كان العرب عند بداية البعثة المحمدية مجموعة قبائل متفرقة، لكل قبيلة مجالها اليومي الحيوي الخاص بها، و كان الرعي و الغزو المهن الرئيسية السائدة عندهم، إضافة إلى التجارة التي تركزت بشكل رئيسي في مكة، و الزراعة قي الطائف ويثرب واليمن.
لم تكن عند العرب حكومة مركزية، لكنهم كانوا واعين تماماً لما يجري حولهم، و يدركون أن أنظمة الدولة المركزية الممتدة حولهم تقوم على الرق و العبودية، رغم أن مفهوم الرق كان سائداً عندهم أيضاً، إما بالسبي في الغزوات، أو بالشراء من أسواق النخاسة.
كان العرب متفرقين، هذا صحيح، لكنهم كانوا أحراراً غير تابعين في معظمهم لأحد. و النظام الاجتماعي عندهم يقوم على الأسرة العشيرة و القبيلة. فقريش مثلاً كانت تتألف من عشرة بطون، أحدها بنو هاشم الذين ينتسبون مع بني أمية إلى بني عبد مناف، وكان الرسول الأعظم منهم. و قد مارس النبي (ص) مهنة قومه في الرعي و التجارة.
أما من الناحية الأخلاقية، فقد اتصفوا بكل ما يتصف أمثالهم من حمية أسرية وعشائرية وقبلية، وكرم وصدق ووفاء، ولم يكن لديهم معايير أخلاقية مزدوجة.(النفاق مثلاً لم يكن له وجود في مكة، إذ لم يرد ذكر النفاق و المنافقين إلا في الآيات المدنية). ولقد ساعد مفهوم الانتماء الأسري في حماية الرسول الأعظم خلال المرحلة المكية (أبو طالب / المطعم بن عدي). كان النبي عند أهل المرحلة المكية صادقاً، لكنهم لم يروا من دعوته إلا الجانب السياسي، جانب الزعامة للأسرة و القبيلة، دون أن يخطر في بالهم أن الدعوة ستتمكن من إقامة دولة مركزية.
و من هنا نفهم كيف كانوا يرون الأمور حين عرضوا عليه الثروة و الملك، دون أن يفكروا بقتله أو اعتقاله إلا في أواخر المرحلة المكية، حتى بعد أن فكروا بذلك رسموا خطة يضيع بها دمه بين العرب، لا خوفاً من بني هاشم من الناحية العسكرية، بل خوفاً من العار الذي سيلحق بهم.
من الناحية العقائدية، كان العرب وثنيين، لكنهم كانوا يعترفون بالإله الواحد، وما الأصنام عندهم إلا لتقربهم إليه زلفى. أما من الناحية الفكرية والدينية، فقد كانوا منفتحين على (الآخر)، وكان هذا الآخر مقبولاً لديهم. فمن العرب من هو نصراني أو يهودي أو حنيفي أو وثني، ولم يكن أحد منهم يشعر بالعار أو النقيصة من وجود الآخر. و كان لسانهم العربي قد بلغ مرحلة من التطور يستطيع معها حمل المعاني السماوية المنزلة في الرسالة المحمدية.
هذه المزايا التي اجتمعت للعرب زمن النزول، من اعتزاز بالحرية ونفور من التبعية واحترام الآخر والتعايش معه وتقديس المروءة وإكرام الضيف وتلبية المستغيث والوفاء بالعهود، كل هذا جعلهم مَؤهلين لحمل الرسالة السماوية المنزلة. إنما بقيت عندهم مشكلة الزعامة والسياسة والملك. فقد كانت الزعامة موزعة بين رؤوس القبائل والمفهوم التنظيمي للدولة المركزية غير موجود عندهم، وبالتالي دفع الأموال لهذه الدولة المركزية مهما كان شكلها (ضرائب / زكاة / إتاوة)، والخضوع لزعامة مركزية تختفي تحتها الزعامات الأسرية والعشائرية والقبلية، كان بعيداً عن تصوراتهم، بعيداً عن وعيهم السياسي.
