ما فعلته حركات الاحتجاج الاجتماعية في العالم العربي هو فتح القلاع الاوتوقراطية، التي تذكرنا مداخلها ببوابات الحديد المسنن التي تحمي قلاع الامراء القروسطيين في اوربا.
هذا الفتح انجاز عملاق بكل المقاييس. والخشية من الغيلان القابعة وراءه لا يبرر الاحجام عن او التردد في قلع الابواب، او الندم عليه.
فالقضية الكبرى المطروحة على جدول العمل التاريخي هو فك النظام الاحادي، الاحتكاري، المغلق، اي ارساء تعددية مفتوحة، وحماية اساسها: الديمقراطية الحديثة.
اخطأ اليسار كثيرا في اعطاء الاولوية، قبل فك هذه الاحادية، الى مواجهة الاصولية، ما اوصله احيانا الى السكوت عن بلايا الاوتوقراطية، او التردد في تحديها، او (احيانا) القبول الصامت بها. لم يكن الهم اللازم هو المفاضلة بين استبداد علماني، واصولية مهووسة بالفروج واللحي، على قاعدة ان كليهما مستبد، او لاديمقراطي. الهم الحقيقي هو فك الاستبداد نفسه.
التوقع بان يغنم الاسلاميون، المتطرفون واشباه المتطرفين، او "المعتدلين" (زعما) مكاسب سياسية كبرى من حركة الشباب لم يجانب ولن يجانب الصواب. فحركة الشباب تمثل فاعلية جيل واسع، والجيل ليس طبقة متماسكة، ولا حزبا. ولما كانت النظم القومية قد حطمت الحركات اليسارية والليبرالية، او دجنتها، فمن الطبيعي ان تملأ الساحة قوى تقليدية، محافظة، من شتى الالوان.
فتح القلعة الاوتوقراطية، الخطوة الاهم، ينطوي على نقلة تاريخية لا تخطئها العين: انها لحظة اكتشاف المجتمع لقوته الذاتية، قدرته الدفينة على تحدي الدولة. انها فاعلية المجتمع المغيب في توكيد حضوره بازاء دولة بدت (حتى الان) كلية القدرة. وبذا يدخل العالم العربي، لاول مرة، فكرة ان الدولة هي نتاج الامة، لا العكس.
كما ان هذه النقلة التاريخية تفضي، لاول مرة، الى صراع مكشوف، حي، دفاق لكل الاراء، لكل المصالح، المتضاربة لا محالة، تاركة وراءها لحظة الواحدية الايديولوجية، واوهامها عن امة بصوت واحد، ولباس واحد، مثل قطيع خراف ممتثل.
بعد تحطيم البوابات تبدأ بل بدأت معركة اخرى، كبرى هي ايضا، بين الاسلمة التي يرفعها الاصوليون شعارا، والديمقراطية الحديثة التي يتشوف اليها كل من عداهم. في الماضي كان هذا الصراع يخاض بتوسط الدولة، اي بوسائل الاكراه الجسدي والفكري، اليوم تخاض المعركة على المكشوف، بوسائل فكرية، ووسائط سياسية (الانتخابات)، وغيرها من الادوات الحضارية، السلمية بالتعريف. امام الربيع العربي، اذن، ربيع اخر، بعناصر تصادم اصولية وحداثية.
الاصولية الاسلامية في المنطقة قدمت حتى الان نموذجين: النموذج التركي، الوسطي، المنفتح، المعتدل، والنموذج الايراني، الثيوقراطي، المتشدد، المنغلق. في الاول ديمقراطية تعددية حديثة، وفي الثاني استبداد قروسطي. الاصوليات العربية تقع بين الاثنين، وفيها حواشي تميل فكرا وممارسة وجهة اسطنبول، وحواشي تميل فكرا وممارسة وجهة ايران.
الاسلاموية التركية لم تولد وسطية، معتدلة. فلولا مقاومة الحداثيين لانتهت تركيا الى مآل غير ديمقراطي. ولولا اوهام الديمقراطيين واليساريين حول ما اسموه "خط الامام"، لما آلت ايران الى ثيوقراطية فرد مطلق.
وعلى حركات الشباب، وحركات اليسار، وحركات الديمقراطيين، ان تعي هذا الدرس التاريخي، بدل ان تدير الظهر الى الربيع العربي، بحجة مآل اسلامي غير حميد، او بدل ان تندب الحظ على قوة الاسلاميين المالية، وتوفرهم على بنية تحتية جاهزة (شبكات جوامع) و، و....
