تذهب أدق التعريفات العلمية لمفهوم الحداثة أنها تعنى توفير أقصى درجات الاستقرار الاجتماعى لكافة مواطنى الدولة. وأنّ هذا الاستقرار لن يتحقق إلاّ من خلال منظومة سياسية /اقتصادية /اجتماعية / ثقافية تتبنى المساواة التامة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية وبغض النظر عن اللون والجنس .
وعلى أساس هذه المنظومة يتم توزيع عائد الناتج القومى على كافة المواطنين ، توزيعًا عادلا يعتمد على مبدأ (المواطنة) المؤسس على أنه لا فر بين مواطن وآخر إلاّ بعمله وليس بديانته أو موقعه الطبقى أو منصبه الوظيفى . وعدالة التوزيع هذه لها شروط واجبة كى تتحقق مثل : نظام ضريبى يُراعى مستوى الدخول ، فكلما ارتفع معدل الدخل للفرد ، كلما ارتفعتْ نسبة الضريبة المستحقة عليه ، وهو ما أخذ التوصيف الشائع (الضريبة التصاعدية) وقد حكتْ لى الصديقة د. مرفت عبدالناصر التى عاشت فى لندن أكثر من 30سنة أنّ نسبة الضرائب المخصومة من راتبها وصلتْ إلى 65% مع ملاحظة أنها لا تعمل فى أى نشاط تجارى أو استثمارى إلخ وإنما أستاذة فى إحدى الجامعات الإنجليزية. ورغم ذلك لم تشعر ( لا هى ولا غيرها – سواء إنجليز أصليين أو وافدين ) بالاستياء أو الغضب ، والسبب هو أنّ هذه الضرائب المرتفعة المخصومة من رواتبهم تعود عليهم فى شكل خدمات أساسية (رعاية صحية شاملة ، مجانية التعليم للمرحلة قبل الجامعية ، مستوى حضارى للنظافة وللمواصلات إلخ ) ولكن أهم نتيجة من نتائج (عدالة توزيع الناتج القومى) هى شعور المواطن بالانتماء للوطن الذى وفـّر له حياة إنسانية كريمة. هذه الحياة الإنسانية الكريمة توئد ( وفق علم النفس الاجتماعى) نوازع الشر بدرجة ملحوظة ، لذا تكاد تختفى نوازع الحقد التى يُسبّبها التفاوت الكبير بين طبقات الشعب الواحد فى هذه المجتمعات ، وفى نفس الوقت تحد من مظاهر الفساد مثل سرقة المال العام أو الرشوة أو الاختلاس إلخ.
هذه المنظومة السياسية فى الدول المؤمنة بالحداثة فى العصر الحديث ، هى التى حققتْ الاستقرار الاجتماعى ، وهنا يبرز السؤال الجوهرى : هل كان من المُمكن تحقيق (الحداثة) سواء فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية أو حرية الفكر وحرية البحث العلمى ، بغير الإيمان بالديمقراطية ؟
الديمقراطية وفق التعريف العلمى السائد منذ اليونان القديمة حتى عصرنا الحالى ، تعنى حكم الشعب بالشعب لصالح الشعب . وتفكيك (أو تفسير هذه الجملة) معناه أنّ ولاء من يحكمون لابد أنْ يكون للشعب الذى انتخبهم دون تفرقة. وإذا أخلّ الحكام بذاك العقد الاجتماعى يتم فسخ العقد تلقائيًا من جانب الشعب ، فكلمة الديمقراطية مُركبة من كلمتيْن يونانيتيْن : ديموس أى الشعب ، وكراتس أى الحكم ، ومعناها حكومة الشعب . ورغم أنّ هذا المصطلح نشأ فى اليونان القديمة ، فإنّ التطبيق العملى له لم يكن ديمقراطيًا ، إذْ كانت الحكومات يترأسها ذوى النفوذ المالى والسياسى من الأقلية ، وبالتالى فإنّ المشاركة فى الحياة السياسية احتكرته تلك الأقلية.