من الناحية الاجتماعية كانت مسألة الرق (سبياً أو شراء) موجودة ومقبولة في وعيهم الاجتماعي. ولما كانوا يعيشون على الرعي والغزو والتجارة، وكانت الزراعة والمهن الأخرى الصناعية بيد الأغراب والموالي، فقد كان دور المرأة ثانوياً في حياتهم، إذ كانت في جميع حالاتها الاجتماعية تنسب إلى الرجل، وكان مفهوم ولي الأمر سائداً قبل عصر التنزيل. فرغم أن السيدة خديجة بنت خويلد كانت صاحبة مال وتجارة وقرار مستقل، إلا أن النبي (ص) حين خطبها قبل البعثة، جاء في وفد من ذكور بني هاشم، واستقبلهم الذكور من أهل خديجة، وتمت الخطبة والزواج.
ومازالت ذهنية ولي الأمر بالنسبة للمرأة هي التي تحكم وعينا الاجتماعي حتى اليوم. أما حرية الفكر وحرية الكلمة عند العرب في عصور ما قبل التنزيل فمن نافلة القول الحديث عنها، ونحن أمام أخبار الأسواق والمواسم، وأمام شعراء، بيت واحد من أحدهم يرفع قبائل بكاملها وينزل قبائل بكاملها، ولعل أبلغ ما يحضرنا في هذا المجال، قول من قال: ما زالت قريش تفخر علينا بالسقاية والسدانة والرسالة إلا الشعر، حتى جاء ابن أبي ربيعة فسادتنا في كل شيء.
لا أريد أن أستفيض في ما استفاض فيه الكثيرون، أريد أن أركز على بعض طبائع القوم الذين أسس النبي (ص) منهم وبينهم دولة مركزية فتية عاصمتها المدينة المنورة تضم كل شبه جزيرة العرب، كان فيها (ص) نبياً ورسولاً ومؤسس دولة، وامتزجت فيه هذه الجوانب الثلاثة، ومع ذلك نسمع أبا سفيان يقول للعباس، يوم فتح مكة، إن ملك ابن أخيك غدا عظيماً.
لم تكن المشكلة التي نشأت منذ اللحظة الأولى بعد وفاة النبي مشكلة نبوة أو مشكلة رسالة، إذ لا أحد وضع هاتين موضع الشك والتساؤل. حتى حروب الردة كانت حروباً سياسيةً وحدويةً لمنع الانفصال والمحافظة على الدولة ومركزيتها. بقي الملك ووراثة الدولة هو المشكلة الأساسية، فحاول كل طرف ينادي بأنه الوريث الأحق لهذه الدولة، أن يسبغ على دعواه صفة الشرعية، اتكاء على آيات الرسالة وعلى أحاديث النبوة، فاختلط مفهوم الرسالة بمفهوم النبوة بمفهوم الملك، وأصبحت المشكلة البحث عن غطاء أيديولوجي يعطي الحكم صفة الشرعية، وكان الأمر عسيراً بالغ الصعوبة، باعتباره جديداً عليهم، يرتبط كما أشرنا بمفهوم الأسرة والعشيرة والقبيلة، إلا أن الحاجة في الجانب المقابل كانت ملحة لغطاء أيديولوجي جديد لوراثة الملك.
والمتأمل في آيات الكتاب كلها، لا يجد نصاً يحدد شكل الحكم، أو مسألة وراثة الملك، إلا في آية واحدة هي قوله تعالى{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}النمل 16. لكنهم اختلفوا في تفسيرها، فمنهم من قال المال والملك لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث، ومنهم من قال بل النبوة، فرد عليهم آخرون بحديث نبوي مشهور يقول: نحن معشر الأنبياء لا نورث(19). لكنهم جميعاً تحاشوا أن يتخذوا من الآية غطاء أيديولوجياً يمنح دعواهم الشرعية المطلوبة، لعدم وجود ابن ذكر للنبي يرثه كما ورث سليمان داوود.
