هل أصبح الانكماش السني أمرا واقعا في العقد الحالي؟ هذا السؤال، وإن بدت الإجابة عنه بشكل جازم عسيرة، إلا أنه ما انفك يتعزز منذ الحادث الإرهابي المشؤوم الذي اعترف تنظيم القاعدة بتنفيذه في أمريكا في 11 من سبتمبر 2001، وأودى بحياة الآلاف.
على مدى السنوات، كانت الخسائر تتزايد، في مقابل تناقص الفرص من أجل دحر الإرهاب، الذي غدا ظاهرة عالمية. ولا يكاد يمر أسبوع، من دون عودة الحديث عن ملاحقات لعناصر إرهابية في المشرق والمغرب العربيين. وهناك من يرى أن المعالجة الأمريكية المتعجلة لقضايا العالم، أذكت هذا التيار، وبدلا من تقليم أظافره، أصبح له أكثر من وطن عامر بالخراب الذي يغذي إيقاعه. لم تفلح أمريكا من خلال قضائها على حكومة طالبان في إشاعة الأمن بين الأفغان، أو على الأقل الحد من الإرهاب. كما أن تدخلها غير المدروس في الشأن العراقي، وارتكابها سلسلة من الأخطاء، أفرز حالة لا يمكن الاطمئنان إلى المسارات التي تتجه إليها. فقد أصبح السنة هناك، مع انكماشهم، بين سندان التيارات المتطرفة من الشيعة والسنة. ومع كل تحرك لقاعدة العراق، يدفع السنة الثمن مضاعفا، باعتبار أنهم الوقود الذي عليه أن يدفع الثمن. والحالة نفسها، يمكن الحديث عنها في المسألة الصومالية، التي تم تنفيذها من خلال وكيل إفريقي ساعد في تقليم أظافر المحاكم الإسلامية، التي جاءت حاملة نفس غباء طالبان في التعاطي السياسي، فأطلقت العنان لهامش الممنوع الذي يهتم بالشكليات، بدءا من الأغاني ومرورا بالأمور الأخرى، في تحد لمجتمع كان ولا يزال مرتهنا ومختطفا من قبل الميليشيات المتحاربة، وعندما حاول الصوماليون ـ كمواطنين ـ احتضان المحاكم، كانوا يرون فيها المنقذ الذي سينالون على يديه المن والسلوى، فإذا بهم يفاجأون بتصدير أيديولوجية شكلية لا تسبر أغوار المشكلات الحقيقية التي يعاني منها المجتمع هناك. وهكذا وجد الوكيل الأمريكي، الطريق ممهدا أمامه، ووجدت الميليشيات أنها أخطأت في قراءة مستقبل البلاد على يد المحاكم الإسلامية. لكن الوكيل لا يزال يتخبط ويعاني من جحيم التورط في حرب بين أطراف تقول في النهار ما تنقضه في الليل. لقد قايضت أمريكا، في مقابل مشاركة غلاة محسوبين على السنة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، السلم والأمن من أجل انتقام ما انفك يتواصل حتى وصلنا إلى مرحلة من «الفوضى الخلاقة» وفقا للمصطلح الذي تم ترويجه عبر الإدارة الأمريكية. لكن هذه الفوضى، لا يمكن أن تكون خلاقة. فالنفخ في قربة الطائفية، يجعل الاحتقان يتزايد، ولقد شهدنا كثيرا من المشاهد، التي جعلت حتى أكثر المحايدين يتخوف مما يمكن أن تسفر عنه هذه الأمور من نتائج، يمكن أن توقد نيرانا سبق أن اشتعلت منذ قرون وأكلت الأخضر واليابس. في مقابل ذلك تقلصت الفرص أمام العقلاء في العالم الإسلامي، من مختلف المذاهب، وأصبح المأزق أكثر صعوبة. إن وجود بلدان مثل مصر والسعودية، على رأس القمر السني ـ كما يحلو للبعض أن يردد ـ وتمتعهما بالقوة، هو الشيء الذي كان يمثل الإطار وصمام الأمان. إلا أن تراجعات ما بعد أحداث 11 سبتمبر، أسهمت في إشاعة أجواء عدم الثقة، وساعدت في إيجاد نوع من الفراغ، الذي إن لم يملأه وعاء معتدل، فإن النتائج ستكون أكثر صعوبة وخطرا. ولعل هذا الشعور هو الذي دفع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، إلى العمل من خلال سلسلة محاور عربية وإقليمية، في سعي حثيث لنزع الفتيل الذي يبدو أنه يحتاج إلى تضافر جهود دولية تتعامل مع الموقف بمنتهى الجدية والحرص. ولعل زيارة نجادي إلى السعودية، ثم انعقاد القمة العربية في الرياض في ظل حضور دولي لافت خير دليل على ذلك. لقد استشعر كثيرون أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، تحولت إلى نوع من المحاكمة، حتى للنوايا الحسنة، وهكذا رأينا أن الاتهامات المتتالية، أسهمت في إغلاق جمعيات خيرية، وتقليص نشاطاتها خارجيا، من باب «الباب الذي يأتيك منه ريح»، وهذا حق مشروع للدول التي سارعت إلى ذلك، ما دام أن الأمر أخذ اتجاها لا علاقة له بالأغراض النبيلة المرجوة من مثل هذه النشاطات. ليس معنى ما سبق أنه لم تكن هناك أخطاء. لكن كثير من الدول