يقول الجاحظ عن عصيان أهل العراق: ان العلة في عصيان اهل العراق على امرائهم انهم اهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء واظهار عيوب الامراء والولاة، وما زال العراق موصوفاً بقلة الطاعة وبالشقاق على اولي الرئاسة..(الجاحظ: كتاب البيان والتبيين ج / 2 / ص94 ).
والمعارضة حسب الاصطلاح الحديث هي تمرد وشقاق والمجتمع العراقي كان في صدر الاسلام موطناً لعدد كبير من اقطاب التفكير الديني واعلام المنطق والفلسفة، فيه عاش كثير من صحابة رسول الله، وفيه نشأت المعارضة الكبرى لدى المعتزلة، وفي العراق ظهر اقطاب التصوف، وهم المعارضة السلمية، وهناك المرجئة، ومن المعارضة الشيعية وثورة الامام الحسين ضد القيادة السياسية، ومعارضة انصار عبد الله بن الزبير، ومعارضة المختار الثقفي، هذه المعارضات خلقت تجديداً في الفكر الديني وانبثقت منه فلسفة وعلم الكلام، كل ذلك في ارض العراق.
وصار العراقي كما وصفه الدكتور علي الوردي: يتقمص شخصيتين او ذاتين مختلفين، ذاتاً يفكر بها، وذاتاً اخرى يعمل بها، وما ابعد ما بين هاتين الذاتين.
يقول الدكتور الوردي في كتابه »شخصية الفرد العراقي« ص43:
»لقد اشتهر العراقيون في صدر الاسلام بأنهم اهل شقاق ونفاق وقد حاول بعض المفكرين القدماء كالجاحظ مثلاً ان يفسروا هذه الظاهرة الاجتماعية في العراق.. ولماذا كان العراقيون اهل شقاق ونفاق؟ ولماذا كانوا يشجعون بعض الزعماء على الثورة ثم يتخلون عنهم ساعة الضيق؟.. وحاول المفكرون القدماء ان يفسروا هذه الظاهرة ولم يفلحوا..«
العراقيون بالمقارنة مع اهل الشام (الكبرى) كانوا سهلين هينين لا يناقشون ولا ينغمسون في الجدل الفكري ولا يعترضون، والمعارضة كما قلت في التعبير القديم انشقاق.. وكان القادة يسهل عليهم قيادة اهل الشام من اهل العراق..
وعندما خاطب معاوية الامام علي قال له اني قادم اليك بجيش من اهل الشام لا يفرقون بين الناقة والجمل.. بمعنى انهم لا يفكرون في الامور العقلية حتى الجمل الذي يمتطيه راكبه لا يعرف عنه ان كان جملاً او ناقة.. بعكس الشعب العراقي الذي يجادل في كل شيء ويعترض على كل شيء ويبدي قلقه وتململه، فالعراقيون لا يصبرون على حال وان سقط لهم امير جحدوا عليه وعصفوا بكل شيء تخريباً ونهباً وحرقاً.. هذا ما عهده التاريخ بهم بعدكل قيادة سياسية حتى بعد ثورة 14 تموز 1958 حيث جرى النهب للقصور والوزارات والمؤسسات وجرى مثل ذلك بعد سقوط نظام البعث في 2003.
الاعتراض والتفكر والبحث جعل المفكر في العراق اكثر عمقا من غيره هكذا حتى في كتابة النقد الفلسفي والادبي.
والعراقي شُبّه بنار الحَلْفاء التي لا تكاد تلتهب وترتفع حتى تخمد.
ومثل العراقي نفسه حديثاً انه مثل زجاجة المياه الغازية تثور ساعة فتحها ثم لا تلبث ان تخمد وتسكن.
وصدّر الفرات الاوسط تمرده وشقاقه الى سائر انحاء العراق عبر التاريخ ويعلل عالم الاجتماع الوردي ذلك بقوله في الكتاب السابق الذكر: تنتشر في كل مجتمع ديني تسيطر فيه مبادئ الدين وتبث منه تعاليمه، ومن الملاحظ ان كل مدينة يكثر فيها رجال الدين ينتشر فيها ايضا ازدواج الشخصية على درجة كبيرة، ذلك لان الانسان في هذا المجتمع مضطر أن يكون دينيا في ناحية من حياته ودنيويا من ناحية أخرى ورجل الدين عادة يحترف بث التعاليم الدينية فهو يبثها قولاً ويقبض عليها أجراً، ولكن هذا الاجر يدفعه في الأغلب الناس البعيدون عن تعاليم الدين ورجل الدين يجاري العامة وغير المتدينين وعليه ان يرضيهم حسب أهوائهم وميولهم.
أما حول طبيعة التركيبة الشعبية وأثر الجنوب والوسط بالبادية قبل أن تكون هناك دولة في العراق قبل الحرب العالمية الثانية فهناك قصة أوردها الدكتور جون فانيس في كتابه »أقدم أصدقائي العرب ص149« كنت أتجول ذات مرة في أهواء العراق فنزلت لدى إحدى القبائل دخيلاً فارتاب فيّ شيخ القبيلة لان لحيتي شقراء وعينيّ زرقاوان فقال لي أنت تركي والترك أعداء لنا يمنعوننا من الغزو والنهب وهذه عادة الرجال.. فقلت له أنا طبيب انجليزي اداوي الناس فقال انا اختبرك ان صدقت صرت صديقا لنا.. ان في حنجرتي ذبحة أكاد أختنق منها، وشاء القدر أن يشفى من علته فسلم الضيف من القتل، وجعله شيخ القبيلة في غرفته الكبيرة، وأطلعه على المسروقات الأخيرة التي نهبها رجاله من القبائل الأخرى..
هنا أدرك الدكتور فانيس ان الغزو والنهب من صفات الرجولة ومن عجز عن ذلك فهو دون الرجال عند أهل العراق.