ولم يجد الباحثون عن الشرعية في التنزيل الحكيم سوى آيات الإرث وآيات طاعة أولي الأمر، وكلا النوعين يصلح أن يكون غطاء منشوداً. فالنبي كمؤسس للدولة وقائد لها يورث القيادة لمن هو أقرب طبقاً لأحكام آيات الإرث، وهذا هو الغطاء الإيديولوجي الذي استخدمه العباسيون لشرعية حكمهم، بعد أن حصروا معنى الولد في الآية بالذكر، ورسخوا مقولة أن البنت لا تحجب، وأرسوا قاعدة أن الإرث في آية النحل هو للمال و الملك، وتم بذلك إبعاد فاطمة كوإرثة، كما تم إبعاد علي كرم الله وجهه باعتباره ابن عم النبي والعم أولى.
أما طاعة أولي الأمر، فهي الأساس الذي أقام عليه الأمويون حكمهم، وهي ما نفهمه اليوم بسياسة الأمر الواقع، التي تحرم معارضة ولي الأمر بعد استقراره في ولاية الأمر، كائنة ما كانت الطريقة التي استلم بها ولاية الأمر. ونسبوا للنبي أمره بوجوب طاعة الولي ولو أخذ الأموال وجلد الظهور، وروجوا مقولة (الطاعة لمن غلب) وجعلوا منها غطاء مبرراً ومسوغاً يعطي حكمهم صفة الشرعية.
فإذا عدنا إلى ما قبل الحكم الأموي، والى زمن وفاة النبي (ص)، وجدنا أن كل هذه الأغطية لم يكن لهل محل في النزاع. فحين توفي الرسول الأعظم، كان ثمة أنصار ومهاجرون، أنصار فيهم الأوس والخزرج، ومهاجرون فيهم قريش ببطونها العشرة. وكان صحابة الرسول من هؤلاء وأولئك، كلهم عاش معه وعرفه وسمع أقواله ورأى أفعاله. ورغم أن ما حدث في السقيفة لا يخرج عن كونه مسألة سياسية تمركز الخلاف فيها بين مهاجرين وأنصار، إلا أننا لم نجد أحداً احتج بحديث النبي (ص): الأئمة من قريش.
ولم يخرج النقاش يومها عن الأسبقية في نشر الرسالة وفي تأسيس وتثبيت دعائم الدولة، حتى أن الأنصار رضوا يومئذ أن يكون الحكم بالتناوب، لولا أن عمر بن الخطاب سارع بمبايعة أبي بكر، حسماً للخلاف والنزاع أن يستشري ويستفحل، ورفض سعد بن عبادة زعيم الأنصار أن يبايع، فداسته الأقدام وهو مريض، ثم مات بحوران في خلافة عمر وزعموا أن الجن قتلته.
وما كادت خلافة عمر بن الخطاب تقارب نهايتها حتى كانت الدولة قد كبرت والغنائم تتدفق كالسيل إلى المدينة المنورة، ودخل في العملية عنصر جديد إلى جانب الملك ورئاسة الدولة هو المال. وانتقلت الخلافة إلى عثمان، وبدأت مظاهر العصبية الأسرية تطبع السلطة بشكل واضح. ومضى عثمان يعين أقاربه من بني أمية في السلطة، لا على أساس الأمانة والكفاءة بل على أساس القرابة. ولا على أساس البلاء الحسن في الإسلام والماضي الناصع، بل على أساس الرابطة الأسرية وحدها. ولعل تعيينه لأخيه من أمه عبد الله بن أبي سَرْح على خراج مصر(20)، أحد الأدلة الكثيرة التاريخية على ما نقول.