وإذا كانت الديمقراطية تعنى الحرية بشقيها (الفردى والسياسى) نجد أنّ تجربة اليونان القديمة لم تلتزم بتلك الحرية بين مواطنيها ، إذْ اقتصر مصطلح الشعب على الأثينيين مع استبعاد العبيد والنساء (حتى اليونانيات) ونظرًا لسيادة منظومة (سيد / عبد) تعرّض الفيلسوف أفلاطون للاضطهاد فى عهد حكم الطغاة من ديونسيوس الأول إلى ديونسيوس الثانى أو الابن . وتطور الأمر إلى درجة تعرضه للبيع فى سوق العبيد لولا أنْ تعرّف عليه أحد تلامذته فاشتراه وأعتقه. ولم تكن الحرية الشخصية مكفولة (حرية الانتقال وحرمة السكن وحق الأمن إلخ) ومن الممكن نفى أى مواطن لمجرد احتمال وصوله إلى الحكم . كما أنّ حرية الفرد بالمعنى الدقيق ليس لها وجود مثل حرية العقيدة (إعدام الفيلسوف سقراط بتهمة ازدراء الآلهة اليونانية والترويج لآلهة أجنبية مثل الآلهة المصرية- نموذجًا) وكان من رأى الفيلسوف أرسطو أنّ النساء غير مؤهلات للاشتراك فى العمل الديمقراطى . وكان لديه تعصب عرقى يعتمد على التفرقة بين الأجناس ، فنظر إلى اليونان على أنهم أرقى الشعوب. فى حين أنّ (الهمج والبربر) ومنهم شعوب الشرق القديم لايصلح لهم سوى حكم الاستبداد ، إذْ خـُلقوا عبيدًا بطبيعتهم. وكانت أفكارأفلاطون عن عدم المساواة بين اليونانيين أنفسهم وبينهم وغيرهم من الشعوب مثل أفكار أرسطو. ولتأكيد الطغيان والعبودية فى اليونان القديمة ذكرالفقيه الفرنسى ( بارتلمى) فى كتابه (القانون الدستورى) أنّ عدد العبيد بلغ فى مدينة أثينا 200 ألف ، فى حين أنّ عدد المواطنين الأحرار لم يكن يزيد على 20 ألفـًا أى أنّ عدد العبيد بلغ عشرة أمثال عدد المواطنين الأحرار. وجاء فى مدونة (جوستنيان) أنّ عادة أمراء الجيش الرومانى جرتْ على عدم قتل الأسرى (ليس شفقة ورحمة بهم) وإنما لأنه كان يُطبق عليهم نظام (ملك اليمين) أو يُباعون إلى الغير باعتبارهم عبيدًا (مدونة جوستنيان فى الفقه الرومانى– ترجمة عبدالعزيز فهمى- عالم الكتب بيروت) وبلغ عدد العبيد فى الامبراطورية الرومانية عام 34 ق.م 20 مليون إنسان مقابل 214 ألفـًا من المواطنين الأحرار(د. إمام عبد الفتاح إمام- الديمقراطية والوعى السياسى- نهضة مصر- عام 2006- أكثر من صفحة) وفى الثورة التى قادها سبارتاكوس تم صلب ستة آلاف إنسان على الطريق من كابوا Caqua إلى روما بعد النصر الرومانى المُسلح بآلات القتل ، فى مواجهة بشر لم يكن معهم سوى سلاح الاشتياق للحرية والانعتاق من العبودية. وكما رفض الشعب الايطالى والشعب اليونانى فى العصر الحديث منظومة العبودية ، فإنّ شعوب أوروبا (التى استمدت تقدمها من التراث اليونانى) رفضتْ كذلك اجتهادات أرسطو الفلسفية والعلمية والسياسية وتمرّدتْ عليها ، بداية من كوبر نيكوس وجاليليو وجوردانو برونو إلخ .
أما الديمقراطية فى عصر الحداثة المعاصرة بعد تراكم خبرة الشعوب ، فهى تعنى الأخذ بكل الانجاز البشرى من علوم طبيعية ومعارف إنسانية. والانفتاح على كل ثقافات العالم . والاعتراف ب (علمنة مؤسسات الدولة) أى فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية. وترسيخ آليات الليبرالية بشقيها (السياسى – أى تداول السلطة ومحاسبة الحاكم والرقابة على المال العام إلخ ، والفكرى أى حرية الإبداع فى شتى مجالات العلوم الإنسانية ، وحرية البحث العلمى، هنا يكتشف العقل الحر تلك العلاقة العضوية الوثيقة بين الحداثة والديمقراطية. خاصة لو أنّ النظام الحاكم ومعه كل الشعب على درجة رفيعة من الإيمان بمناهضة كل أشكال التمييز الدينى والعرقى واللغوى والثقافى (ليس فى نطاق الوطن الواحد فقط) وإنما على كل البشر فى أى مكان .