فاذا كان اسلاميو تونس حصدوا 40% من المقاعد، وهي اغلبية كبيرة (لكنها ليست مطلقة) فان 60% لا يتفقون معهم، في اقل تقدير. وقس على ذلك.
ثورات الاحتجاج الكبرى، التي خرجت من وصاية العسكر (على خلاف حركات الاحتجاج في النصف الثاني من القرن العشرين)، لم تنته ولن تنتهي عند حد تفكيك النظام السابق. فامامها مسار طويل لارساء ديمقراطية حديثة. وتنتصب امام الاسلاميين، عقلانيين، او انصاف عقلانيين، او لاعقلانيين، ورطة كبيرة غائبة عن مجال الرؤية، عندهم كما عند الاخرين. غائبة عندهم بسبب النجاح الذاهل عن مطبات الفشل المحتمل مستقبلا، وغائبة عند منافسيهم بسبب مرارة الفشل الذاهل عن امكانات النجاح الممكن مستقبلا.
والمطب هو هذا: ليس لدى الاسلاميين من برنامج سوى الشعار العريض: الاسلام هو الحل، او شعار تطبيق الشريعة. ان فهم الاسلاميين لماهية الدين ومراميه، وتاريخه وتراثه قد جعلت من هذا الفهم مشكلة وليس حلا. كما ان كلمة الشريعة السحرية بكل المقاييس، تبدو عند التعريف الدقيق، على لسان اصحابها، تهويمات مجردة، اذا ما نظرنا اليها من زاوية السياسة العملية في مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
احد قادة "السلفيين" في مصر، عرّف الشريعة مثلا بانها تقوم على الحق والعدل. والحق مفهوم مجرد، شأن العدل، بازاء واقع تضارب الحقوق في مجتمع منقسم، شأن اي جماعة بشرية، الى جماعات ومصالح ذات حقوق او ادعاءات حقوق متضاربة. وما يصح على مفهوم الحق، يصح على مفهوم العدل. فهذه المفردات القرآنية الجليلة، المسلوخة عن السياق التاريخي المحدد لمحتواها، تتحول الى مجرد كلمات.
لقد دخل الاسلام السياسي، او الاصولية الاسلامية، مأزقا تاريخيا منذ ان تبنى سيد قطب شعار "الحاكمية لله" الذي استعاره من الباكستاني (ابو الاعلى المودودي)، جاعلا من الديمقراطية، والليبرالية، والفردية، اصناما جاهلية. ويتكرر هذا الادعاء الايديولوجي امام انظارنا اليوم، بصيغ شتى، في تونس ومصر، وليبيا.
المفارقة ان الاصوليين يلتمسون الديمقراطية، التي اعلنوها صنما، لكيما يضمنوا حرية القول والعمل لانفسهم، لكن هذا الحق في حرية القول والعمل مضمون ايضا لغيرهم، شاؤوا ام ابوا. والليبرالية، التي تعني مذهب الاقتصاد الحر، هي ممارسة يومية لكل رجال الاعمال الاسلاميين (وغير الاسلاميين) رغم انهم اعلنوها صنما. وهلمجرا. ثمة افتراق الممارسة عن الايديولوجيا.
وهنا نصل الى نقطة حاسمة بالعودة الى المثال التركي. لم يكن الاسلاميون الترك مختلفين في ايديولوجيتهم عن نظرائهم العرب. لكنهم تعلموا، عند الوصول الى سدة الحكم، انهم اذا ارادوا الاستمرار سياسيا فان عليهم الانتحار ايديولوجيا. وهذا ما فعلوه. ففي اسطنبول لن يجد المرء دور سينما مختومة بالشمع الاحمر، ولن يجد ملتحين يهاجمون صالونات حلاقة النساء، او البارات الليلية. ولن يرى بوليسا يطارد النساء لفرض الحجاب، والفصل بين الجنسين، وهي كلها ثيمات محببة، واصلية في ايديولوجيا الاسلاميين العرب، بوجه عام، بعد ان اختزلوا كل مشكلات المجتمع في فرج الانثى وشعرها، وما بينهما او تحتهما، مثلما اختزلوا مشكلة الخواء الحضاري العربي الى وجود محلات بيع الخمور، ودور السينما، وروايات ادبية (من طراز اولاد حارتنا لنجيب محفوظ)، تشيع "الرذيلة". فهذا المنظور الاخلاقي، المحافظ والضيق، هو جلّ ما يملكون، وهو مسار يقود الى درب مسدود.
* سوسيولوجي عراقي مقيم في بيرو