فالدولة لم تكن وقتها بحاجة إلى المال، وقد صار عندها أكواماً بعد فتح الشام، وكان يجدر بالولاة أن يرفقوا في تحصيل المفروض على الأرض والغلال، لكن العمال والولاة أمثال ابن أبي سرح، لم يكن همهم سوى زيادة حصيلتهم من خيرات الأرض، ولو أدى ذلك إلى بوارها. لعل خير ما يوضح لنا هذه الروح، الحوار الذي دار بين عمرو بن العاص (وكان يجمع بعد فتح مصر إمارة الجند وولاية الخراج ثم عزله عثمان) وبين ابن أبي سرح والي الخراج الجديد، وقد جاءه الأخير متباهياً وغامزاً فقال:
· لقد درت الناقة بعدك يا أبا عبد الله..
· فقال عمرو:
· لكن فصيلها نفق جوعاً..
يعني أنكم أخذتم كل اللبن ولم تتركوا للرضيع شيئاً. وهذا كله أدى إلى ولادة الاتجاهات والخلافات الكثيرة المتعددة.
وعندما استلم علي بن أبي طالب الخلافة، كان مفهوم التعصب الأسري قد غدا واضحاً تماماً، وكانت القوة المالية والعسكرية والسياسية قد خلصت لبني أمية، فاستطاعوا أن يجعلوا من قميص عثمان حجة ومشكلة، في وقت كان فيه الكثير من كبار الصحابة قد ذهب، وفي وقت كان وضع الحديث النبوي قد عمَّ، ثم استشرى بعد انتصار الأمويين وبانتهاء المرحلة الراشدة بشكل مرعب.
إننا نتفق مع كل من يقول بخطورة وضع الأحاديث النبوية، فالكذب على لسان النبي ليس كالكذب على لسان غيره، ولقد عرضنا لهذا بالتفصيل في موضع آخر من هذا الكتاب فلا نعيد. لكننا ننبه هنا إلى ما هو أخطر من الوضع. إنه تأويل الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلاً يخرج بها عن مقاصدها، ويبترها عن سياقها الذي قيلت فيه. واقرأ معي هذا الخبر يرويه البخاري في صحيحه ج9 ص68:
(عن سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبد الله بن عمر فرجونا أن يحدثنا حديثاً حسناً، فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن حدثنا عن القتال في الفتنة، فالله تعالى يقول{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} , فقال أتدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد (ص) يقاتل المشركين وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك) أهـ.
يشير الرجل في الخبر إلى الآية 39 من سورة الأنفال:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيبتر الآية عن سياقها، فالله تعالى يقول في الآية 38: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ..} والله تعالى يتابع في الآية 39 ليقول{وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا …}.
فمفهوم الفتنة ومعناها والمقصود بالقتال لا يمكن أن يتحدد إلا ضمن السياق، ورحم الله ابن عمر. ومع ذلك كله فقد ذهب كثير من القدامى إلى فهم الفتنة بالمعنى الذي ذهب إليه الرجل، وتابعهم تقليداً الكثير من المحدثين نذكر منهم طه حسين في كتابه الشهير (الفتنة الكبرى).
قلنا إن الأمويين وضعوا لحكمهم غطاء أيديولوجياً يقوم على طاعة أولي الأمر، تكريساً لواقع قضاه الله ولا سبيل إلى رده. فكان عليهم أن يقولبوا مفهوم القضاء والقدر بما يتناسب مع دعم وتثبيت ملكهم، لذا أسرع فقهاء السلطان إلى وضع تعريف يقول بأن قضاء الله هو علمه الأزلي، وأن قدره هو نفاذ هذا العلم. فالله يعلم منذ الأزل أن بني أمية سيستلمون الحكم، إن كان هذا قضاءه فلا سبيل إلى وقف القدر القاضي بنفاذ هذا القضاء، وكل من يعارض أو يحارب حكم بني أمية فهو إنما يعارض ويحارب قضاء الله وقدره. وبذلك ضمنوا الشرعية لملكهم من جهة، وبرروا مظالم حكامهم من جهة أخرى.
