قال الله تعالى : - قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى - الشورى 23 .
قال الشيخ الصدوق أبن بابويه في كتابه الإعتقادات ص 111 : إن الله جعل الأجر في الدنيا والأخرة في هذه الآية في مودة أهل البيت ومحبتهم - !!! ، وكأنه يريد في قوله هذا : إن هدف الرسالة وغايتها هو محبة أهل البيت ومودتهم !!!! ، ولهذا ربط الشيخ بين الأجر ومودة أهل البيت !!!! .
وهذا الرأي الذي مال إليه وتبناه رأي متهافت ولا دليل عليه ، بل إنه إتجاه و نزعة جبريه وقدريه تمارس على الفكر وفي الفكر ، وحتى لو تنزلنا وأفترضنا صحة ماذهب إليه الصدوق في هذا الباب ، فإننا سنجد إن ذلك منه معارض ومناقض لسيرة جميع الأنبياء والمرسلين ، فمن نوح إلى محمد نجد إنهم جميعاً قالوا وبلسان واحد : - وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين - الشعراء 109 - .
هذا القول لا إستثناء فيه بين الأنبياء كما ولم يستثنى النبي محمد من هذه القاعدة ، فالله لم يجعل الأجر مرتبط بمحبة أحد من الناس بل جعل الأجر مرتبط بالعمل الصالح ،و حتى الشيخ الصدوق لم يوضح لنا : من أين وكيف أستقى هذا المعنى وفهمه ؟ كما ولم يبين لنا كيف جعل الأجر الإلهي مرتبط ومنحصر في مودة أهل البيت ومحبتهم ؟ !! .
وبما إن رأيه هذا لا يستند على دليل محكم لذلك عارضه وخالفه الشيخ المفيد ، بقوله : - ولا يصح القول بان الأجر كله أو بعضه مرتبط بمودة أهل البيت ، ذلك لأن الأجر مرتبط بالعمل الصالح الذي يتحصل به رضا الله ، كما إن الأجر مرتبط بالعدل والجود والكرم الإلهي - ، لأن الأجر مرتبط بالعمل الخالص لوجه الله ، قال تعالى : - ياقوم لا أسئلكم عليه اجراً ان أجري إلاّ على الذي فطرني - هود 51 .
وهذا يدل على إن ما ذهب إليه الصدوق في هذا الباب معارض لكتاب الله وما جاء فيه ، فالكتاب المجيد ربط الأجر وعلقه بالعمل الصالح - مطلق العمل الصالح - ولم يربطه بالأفراد مهما علو - راجع مصنفات المفيد ج5 ص 140 - .
وللتنبيه أقول : إن الشيخ الصدوق رجل إخباري يعتمد على الأخبار والروايات في فهم نصوص الكتاب ، بل جعل من هذه الأخبار حجة على الكتاب ، ورأيه في قضية المودة مستمد من هذه الأخبار التي تتحدث عن المودة ، بحيث جعل منها الأساس في الأجر و الثواب ، ولو أستعرضنا بعض هذه الأخبار لوجدنا إعتقادات الصدوق وفقهه واضحة في ذلك ومن هذه الأخبار مايلي :
1 - ما رواه البرقي في كتابه المحاسن عن : محمد بن مسلم قال : - سمعت أبا عبدالله الصادق يقول ... أبى الله إلاّ ان يجعل حُبنا مفترضاً اخذه من أخذه وتركه من تركه واجباً ، فقال : - قل لا أسئلكم عليه اجراً إلاّ المودة في القربى – نور القلين ج4 ص 571 الحديث رقم 61 - .
2 - وما رواه البرقي في المحاسن أيضاً عن : عبدالله بن عجلان قال : - سألت أباجعفر الباقر عن قول الله - قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى - قال : هم الائمة - نور القلين ج4 ص 571 حديث 64 - .
3 - وما رواه البرقي في المحاسن عن اسماعيل بن عبد الخالق قال : قال الإمام الصادق ، ما يقول أهل البصرة في هذه الآية (( قُل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى )) ؟ قلت : إنهم يقولون : إنها لإ قارب رسول الله ، قال : كذبوا ، إنما نزلت فينا خاصةٍ أهل البيت في علي وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء - محاسن البرقي الحديث رقم 65 - .
4 - وما رواه البرقي في المحاسن عن أبن عباس إنه قال : لما نزلت (( قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى )) قالوا : يارسول الله ! من هؤلاء الذين امرنا الله بمودتهم ؟ قال : علي وفاطمة وولدها - محاسن البرقي الحديث رقم 68 - .
5 - وما رواه البرقي أيضاً في المحاسن ، قال خطب الإمام الحسن يوماً فقال : أنا من أهل البيت الذين أفترض الله مودتهم على كل مسلم ، فقال : - قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى - محاسن البرقي الحديث رقم 71 - .
وقبل الخوض في دلالة هذه الأخبار ومعناها لابد من التنويه إلى التالي :
في المدرسة الإسلامية القديمة هناك إتجاهين في الفكر :
الإتجاه الأول : جعل من الأخبار حاكمة على نصوص الكتاب المجيد ، وبغض النظر عن مخالفة هذه الأخبار لنصوص الكتاب أو لا .
