ماري حدشيتي
ما يتعرض له المسيحيون خطير وكبير ومؤلم، ليس فقط عليهم، بل على منطقة الشرق الاوسط والشعوب كلها وما تتوقع أن يصيبها حين يراد اقتطاع فلذة من كبدها، فليست تلك القطعة، اي ابناء الديانة المسيحية، هي التي ستتألم وحدها، بل المنطقة جمعاء، وستدفع الثمن. المسيحية هي ديانة جاءت لبناء الانسان في مجتمع تملؤه المحبة والسلام والطمأنينة هذا ما تقوله احدى المرجعيات المسيحية المختصة بالشأن المسيحي في الشرق الاوسط، والتي تتابع بالقول
فنحن ثابتون في انتمائنا للبلاد المقدسة وفي ايماننا وروحانية كنائسنا الممثلة بشخص يسوعنا الحبيب. فسلاحنا الحقيقي هو العلم والايمان والثقافة المتمسكة بالقيم المسيحية المكللة بالعطاء والتسامح والمحبة وقبول الآخر والنهي عن العنف والحروب، فنحن ملح هذه الارض واصحابها الاصليين وتاريخنا وحضورنا العريق جذوره متصلة في صلب الحضاره العربية صامد لا يتزعزع.
وتتابع المرجعية انه في فلسطين، سوريا، لبنان، العراق ومصر كان المسيحيون غالبية قبل مجيء الإسلام بكثير وكانوا منظّمين جدًا. وفي زمن الفتح العربي، كان «أهلُ الكتاب»، اليهود والمسيحيون، في دار الإسلام يُعاملون بتسامح كأقلياتٍ دينية تحظى بحماية الإسلام، ويُعترف بهم كمؤمنين بالله على الرغم من رفضهم الإيمان بالنبي محمد. ولم يكن الذكور الناضجون ملزمين على الاهتداء إلى الإسلام، على الرغم من وجود هذا الخيار امامهم، ولكن كان عليهم دفع الجزية كثمنٍ مقابل هذه الحماية. بالإضافة إلى هذا، كانت تفرض احيانا على المسيحيين بعضُ الشروط كملابس خاصّة تميزهم. وفي القرن الثاني من الإسلام أصبحت الشرائع متشددة أكثر. وكانت الفترة الأولى من الحكم الأموي متسمة بموقفٍ منفتح ومتسامح نحو المسيحيين. وقد تكون إحدى الأسباب الرئيسية هي حاجة المسلمين إلى معرفة الأمور الإدارية والاقتصادية من المسيحيين واستلهام خبرتهم في الحكم وتنظيم الأراضي التي كانوا يأخذونها. كان القديس يوحنا الدمشقي، على سبيل المثال تقول المرجعية، واحدًا من أوائل اللاهوتيين المسيحيين المؤثرين. إذ خدم هو وأبوه كمديرين في الخلافة الأموية. ويوحنا قديس في الكنيسة الكاثوليكية، درس الحساب، الهندسة، اللاهوت، الموسيقى وعلم الفلك، وفي عام 1883 أعلنته الكنيسة بشخص البابا ليون الثالث عشر معلمًا للكنيسة يُلاحظ في موقف المسلمين تجاه المسيحيين تناقض معين لأسباب اجتماعية وسياسية؛ إذ كان المسلمون أحيانًا منفتحين ومتسامحين، وفي أحيانٍ أخرى متشددين.ويُبررُ هذا الموقف من قراءة بعض الآيات القرآنية. وتشير المرجعية بان الخلافة العباسية افتتحت فترة تبادلٍ ثقافي واسع وخصب نتيجة لانتشار اللغة العربية. وبتكليف من الخلفاء في بيت الحكمة، تعهد المسيحيون، خاصّة أولئك الذين من أصول سريانية، بعملٍ ضخم من الترجمة من اليونانية إلى السريانية والعربية، وخاصّةً في مجال العلم والفلسفة والطب. وبهذه الطريقة أصبحت معارفُ العالم اليوناني الروماني متوفرةً كجزءٍ أساسي من الثقافة العربية الإسلامية. ووسّع نقلُ الأعمال الكبرى إلى الحضارة الإسلامية المجالات الفكرية في العالم الإسلامي، كما ساهم بصورةٍ ملحوظة في ازدهار الفكر السياسي والديني في الغرب. ويستمر مسيحيو الشرق الأوسط في البحث عن هذا الدور اليوم عاملين كجسرٍ للحوار البنّاء والضروري بين الغرب والإسلام. ولم يكن رجال الدين أصحاب الأدب فحسب، بل أيضاً العلمانيون المثقفون والأطباء. من بينهم الشهير بختيشوع، الطبيب المسيحي في مدرسة الطب في جنديشابور، الذي كان يخدم ويعالج الخلفاء وعائلاتهم. كان هؤلاء المؤلفون لاهوتيين في الوقت ذاته. وكان العرب يستخدمون مصطلح «علم الكلام» عن الله «اللاهوت»، وهناك نصوص بالسريانية مخصصة للاستخدام الداخلي للمسيحيين، لتثقيفهم في مبادئ الإيمان ومساعدتهم في الإجابة عن بعض الأسئلة والاعتراضات التي يتقدم بها المسلمون. وهناك نصوص مكتوبة بالعربية، بعضها ذات طبيعة دفاعية وأخرى جدلبة.