تروي الأخبار أن الوليد بن عبد الملك قال للزهري: ما حديث يحدثنا به أهل الشام، أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات؟ قال باطل يا أمير المؤمنين. أنبي خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟ قال بل نبي خليفة. قال فان الله تعالى يقول لنبيه داوود {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ص 23. فهذا وعيد لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي؟ قال (إن الناس ليغووننا عن ديننا) وراح الأمويون وراح عصرهم.. وبقي التعريف المشوه للقضاء والقدر معمولاً به حتى اليوم.
وقلنا إن العباسيين اتخذوا لحكمهم غطاء أيديولوجياً يقوم على أساس القرابة من الرسول (ص) وحقهم في ميراثه. لكن هذا الغطاء إن أجدى ونفع بمساعدة أهل خراسان في استعادة الملك الذي استلبه بنو أمية من بني هاشم إلا أنه لا يجدي نفعاً في الخلاف مع الطالبيين والكل هاشمي. فكان على العباسيين أن يقولبوا آيات الإرث والوصية بشكل تصلح معه لأن تكون غطاء شرعياً لحكمهم، فصار الولد ذكراً، رغم قوله تعالى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} النساء 4.
ورغم أن سامع هذا القول وقارئه لا يحتاج اليوم إلى دكتوراه في علوم القرآن واللغة، ليفهم أن الأولاد فيهم الذكور وفيهم الإناث، وأن الولد يكون ذكراً ويكون أنثى. ثم صارت الأنثى لا تحجب، لإخراج فاطمة وأبنائها من اللعبة السياسية، ثم أرسوا قاعدة “لا وصية لوإرث” لإخراج الإمام علي وأبنائه وأحفاده من لعبة الحكم والملك، ونسبوها للنبي (ص)، فأسسوا بذلك لأخطر سابقة عرفها التاريخ الإسلامي، هي أن السنة، أي الحديث النبوي، ناسخة للقرآن، وأن القرآن أحوج إلى السنة من السنة للقرآن، تعالى الله عما يصفون.
لقد كان الإمام الشافعي على رأس من قال بهذا، رغم أنه في كتابه “الرسالة” ينكر دور الآحاد في مجال العقائد، ومع ذلك يأخذ بحديث آحاد من أهل المغازي، فكان تناقضه مع ذاته في هذه المسألة أبلغ في إثارة الدهشة من تناقضه مع غيره، لكنها السياسة.. والسير في ركاب أهل الحكم.. التي وجد الشافعي نفسه معها أمام مفترقات خطرة. فإن هو قال بأن البنت ولد، وبأنها تحجب كالذكر تماماً، صار شيعياً، وإن هو قال بالتفريق في مسألة إرث الأنبياء بين النبوة والملك، صار خارجياً. وهما أمران عند العباسيين أحلاهما مر!!
كان العباسيون يرتكزون في مشروعية حكمهم وتغطيته على أحكام آيات الإرث بعد صقلها لصالحهم من جهة، وعلى إرادة الله واختياره من جهة أخرى. وإذا كان الأمويون قد أوجدوا مفهوماً للقضاء والقدر، فتحوا به باب القول بالجبرية، الذي يدخل تحت عنوان حتمية المحكوم والحاكم على حد سواء، فإن العباسيين أوجدوا مفهوماً للإرادة الإلهية، أخرجوا به الحاكم من خندق الجبرية، إلى فضاء الحكم باسم إرادة الله ومشيئته.
ففي حين يقول عثمان بن عفان، وهو من بني أمية، لمعارضين يطلبون منه التخلي عن الخلافة: والله لا أخلع ثوباً ألبسنيه الله. واضعاً بذلك أساس القضاء والقدر والجبر عند الأمويين من بعده، نجد أبا جعفر المنصور يقول في خطبة له: (أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسم بإرادته وأعطي بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلاً إذا شاء فتحني لأعطياتكم وفيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني..).