والإتجاه الثاني : يجعل من الكتاب المجيد هو الأصل وهو الميزان الذي على ضوءه تُعرف قيمة الأخبار وأهميتها وصحتها ، من خلال عرض تلك الأخبار على الكتاب فإذا كانت موافقة له أخذ بها وإن خالفته ضُرب بها عرض الجدار .
والشيخ الصدوق هو من أنصار الإتجاه الأول ، لذلك جعل من هذه الأخبار حاكمة على الكتاب سواء في المخالفة أو في الموافقة ، وحين تقول الأخبار مثلاً : إن شهر رمضان ثلاثين يوماً ، أُخذ هذا عن الإمام الصادق حين قال : شهر رمضان ثلاثون يوماً لقول الله - ولتكملوا العدة - ، ولقول إبي بصير : سألت الإمام الصادق عن معنى قول الله تعالى - ولتكملوا العدة - فقال : ثلاثون يوماً - من لا يحضره الفقيه ج2 ص111 الحديث رقم 4 و 5 - وقد فهم الشيخ الصدوق من ذلك إن معنى - ولتكملوا العدة - يعني ثلاثين يوماً .
وهذا الفهم منه مخالفة صريحة لما ورد في مفهوم النص ، فالنص بحسب سياقه الموضوعي إنما رخص للذين هم مرضى أو على سفر ، أي الذين أفطروا الشهر بعذر شرعي ، قال النص - ولتكملوا العدة - حين تكونوا جاهزين ومستعدين ، والعبارة وردت في هذا السياق : - ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من ايام اخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة - البقرة 185 - ، هذا هو السياق الموضوعي للعبارة في النص ، لكن الأخبار التي أعتبرت معنى العبارة دالة على تمام الشهر أي - ثلاثون يوماً - ، أي إن العدة في لسان الأخبار مفهوم خاص لمعنى - ثلاثون - التي سأل عنها - أبو بصير - .
والحق إن ذلك الفهم والتفسير مخالف لما يريده النص ، كما إنه مخالف للطبيعة التكوينية في حركة الشهور والأيام ، فالشهر القمري تارة يقع ثلاثين يوماً وتارةً أخرى يكون تسعاً وعشرين يوماً ، وهذ ا التفاوت في عدد أيام الشهور ليس من إختيار وصنع الإنسان .
هي السنة الطبيعية في خلق الكون وفي عدد الشهور والإيام ، والمؤسف إن الشيخ الصدوق أفتى بناءاً على ذلك ، معتبراً الصيام الواجب هو - ثلاثون يوماً - ، قال في كتاب - من لا يحضره الفقيه - كتاب الصوم باب النوادر : - والصيام الواجب في شهر رمضان ثلاثين يوماً - ، وهذه الفتوى قامت على أساس ما فهمه من الأخبار التي هي عنده حاكمة على كتاب الله ، وفي ذلك المعنى إسقاط لحجية الكتاب من الإعتبار .
لكن الشيخ المفيد - رحمه الله - رد على ذلك ، وأعتبر شهر رمضان كسائر الشهور القمرية يقع مرة ثلاثين يوماً ومرة ثانية تسع وعشرين ، وعليه فلايصح جعل مفهوم إكمال العدة يعني الثلاثين ، بل الإكمال هو صيام ما أفطره الإنسان بناءاً على عذر شرعي ورخصة شرعية .
وكما قلنا فإن آية المودة التي جعل منها الشيخ الصدوق محكومة بالأخبار تحدثت عن معنى المودة ولكن في سياق مختلف عما ذهب إليه وفهمه ، وهذا الجعل منه توهين لدور الكتاب وحاكميته وحجيته ، من هنا أعتبر الشيخ المفيد ماذهب إليه الشيخ الصدوق في هذا المجال غير صحيح ولا يستند على المنطق الشرعي والعلمي الرصين ، قال المفيد : إن الخبر الواحد لا يوجب علماً ولا عملاً .
إذن فنحن أمام وجهتي نظر مختلفتين الأولى تجعل من الخبر أساس الحكم ، والثانية تجعل من الكتاب أساس الحكم والعقل هو الدليل على ذلك ، ولكي نبين أيهما أدق وأوثق نقوم بما هو آت ونقول :
أولاً : الآيات المحكمات في الكتاب المجيد هي الآيات الثابتة الحجية والمستقلة الدليل ، أي إنها لا تحتاج في فهمها ولا في فهم دلالتها إلى الأخبار والروايات ، ولعل هذا ما أشار إليه حديث الثقلين الذائع الصيت في معنى إستقلال الكتاب في الدلالة والحجية ، والأخبار هي الثقل الآخر المؤيد للكتاب في المعنى وفي الدلالة لا في إسقاط الحجيه و الإعتبار .
