لعل الوقت قد حان لتجاوز ما جرى الانشغال به، فى النصف الأول من القرن العشرين، من السعى إلى التقريب بين مذهبى السنة والشيعة؛ وخصوصاً أن أى متابعة لدماء الفريقين المسفوحة فى المساجد والمراقد وملتقيات التجمع والحشد تكشف عن الناتج الهزيل لهذا التقريب فى الواقع. ولعله يلزم الانخراط فى عملٍ جدّى يستهدف خلق الشروط التى تؤول إلى فتح الباب أمام الخروج من قبضة المذهبيات القاتلة.
ولعل نقطة البدء فى عملٍ كهذا تنطلق من وجوب الوعى بأن المذهبية هى فاعلية سياسية تتخفى وراء قناع الدين. فالمذهب هو التركيب الذى تنخلع فيه صراعات الناس من رداء «السياسة» لتتلبس بزى«القداسة»؛ ولهذا السبب فإنه، فى الجوهر، هو الأداة التى تنتقل بها تلك الصراعات من وضع «المؤقت» والعارض إلى وضع «المؤبد» والخالد. ويرتبط ذلك بأن هذه الصراعات تتحول– عبر هذا الانتقال– من «أحداث» تتحدد بشروط التاريخ وسياقه إلى «معتقدات» عابرة لأسوار الزمان وتحديداته. وإذ المذهب ينتقل بالخلاف من كونه مجرد احدثٍ «إلى أن يصبح معتقدا» من خلال ما يقوم به من فك الروابط بينه وبين التاريخ، فإنه ليس ثمة من سبيل لتحويل المذاهب من بنيات متعالية يخضع البشر لسطوتها الباطشة إلى إطارات كاشفة عما يقوم بينهم من التعدد والتنوع واختلاف الرؤى والمصالح، إلا عبر تفكيك تلك العمليات التى تمكنت عبرها من فك روابطها مع التاريخ ووضع نفسها كبنيات متعالية يقدِّسها الناس، ولو فى تعارضٍ مع تعاليم الدين نفسه. وحين يدرك المرء أن هذه البنيات المذهبية المتعالية تتحول الآن–أو تكاد– إلى ألوية يتقاتل المسلمون تحت راياتها السوداء القاتمة، فإنه يلزم التأكيد على أنه ليس من سبيلٍ أبداً للخروج من دوائر العنف المذهبى الراهن إلا بالخروج من كهوف الماضى وسراديبه الخانقة المميتة. وبالطبع فإنه لا سبيل للخروج من هذا الماضى إلا من خلال السيطرة عليه وتحويله إلى تاريخٍ له منطقٌ يحكمه، بدلاً من استمرار حضوره كإطارٍ لنماذج مثالية يقاربها الناس كمحدداتٍ لسلوكهم ومعايير يقيسون عليها مدى انضباط أفعالهم.
وليس يعنى تحويل الماضى إلى تاريخ إلا الوعى بالسياقات التى تحولت فيها وقائعه من «أحداث واقعية» إلى «أنماطٍ مثالية»، من خلال ما جرى من الصعود بها إلى السماء التى تحولت فيها إلى «عقائد»؛ وذلك بمثل ما جرى مع وقائع الإمامة التى تقدم المثال النموذجى على تحول ما هو تاريخى من «حدثٍ» إلى «اعتقاد». فإن الإمامة كانت محض «واقعة تاريخية» اختلف حولها المسلمون بعد وفاة نبيهم، وانحسم صراعهم عليها بفضل المحددات التى فرضتها موازين القوة التى كانت قائمة آنذاك، ولكنها سرعان ما تحولت إلى «قاعدة دينية» يتحاجج الفرقاء عليها بأدلة الدين وشواهده. فإن من هزمتهم موازين القوة القائمة آنذاك، وحالت دون أن ينتصر خيارهم السياسى فى الإمامة، لم يكونوا ليصمتوا على نحوٍ كامل، بل إنهم راحوا يرتفعون بخيارهم السياسى فى الإمامة إلى حد اعتباره أصلاً للدين ومطلباً من مطالب السماء. وهكذا فإن من انهزمت قضيتهم فى الأرض قد اختاروا أن يرفعوها إلى حيث تصبح «قضية السماء». وإذن فإن ما جرى من خذلان «أهل الأرض»للخيار السياسى لمن جرى الاصطلاح على أنهم الشيعة قد دفع بهؤلاء الشيعة إلى أن يجعلوا من اختيارهم السياسى (للإمام عليِّ وأهل بيته) اختياراً لرب السماء نفسه. وبحسب ذلك، فإن موقف الشيعة فى الإمامة الذى ينحاز للإمام عليّ قد راح يتحول من مجرد «اختيار سياسي» إلى أن يصبح «اعتقاداً دينياً» لا يتم الإيمان إلا به.