فالحاكم العباسي إنما يعمل فيعطي أو يمنع بمشيئة الله تعالى، باعتباره خليفة النبي ومن أهل بيته الذين أراد الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً. وهذا ما نراه في خطابهم للناس. أما في خطابهم للطالبيين، منافسيهم الهاشميين على الخلافة، فقد كان يبرز واضحاً الاتكاء على تفسير آيات الإرث. ولعل أبرز ما يمثل هذا الاتجاه في التغطية الإيديولوجية، الإمام محمد النفس الزكية.
يروي الطبري في تاريخه مج7 ص566، أن الإمام محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية (رض) خرج على طاعة أبي جعفر المنصور وخلع طاعة بني العباس بعد أن عمل المنصور في الطالبيين سجناً وتقتيلاً، فأرسل إليه المنصور يدعوه إلى التوبة ويعطيه الأمان له ولمن بايعه، فرد عليه الإمام محمد يدعوه إلى الدخول في طاعته وبيعته، آمناً على نفسه وماله، ويختم الرسالة قائلاً:
(وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالاً قبلي، فأي الأمانات تعطيني.. أمان ابن هبيرة، أم أمان أبي مسلم؟).
لكنه يسهب في مطلع رسالته بالاعتداد بنسبه إلى فاطمة والنبي وبأرومته الممتدة إلى الإمام علي كرم الله وجهه (وإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء)، ثم يمضي ليغمز بالمنصور ويعرض بأمه، وكانت بربرية تدعى سلامة (وإني أوسط بني هاشم نسباً، وأصرحهم أباً، لم تعرقّ فيّ العجم، ولم تنازع فيّ أمهات الأولاد). فيرد عليه المنصور برسالة يوضح فيها بجلاء ارتكاز العباسيين على آيات الإرث في إثبات الشرعية لحكمهم فيقول:
(…فقد بلغني كلامك وقرأت كتابك فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء، لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء، لأن الله جعل العم أباً وبدأ به في كتابه على الوالد الأدنى فقال جل ثناؤه عن نبيه يوسف {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} يوسف 38.
بهذه الفقرة، ومن خلال ثغرة عدم وضوح الفرق بين الأب والوالد، واتكاء على روح الذكورية السائدة يومها، يمهد المنصور ليتابع قائلاً:
(.. وأما قولك إنكم بنو رسول الله (ص)، فان الله تعالى يقول في كتابه {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الأحزاب 40. ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها؟ ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يرثون..).
ثم يختم رسالته، يرد على فخر الإمام بنسبه فيقول:
(..لقد بعث الله محمد (ص) وله عمومة أربعة، أنذرهم ودعاهم، فأجاب منهم اثنان أحدهما أبي، وأبى منهم اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه..).
(..وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسباً، وأصرحهم أماً وأباً، أنك لم تلدك العجم، أراك فخرت على من هو خير منك نسباً وأباً، إبراهيم بن رسول الله (ص)، وأمه أم ولد، وما خيار بني أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد..).
إن الرسائل المتبادلة بين الإمام محمد النفس الزكية والمنصور لا تتعدى بكامل نصوصها ثلاث صفحات، تصلح لأن تكون أرضية لبحث مستفيض في علم الكلام والعقائد وعلم الاجتماع. ومع ذلك قل من وقف عندها بتفصيل دقيق واضح ومتعمق.