وثانياً : إن الأخبار هي نفسها التي قالت بوجوب عرضها على كتاب الله فإن وافقته أخذنا بها وإن خالفته رددناها ، وهذا دليل على أن حجية الكتاب ودلالته مستقلة وثابته ولا تحتاج إلى الأخبار في ذلك ، فلو أراد أحدا تفسير آية المودة يجب عليه إتباع المعايير العلمية المستقلة في تحليل وإدراك معناها ، و ليس بالضرورة فهم معناها بالرجوع إلى الأخبار .
وثالثاً : كثيراً ما نسمع من يقول إن تفسير آية المودة من غير الرجوع إلى الأخبار هو تفسير وإتباع للعامة في ذلك !! ، ولكن التفسير بحسب الأخبار هو جعل وإعتبار لحاكميتها على الكتاب المجيد ، وهذا هو مذهب الأخباريين الذين جعلوا من نصوص الكتاب وحجيتها محكومة بالأخبار أو تحت رحمتها ، نعم هذا اللون من التفكير يمارسه البعض من رجال الدين وإن لم يتسموا بمذهب الأخباريين ، لكنهم بالفكر وبالممارسة يتخذون من المذهب الإخباري منهجاً وسلوكاً .
ورابعاً : إن بعض أخبار آية المودة ضعيفة السند و لا تصلح حتى في إثبات حكم إستحبابي ، وبعضها الأخر مضطرب العبارة مشوش المعنى ، وبعضها من الأخبار الموضوعة التي جاء بها الغلاة لأغراضهم السياسية ، وفي تفسير نور الثقلين ج4 ص 574 و تفسير البرهان ج4 ص 123 الشيء الكثير من هذه الأخبار والتي شغلت نحو 13 صفحة من كتاب بحار الأنوار للمجلسي .
ولكن هل إن آية المودة هي مكية أم مدنية ؟
هذا السؤال نجده لازم في معرفتنا للجو وللظرف الموضوعي الذي تحركت فيه وخاطبته ، كما إنها معرفة مفيدة في فهم دلالة الآية ومعناها ، إن معرفة آية المودة في كونها مكية أو مدنية يعني معرفتنا للأرضية المعرفية والجو الذي جاءت فيه ومن أجله ، أعني هل جاءت لتتحدث مع المشركين من أهل مكة أم إنها جاءت لتتحدث مع المسلمين من أهل المدينة ؟ هذه المعرفة مهمة في تحديد نوع الخطاب ومايريد الإبلاغ عنه وتحقيقه ، ونحن نقول :
1 - إن هذه الآية إنما وردت في سورة الشورى التي هي بإتفاق المفسرين إنها سورة مكية أي إنها نزلت في مكة ، ولا يمكننا هنا أن نجزء هذه الآية فنقول : إن هذا الجزء منها مدني والباقي مكي من غير إثبات ودليل قطعي محكم ، أي إنه لايمكننا القول إن هذا الجزء في قوله تعالى : - قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى - مدني وباقي عموم الآية مكي من غير أن نأتي بالدليل !!! .
2 - ثم إن أبن عباس كان يقول إن قوله تعالى - قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى - نزل في مكة - الدر المنثور ج7 ص346 .
3 - وجاء في جوامع الجامع للطبرسي قوله : - رُوي إن المشركين قالوا فيما بينهم : أترون ان محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً ؟ فنزلت - قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى - جوامع الجامع في تفسير آية المودة - ، يظهر من هذا القول إن الكلام هذا دار في مكة وبين مشركيها ولم يدر بين المسلمين ، فالجو الذي نزلت فيه هذه الآية إنما لتبين لهم معنى الأجر الذي يستهدفه ويطلبه .
4 - وبالنظر لماقبل ومابعد هذه الآية أعني للظرف الموضوعي الذي نزلت فيه ، نجد التالي فقد جاء بعدها قوله تعالى: - أم يقولون أفترى على الله كذباً - وجاء قبلها قوله تعالى: - أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله .- وفي كلا الحالين دعوة لمشركي مكة بالدخول في الإسلام ، وآية المودة كذلك تتحدث عن كفار قريش أي إنها نزلت في مكة وليس في المدنية نزلت قبل الهجرة .
5 - كما إن جميع الآيات التي تحدثت بلسان الأنبياء الأخرين عن مفهوم الأجر ، كان الكلام فيها يجري مع الكفار ، في بيان صفة الأجر ومعناه ، هكذا تتحدث سورة الشعراء 109 في قول نوح ، وفي قول هود 127 ، و قول صالح 145 ، وقول لوط 164 ، وقول شعيب 180 ، وجميعهم قالوا : - وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على رب العالمين - ونفس الشيء نقرءه في سورة يس 21 عن الرجل الصالح حين خاطب الكفار بقوله - اتبعوا من لا يسئلكم أجراً وهم مهتدون - وفي يوسف 104 قوله - وما تسئلهم عليه من أجر إن هو إلاّ ذكر للعالمين - ، وكذا في سبأ والأنعام والفرقان والطور ، الخطاب أبداً لم يكن للمسلمين بل مع المشركين ، هو خطاب من أجل الدعوة إلى الإسلام وليس لحب الأشخاص والأقوام .
يتبع