ـ مثلها مثل أمريكا ـ عكفت على دراسة ومراجعة كل خلل يمكن أن يتسلل منه الإرهاب، وبادرت إلى إغلاقه. هذا التجفيف للمنابع الخاصة بالتمويل، والمراجعة للجوانب الفكرية، لم يساعد أبدا في إعادة إنعاش ومعالجة الانكماش الذي فرضته الأحداث الإرهابية التي شهدتها أمريكا تحديدا. نحن هنا لا يمكن أن نغفل سلسلة الخسارات التي نالت المسلمين في الغرب بشكل عام، فقد خسروا مزايا كانوا يتمتعون بها، وحقوقا كانت من البدهيات بالنسبة لهم، مثل قضية الحجاب التي لا تزال فصولها تشهد مزيدا من الخسائر بدءا من فرنسا وانتهاء بريطانيا. لكن كل هذا لم يحقق السلامة التي تنشدها المجتمعات، فالتضييق الذي حصل، في مقابل الصفقات التي تم إبرامها مع جهات أخرى، في مقدمتها إيران سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لم يحقق لصانع اللعبة سوى تغيير اللاعب الرئيسي في مناطق معينة، مع الإبقاء على حالة الفوضى، وهذا ما أثبتته الأيام. وإذا كان الاعتقاد أن الحكومة العراقية الحالية، جاءت بشكل ديموقراطي، فقد أسهمت ممارساتها في عدم تفعيل سطوتها بالشكل الذي يحقق الأمان لكل الأطياف. صحيح أن النموذج العراقي، من التعقيد، بحيث لا يمكن تحميل الحكومة هناك المسؤولية، لكن هذا النموذج يحمل في ثناياه مزيدا من التفجيرات للأوضاع. والصحافة العراقية، وعدد لا يستهان به من قنوات التلفزة هناك، وكذلك منابر المساجد تخوض معركة موجهة وذات خط واحد يذكي الروح الطائفية، ويذكرنا بالحملات التي كانت تشنها إيران مع وصول آية الله الخميني إلى سدة الحكم في أعقاب سقوط الشاه. كما يذكرنا بالحركة المضادة التي كان يؤججها النظام العراقي الآفل، إبان الثمانينيات بدعوى حماية البوابة الشرقية، فيما كان يطلق عليه «قادسية صدام» حينها. إن انكماش السنة، أو تهميش الشيعة، حالات لا يستقيم معها أي سلم مدني في منطقة الشرق الأوسط. وإذا كان بوش الابن جادا في البحث عن استراتيجية جديدة، تفضي إلى نتائج إيجابية، في ما تبقى له من وقت في سدة الحكم، فإن عليه أن يفكر كثيرا في إيجاد حل يعيد مارد الطائفية إلى قمقمه. فالعراق، الذي تشتعل فيه هذه الجذوة، كان حتى ما قبل احتلال العراق، لا يعاني من هذا النفس الخبيث، بنفس الحدة التي وصل إليها الوضع الآن. ولكنه عاد مجددا، لأن لاعبا ـ مختلفا هذه المرة ـ في البوابة الشرقية يريد أن يستحوذ سياسيا، فأدار الموجة على الشأن الطائفي وعزف عليها. النتيجة تكريس الفوضى الخلاقة ـ على الطريقة الأمريكية ـ لكن هذه الفوضى، بدأت تحرق أصابع بوش، وأصبح على اللاعبين الآخرين أن يتدخلوا من أجل إنقاذه، أو إنقاذ العراق ـ سيان. ولكن حتى التدخل المطلوب، لا يتم وفقا لأجندة حقيقية وملمة بالتفاصيل، وهنا مكمن الخطورة والتحفظ أيضا، فالنار مشتعلة، وإن لم يكن أي تدخل يحمل بشارات الغيث وهطول الماء لإطفائها، فلا داعي له. وهذا هو المضمون الذي تؤكد عليه الرسائل السياسية السعودية والمصرية وأيضا التركية في أكثر من مناسبة. إن الحلّ الأسلم، يكمن في إعادة النظر لكل الأطياف ـ في العراق وسواها ـ باعتبارهم مواطنين. هذا التأكيد على مفهوم المواطنة، بإمكانه أن يقلص من أوار هذا الحقد الذي تم زرعه، ولا يمكن نقضه، كما أنه يعيد رسم الخارطة بشكلها الأمثل. إن السنة والشيعة في العالم العربي ـ وفي العراق حاليا ـ هما جزء طاغ ضمن الطيف العراقي، إلى جانب الأطياف الأخرى، ومن المهم السعي إلى عدم تهميش أي طرف أيا كانت الأسباب. هو أمر يحتاج للتسامي عن الأحقاد والحسابات «الماضوية»، من أجل بناء مستقبل زاهر، يمكن بعدها تصديره إلى المحيط للاقتداء به، ففي سوريا اللصيقة بالعراق تتحكم طائفة أقلية في مصائر أكثرية، وفي إيران اللصيقة بالعراق تتحكم أكثرية غالبة بمصائر أكثر من أقلية، وتمارس ضدها سلسلة من المظالم المسكوت عنها. إن العنوان الحالي، للحالة العراقية، هو: انكماش سني بسبب الأذى والضيم، وعدم استقرار ـ تستفيد منه أطراف كثيرة في مقدمتها إيران ـ من أجل خدمة أجندة بعيدة المدى، ربما لا تستحضر هم طائفة أو أخرى، بقدر ما تتربص من خلال هذا المد الطائفي، من أجل تحقيق أبعاد أكثر خطورة مما نتصور. * كاتب سعودي suhail@srpc.com