فالمتأمل يجد الرجلين يتفاخران بالأنساب بروح قبلية جاهلية واضحة، وكأنهما نسيا في غمرة صراعهما على السلطة، أبسط تعاليم الرسالة المحمدية{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
والمتأمل يقف طويلاً أمام قول المنصور (..لأن الله جعل العم أباً وبدأ به في كتابه..) ثم يستشهد بالآية 38 من سورة يوسف. لكن سياق الآبائية في الآية سياق ملة ونبوة ومعتقد، وليس سياق سلطان وحكم، إضافة إلى أن الآبائية شيء والوالدية شيء آخر، مما ينتج عنه أن شاهد الآية عند المنصور ليس كما ينبغي. ويذكرنا هذا بآية اعتاد الهاشميون دائماً إشهارها في وجه الأمويين هي قوله تعالى {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ..} النمل 16.
كشاهد على حقهم في وراثة النبي بالملك والنبوة، غافلين عن أن الآية تتحدث عن والد وولدهما أنبياء بالأصل، مما لا ينطبق على ما يطالبون به، ويجعل استشهادهم بالآية ليس على ما ينبغي.
والمتأمل يقف عند قول المنصور (ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها أن الجد أبا الأم والخال لا يرثون) فيجد نفسه أمام أمور. الأول إشارته إلى أن السنة هي الحاكمة على القرآن في موضوع الإرث، وهو ما ذهب إليه الشافعي. والثاني زعمه إجماع جميع المسلمين على أن السنة جاءت بهذا، بينما يعلم الكل منذ عصر المنصور إلى اليوم، أن المسلمين لم يجمعوا على أمر من أي نوع خلال تاريخهم بأكمله، إلا شهادة الإسلام وشهادة الإيمان، وأنهم اختلفوا ومازالوا مختلفين على الصلاة والزكاة والصوم والحج وإقامة الحدود. أما الثالث، فإشارته إلى ميراث الجد والخال والخالة، وليس هذا موضع الخلاف بين العباسيين والطالبيين.
والمتأمل يقف طويلاً عند قول المنصور (..ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة..)، وفيه أيضاً مسائل. الأولى أنه يعتبر الإرث النبوي ملكاً وسلطاناً ونبوة، ناسياً أن النبوة اصطفاء شخصي ذاتي تقرره المشيئة الإلهية لإنسان بعينه، وليست متاعاً يقبل القسمة، ويؤول إلى أصحاب الحق فيه كل بحسب نصيبه.
الثانية أنه يعتبر البنت لا تحجب، وأن باقي تركة النبي تؤول إلى العم، ناسياً أن هذا بالأصل تأويل واجتهاد فقهاء العباسيين ولا إجماع عليه كما يزعم. الثالثة قوله: (ولا ترث ولا تجوز لها الإمامة) فأما الولاية فهي ولاية الأمر أي الحكم والسلطان. وهو هنا يقرر ذلك منطلقاً من أنها أنثى ناقصة عقل ودين من جهة، ومن أنها لا تحجب العم عن ميراثه من جهة أخرى. وأما الإمامة فهي خلافة النبي بنبوته وعصمته، ورغم أن هذا المصطلح لم يظهر عند الإمامية – كما يقول الدكتور موسى الموسوي – إلا في القرن الثالث الهجري بمعناه الذي نعرفه اليوم، إلا أنه كان معروفاً ومتداولاً منذ القرن الأول، بدليل وروده عند المنصور، بمعناه العام.
إن الوقوف بالتحليل أمام مثل هذه الوثائق على قلتها وندرتها، يبين لنا بوضوح كيف لعبت العصبية الأسرية والقبلية من جهة، والصراع على الحكم وتغطيته شرعياً من جهة ثانية، والروح الذكورية المتطرفة من جهة ثالثة، دوراً أساسياً في صياغة الفقه الإسلامي منذ تأصيله أول مرة، ودوراً أساسياً في تثبيت تأويل آيات الأحكام وجعل الحديث النبوي قادراً على نسخها، ودوراً أساسياً في نظرة الفقهاء إلى المرأة، وخاصة في مسائل الإرث والحجاب والقوامة واستلامها المناصب القيادية في المجتمع.