وللغرابة، فإن خصوم الشيعة من أهل السنة لم يفكروا على نحوٍ مختلف، بل إنهم يمارسون التعالى ذاته بالإمامة من تحديدات السياسة إلى فضاءات الدين. وعلى العموم، فإنه يبدو أن أى تهديدٍ لمسألة السلطة والإمامة فى الإسلام كان يدفع بأصحابها إلى التعالى بها إلى حيث يجعلونها «شأناً إلهياً» لا دخل للناس به. فلقد كان ذلك هو نفس ما فعله الخليفة الثالث عثمان بن عفان حين طالبه الثائرون عليه بأن يخلع نفسه من السلطة. حيث لم يجد الرجل ما يردُّ به على هذا المطلب إلا قوله:«كيف أخلع قميصاً ألبسنيه الله؟»؛ وبما يكشف عنه ذلك من النظر إلى سلطته بما هى«شأنٌ إلهي» لا قول للناس فيه.
ورغم ما يبدو من أن الخليفة الثالث كان يخرج بذلك عما استقر عليه الخليفتان قبله(أبى بكر وعمر) من النظر إلى أصل سلطتهما على أنها من الناس، وليس من الله، فإنه كان يُثبِّت التقليد الذى استقر فى التعالى بالسلطة أو الإمامة، فى حال كونها موضع تهديدٍ بالذات، إلى حيث تصبح «شأناً إلهياً» لا دخل للناس به. وبالطبع فإنه لا معنى لذلك إلا أن أهل السنة يمارسون التعالى ذاته بالإمامة، وإلى الحد الذى تكون معه من فعل الله واختياره فى الحقيقة؛ وبما يحيل إليه ذلك من اكتمال دائرة التعالى بالإمامة– إلى حيث تصبح ديناً– عند السنة والشيعة.
وليس من شكٍ فى أن تحول الإمامة إلى دين عند كلٍ من السنة والشيعة سوف يجعل من الاختلاف بينهما اختلافاً بين دينين؛ وبما يعنيه ذلك من تأبيد التقاتل بينهما، لأنه تقاتلٌ بين الحق والباطل اللذين لايقبلان التصالح أبداً. وبتحولها إلى دين فإنها تأبى أن تتحول إلى ماض، بل إنها تبقى حاضراً متجدداً. وأكثر من ذلك فإن استمرار حضورها المتجدد سوف يكون علامة حضور الدين وتجدده فى النفوس. ولعل الذين يتقاتلون تحت راياتها، من الفريقين، لا يرون سبيلاً لممارسة الدين إلا فى هذا التقاتل.
وبالطبع فإنه لا سبيل للخروج من حلبة هذا التقاتل المذهبى الدامى إلا عبر تنزيل الإمامة من فضاء «الدين والعقيدة» إلى سياق «التاريخ والسياسة». ولعل هذا التنزيل هو جوهر ما ينبغى أن ينشغل به المسلمون الآن ليحرروا أنفسهم– ومعهم دينهم–من ضيق المذهبية وتعصباتها القاتلة.