وتشير المرجعية بأن هناك اليوم مسلمون كثيرون لا يعرفون شيئا عن تاريخ المسيحيين في تنشئتهم الدينية والفكرية واسهامهم في بناء الحضارة الإسلامية. بينما أصبح ضروريًا أن يُعرّف أكثر بهذه العلاقات التاريخية الإيجابية بين المسيحيين والمسلمين وأن تُدرك أهميتها للإسلام بصورةٍ أفضل في القرنين الثاني عشر والثالث عشر بعد أن ساهموا في تطوير الحضارة العربية والفارسية، عاش المسيحيون والمسلمون في عالمٍ ثقافي مشترك تقاسموا فيه القيم والثمار، وخلال الفترة العثمانية، دار جوهرُ النقاش حول تطبيق نظام الملة مجموعة قومية أو دينية غير مسلمة كمصطلحٍ جديد تُعرف به حالة الجماعات الدينية غير المسلمة . وكان للملة تأثيرًا عميقًا في هوية الجماعات المسيحية المختلفة وتركت أثرًا لا يُمحى في عقول الناس والمؤسسات. ولا تفهم مشاكل عديدة يواجهها المسيحيون في العالم الإسلامي اليوم من دون الأخذ بالاعتبار خبرة نظام الملل التي بقيت بطريقةٍ أو بأخرى في الدول الحديثة ذات الأغلبية المسلمة. مع ذلك يبقى تأثيره غامضًا ويحتاج إلى مزيد من البحوث. وبالنسبة لمسألة العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في زمننا، لابدّ من الاستفادة من خبرة الماضي وخبرة الجماعات المسيحية في العراق، سوريا، لبنان والهند الذين طوروا صيغة لقاء مع أقربائهم المسلمين في مجال الحوار والشهادة المسيحية والتعايش والتعاون. نأمل أن يساعد هذا التقليد الطويل المسيحيين في الحفاظ على هذا الإرث الغني والاستمرار بالمساهمة في حضاراتهم.
وتضيف المرجعية بأنه لا يجب أن ننسى بأنّ المسيحية السريانية هي الركن الرابع من التقليد المسيحي الأول إلى جانب العبرية واللاتينية واليونانية لان المسيحية المشرقية كانت وستبقى عامل حيوي لرفاهية الدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط. وهي إلى جانب الحضارات المسيحية المعاصرة الاخرى في الشرق الأوسط تضفي على المنطقة طابع التعددية والتنوع. وخسارة المسيحية في الشرق الأوسط سوف تحدث تغييرًا جذريًا في معالم الحضارة والمجتمع في بلدان مثل العراق، سوريا، ومصر وفي لبنان بصورة خاصة وتمثل ضربةً قاسية لأي رجاءٍ في التعددية والديموقراطية.
وتختم المرجعية بان هجرة المسيحيين من الشرق الأوسط، كتلك التي تحدث الآن، لها تأثير ذات أبعاد تاريخية في العلاقات الإسلامية المسيحية وباختصار، المسيحيون جزءٌ مكمّل للنسيج الوطني العربي حيث ساهم المسيحيون في تحقيق الحضارة العربية الإسلامية إلى جانب إخوتهم المسلمين. ولا بدّ أن يكون من صلب اهتمام المنطقة والغرب والجماعة الدولية بكليتها، أن يبقى المسيحيون في الشرق الأوسط كمواطنين يتمتعون بمساواةٍ كاملة أمام القانون وقادرين بالتالي على الاستمرار في المساهمة في حضارات بلدانهم الى جانب الاخوة المسلمين والا فتهجير المسيحيين من الشرق يعني «رحمة عليك ايتها القومية العربية».