لا نتصور ان ناعم تشومسكي يكرهنا. قد يرثي لاحوالنا، وقد يستغرب كيف نتهاوى، احتفاليا، الى القاع، لكنه لا يأخذ بتلك المعادلة المزدوجة «المسلمون ضحية الاسلام» او «الاسلام ضحية المسلمين»...
المفكر الاميركي يستغرب احاديث الجنرالات بأن ساعة تنظيم الدولة الاسلامية قد أزفت. الدليل ان مقاتلي التنظيم إما سقطوا او لاذوا بالفرار من مدينة الرمادي. هكذا عشرون الف جندي مقابل مائتي مقاتل. اذا كان لدى «داعش» مائة الف مقاتل، هذا يعني اننا بحاجة الى عشرة ملايين جندي. من اين؟
تشومسكي لا يدخل في هذه التفاصيل. يرى في التنظيم ظاهرة همجية، لكنها قطعا لم تهبط من كوكب آخر. واذ يلاحظ التكاثر الرهيب في عدد رجال الدين في البلدان الاسلامية، يلقي باللائمة على العديد منهم في «اغتيال الروح» من خلال التسويق المبرمج لافكار لم تعد تليق، في اي حال، بالقرن...
يتساءل عن السبب الذي يحمل رجال الدين المسلمين على الترويج لـ «لاهوت الكراهية» دون ان يقتفوا اثر رجال الدين المسيحيين في اميركا اللاتينية ويطلقوا «لاهوت التحرير» الذي يفترض ان يتقاطع مع... لاهوت التحديث.
يمكن ان يتم الحاق الهزيمة بـ «داعش» من خلال اساطيل القاذفات، كما اساطيل الدبابات، ولكن كيف يمكن اجتثاثها من صدور اولئك الذين رأوا فيها الخلاص من الانظمة التوتاليتارية التي اوغلت في تفعيل ثقافة القطيع، وحالت دون المجتمعات واعادة تصنيع الحياة...
ليس تشومسكي وحده الذي يدعو الى تحديث قيم ومفاهيم وآليات السلطة في العالم العربي. اكثر المفكرين الغربيين والذين يعنون بشؤون المنطقة، يعتبرون ان تنظيم الدولة الاسلامية انما كان جرس الانذار الذي يقتضي الاصغاء اليه بدقة لان المراوحة داخل « الحالة» يعني ان الانفجار الايديولوجي لا بد ان يأخذ منحى اكثر بربرية. مرة اخرى رقصة التانغو مع ... العدم!
الآن ليس وقت النظريات. ما يوضع من ابحاث في المعاهد الغربية التي تساهم، عادة، في صياغة الاستراتيجيات يوحي بأن الفوضى الدموية ستتواصل، وبأنها ستمتد الى دول اخرى دون ان تتمكن الاساطيل من عزلها عن لعبة الدومينو، الى ان يتحول الجميع الى حطام. حينذاك توضع الخرائط على الطاولة...
الخبير الاستراتيجي الاميركي انطوني كوردسمان يتفق مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية جون رينان، ومع رئيس الاستخبارات الفرنسية برنار باجوليه، في ان الشرق الاوسط لن يبقى على ما كان عليه. المشكلة ان القوى الكبرى لم تعد تنظر الى المنطقة كما كانت تفعل منذ ظهور «المسألة الشرقية» وحتى نهاية الحرب العالمية الاولى...
نظرات متفاوتة الاشكال، متناقضة ومتشابكة، كما ان العديد من المنظرين في البنتاغون لم يعودوا يعطون الاولوية للشرق الاوسط. الشرق الاقصى هو ارض الصراعات الكبرى، حيث الامبراطوريات وحيث الاسواق، حتى اذا ما بقيت اسعار النفط في التدهور، فقد لا تتمكن الدول المنتجة في المنطقة من تلبية احتياجات مواطنيها بعدما كانت على مدى عقود طويلة نموذجا صارخا للاستهلاك الذي وصفه رئيس سابق للوزراء في اسرائيل هو ليفي اشكول بـ «جنة الحمقى».
باحثون اميركيون لاحظوا ان بلادهم تعتمد «استراتيجية الكلاب» في التعاطي مع الشرق الاوسط، اي النهش العشوائي. هذه الاستراتيجية لا تعكس فلسفة باراك اوباما حيال المنطقة، بل هي فلسفة المؤسسة الاميركية التي تتوقع ان يطول مسلسل الفوضى، دون استبعاد الانفجار الاقتصادي والاجتماعي اذا لم ترتفع اسعار النفط، لتتفاعل تداعيات الصدمة بين ما كان عليه الوضع وما آل اليه...
حتى فلاديمير بوتين الذي غاص في المياه الدافئة ولم يكتف بوضع قدميه كما كان يحلم بطرس الاكبر، يتفادى الضياع في المتاهة التي كان يتخوف يفغيني بريماكوف قبل رحيله من ان تتحول الى حالات افغانية. هوذا الذي يحدث حاليا...
الرئيس الروسي يدرك الحساسية الجيوستراتيجية لسوريا، وهو الذي تدخل بعدما لاحظ ان العرب اطلقوا يد رجب طيب اردوغان في سوريا التي اذا ما سقطت في يده، فهو لا ريب سيتوجه الى ما يعتبره العالم التركي الذي ، في نظره، يمتد الى القوقاز كما الى آسيا الوسطى، ودون اغفال تركستان الشرقية في الصين، وحيث الايغور المسلمون الذين يعتبرهم اردوغان من «الاتراك القدامى».
حتى الان، لا خرائط على الطاولة، بل تصورات، ومحاولات، لبلورة المصالح، بانتظار ان ينهك الجميع ليتم على ظهورهم، او على جثثهم، ارساء قواعد النظام العالمي الجديد...
عودة الى تشومسكي الذي يستدرك « كيف لمثل تلك الانظمة التوتاليتارية او التيوقراطية ان تتقبل ديناميكية التحديث». لن تتقبل، و«داعش» لن يغادرنا!!