية المهيمنة على القرار، وحيرة سياسية.
فكيف يمكن أن يصوت نفس الجمهور لرئيس متشدد كلياً فيما يُقال بعد أن صوت لرئيس إصلاحي؟ فلابد أن يكون ثمة نقاط مشتركة بين الرئيسين، ومن غير المعقول أن يكون الشعب الإيراني بمثل هذا التضاد الذي يقترب من الانفصام العقلي! ففي الواقع أن الشعب الإيراني، بأغلبيته هذه المبهمة الغامضة، التي تتحسسُ طريقـَها في نظامٍ شمولي ديني قوي، يقومُ بمعاقبة الطبقة الحاكمة السياسية بما في يديه من أوراق انتخابية محدودة، تغدو تنفيساً من قبل النظام كما هي عادة(الديمقراطيات) في مجتمعاتنا الإقطاعية، فيقومُ بتوجيهِ ضربةٍ لها، بحسب توافر مرشح شعبي له جوانب إيجابية مهمة لدى هذا الشعب. وهكذا فإن تصعيد نجاد يمثل مثل هذه الضربة للطبقة الحاكمة السياسية، عبر هذه الشعبوية (الهتلرية) التي يمتلكها، وهي تعبرُ عن تصعيدٍ للحسِ القومي المتواري المُجهض في الدولةِ المذهبية الشمولية، وتعزيز هذا الحس القومي، عبر تركيز نجاد على ضرب إسرائيل والقنبلة النووية، يهدف من خلاله إلى تقليص مساحة الدولة الشمولية الدينية في امتدادها المناطقي، أي هو يشتغل على الحس القومي وليس على الحس المذهبي، للتخفيف من الدولة الدينية الشمولية التي تمثل لأغلبية الإيرانيين كارثة حضارية، لكن هذا الاشتغال لا يتم مباشرة، حيث إن مراكز السلطة الحقيقية ليست متواجدة في رئاسة الجمهورية. وهكذا فإن الأسلوب الليبرالي لخاتمي يُستكمل عبر نجاد، ومن خلال تلك الشعبوية القومية المتغطرسة، ذات الشعارية الرنانة من دون فعل على الأرض، فتغدو توظيفاً لهذا الشعور القومي أكثر منه تحقيقاً على صعيد تلك الشعارات! لكن بالتوازي مع هذه الشعارية الصاخبة نجد مرونة وعقلانية في العلاقات السياسية الخارجية، وقد تبدت في مواقف الحوار مع الولايات المتحدة وكانت خطاً أحمر حتى في زمن خاتمي، ثم في الانفتاح على دول الخليج حتى غدت العلاقات الإيرانية - السعودية تحولاً كبيراً في حياة المنطقة. وهذه السياسة الليبرالية لنجاد سنجدها في توجه حكومته للهدم التدريجي للقطاع العام، وتوسع الخصخصة، وترفيع الفئات البيروقراطية لتلتهم الملكيات العامة وتصبح الطبقة الوسطى الحاكمة تدريجياً بعد زمن، وخاصة مع تنامي الصناعات الإيرانية، وضخامة السوق المحلية. لكن قوى بيروقراطية مدنية وعسكرية، عديدة تعارض هذا النمو الليبرالي السفلي، وإذا حدث مثل هذا التغيير فهو سيتشكل على هيئة عاصفة، لكن الخيار التحولي(الصيني)، وهو خيار إزالة هيمنة القطاع العام على طريقة الصين والذي اختارته سوريا وأقنع رئيس إيران كذلك فيما يبدو، إن هذا الخيار مُعارَض كذلك من قبل حشود الفقراء ومؤسسات الثورة والشهداء شكلاً والمتنفذين مضموناً. وهذه المعارضة تتجلى في وضع العصي في عجلات السلطة السياسية الجمهورية، سواء تجلى ذلك في تفجير علاقاتها الخارجية، أم في استمرار التشدد الديني ومنع تنامي الحريات. لقد اختلطت أوراق المحافظين والإصلاحيين، نظراً إلى تنامي عمليات (الرسملة) في القاع السفلي للنظام، والشكل السياسي - الفقهي الذي اختاره المحافظون كسقفٍ للنظام، يجري اختراقهُ عبر العمليات الموضوعية للتطور الاقتصادي المتسارع، لكن الطبقة الحاكمة بجناحيها الكبيرين، غير قادرة على توحيد مواقفها، والجمع بين المذهبية المحافظة وبين التطورات الاجتماعية المنفلتة، بين المذهب والليبرالية، وبين القطاع العام والقطاع الخاص، بين الانفتاح والانغلاق، بين سياسة وطنية مستقلة وبين التبعية، بين سياسة سلمية وسياسة حربية.